حضرت مشاهد توحي بالمسرح والسينما والتشكيل: الفنون في تراثنا الشعري

عبد الواحد لؤلؤة
حجم الخط
0

يتسرّع بعض المعلقين في أحكامهم النقدية بقولهم إن تراث الشعر العربي يفتقر إلى معالجة الفنون التشكيلية بأنواعها، كما يفتقر إلى معالجة بعض الموضوعات الدرامية مثل شعر المسرح. ولكن استعراض أمثلة من الشعر الجاهلي امتداداً إلى الشعر الحديث تبيّن وجود أمثلة كثيرة من الشعر العربي التي تعالج الفنون المعروفة في زمانها، وليس من الضروري أن تكون هذه الأمثلة مطابقة أو مشابهة لأمثلة من الشعر في أوروبا وأمريكا.

ولنبدأ بشاعر الجاهلية المخضرم، الحطيئة (ت. 45 هج) ففي قصيدة شهيرة له، يقول:

وطاوي ثلاثٍ عاصب البطن مُرمِلٍ
بتَيهاءَ لم يُعرف بها ساكنٌ رسما
أخي جفوةٍ فيه من الإنس وحشةٌ
يرى البؤسَ فيها من شراسته نُعْما
رأى شبحاً وسْط الظلام فراعَه
فلمّا رأى ضيفاً، تشمّر واهتمّا
وأوردَ في شِعبٍ عجوزاً إزاءها
ثلاثةُ أشباحٍ تخالُهُمُ بهما
حفاةً عراةً ما اغتدَوا خبزَ مَلَّةٍ
ولا عَرَفوا للبُرِّ مُذ خُلقوا طَعما
فبيناهما عنّت عن البعد عانةٌ
قد انتظمت من خلف مِسحلها نَظما
عُطاشى تُريد الماءَ فانسابَ نحوها
وأرسلَ فيها من كنانته سهما
فيا بِشْرَهُ إذ جرّها نحو قومهِ
ويا بِشْرَهم لمّا رأوا كَلْمَها يَدمى

ألا نجد في هذا الوصف شخوصاً مسرحية، بل وسينمائية، وفعلاً عنيفاً، وهو مما يكوّن العمل المسرحي، وكأننا نجد هنا عملاً بالأبعاد الأربعة، وليس الثلاثة، بفعل الصورة المسرحية -السينمائية وتفصيلاتها.

ولنأخذ مثالاً من الشعر في العصر العبّاسيّ في قصيدة البُحتُري (204-284 هج) في وصف بركة المتوكّل:

تنحطّ فيها وفود الماء مُعْجَلَةً
كالخيل خارجةً من حبل مُجريها
كأنّما الفضّة البيضاء سائلةً
من السبائكِ تجري في مجاريها

هنا أيضاً نجد الحركة الدائمة مما يشبه حركة الممثلين على المسرح، إضافة إلى حركة الماء المنسكب في البركة، وهي حركة تذكّر باستمرار الفعل وسرعته في المسرحية.

ولنأخذ مثالاً من الشاعر الصَّنوبَري ( ت. 945 م) في وصف نهر قُوَيق، وهو نهر صغير يتفرّع من الخابور في أعالي سوريا:

قويق إذا شمّ ريح الشتاء
أظهر تيهاً وكِبْراً عجيبا
وإن أقبل الصيف أبصرْتَه
ذليلاً حقيراً حزيناً كئيبا
إذا ما الضفادع نادينه:
قُويقُ، قُويقُ! أبى أن يُجيبا

ألا نجد في هذا نوعاً من السخرية التي نجدها في بعض المسرحيات المعاصرة؟ ولكنها نقلت السخرية من البشر والشخصيات المسرحية إلى النهر الهزيل. والحديث فيه موجّه إلى النهر، وهو الشخصية غير العاقلة، مما يوحي بكلام من السخرية يُمكن أن يوجّه إلى شخص عاقل، وكأنه من نوع الكلام في مسرحية «البورجوازي النبيل» للمسرحي الفرنسي موليير (1622-1673).

ولنأخذ مثالاً آخر من الشعر العباسي كذلك لإبن الرّومي (836-896 م) في وصف جمال الربيع:

يا صاحبيَّ تَقصّيا نظرَيكما
تَرَيا وجوه الأرض كيف تُصوّرُ
تَرَيا نهاراً مُشمِساً قد شابهُ
زهرُ الرُّبى فكأنما هو مُقمرُ

في هذا التشبيه نرى تداخلاً بين أحاسيس الشاعر ومظاهر الطبيعة، مما يذكّر بأوصاف الطبيعة عند الشعراء الرومانسيين الإنكليز في التماهي بين الشاعر والطبيعة.

ولإبن الرومي كذلك قصيدة يصف فيها أحدباً، يقول فيها:

قَصُرتْ أخادِعُه وغاب قَذالُه
فكأنّه مُتربّصٌ أن يُصفعا
وكأنما صُفعت قَفاهُ مرّةً
فأحسّ ثانيةً بها فتجمّعا

ولنأخذ مثالاً من المعرّي (363-449 هج) في قصيدته الشهيرة «غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي» حيث يقول:

ودفينٍ على بقايا دفينٍ
في طويل الأزمان والآبادِ

في هذه الصورة، يستحضر الشاعر اللامحدود في المحدود والآنيّ.

ومن أبي نواس (763-813 م) وهو من أشهر شعراء العصر العباسي على الرغم من تهتّكه واحتفائه بالخمرة. ففي قصيدته الشهيرة «دعْ عنكَ لومي فإن اللوم إغراء» يقول في وصف جارية دارت على ضيوف تقدّم لهم الخمر:

قامت بإبريقها والليل معتكرٌ
فلاحَ من وجهها في البيت لألاءُ
فأرسلتْ من فم الإبريق صافيةً
كأنما أخْذُها بالعين إغفاءُ
رقَّتْ عن الماء حتى ما يلائمها
لطافةً وجفا عن شكلها الماءُ

ألا نجد في دقائق هذا الوصف ما تقصّر عنه بعض أمثلة الوصف في بعض الشعر الحديث؟

ولأبي تمّام قصيدة في وصف ظاهرة طبيعية هي المطر والصحو، حيث يصف نهاراً ممطراً يقول فيه:

مطرٌ يذوب الصَّحوُ منه وبعدَه
صحوٌ يكادُ من الغَضارةِ يُمطرُ

ألا يشعر القارئ بأنه بين المطر والصحو؟ وهذه العبارات تجلب ظواهر الطبيعة قريباً من القارئ، وهو بعض ما يميز الشعر الحديث في احتفائه بالطبيعة.
وعند المتنبي عدد من الأمثلة ذات الطبيعة المتحركة والدرامية، مثل قوله في وصف جيش سيف الدولة الحمداني:

تجمّعَ فيه كلُّ نسلٍ وأُمّةٍ
فما يُفهم الحدّاثَ إلا التراجمُ
هل القلعةُ الحمراءُ تذكر لونَها؟
وتعلمُ أيَّ السّاقيَين الغمائمُ؟

ألا تكاد هذه الصورة أن توحي بالحركة والتنوّع وهو مما يميّز الشعر المسرحي من أيام الإغريق؟
وفي العصور الحديثة، يحضر إلى الذهن شعر نزار قبّاني (1923-1998) ففي قصيدة مشهورة له، بعنوان «وجودية» يقول:

فهي وجوديّة
تعرفها من خُفّها المقطّع الصغير
من قصّة الشعر الغلامية
من خصلةٍ في الليل مرفوعةٍ
وخصلةٍ لله مرميّة.

في هذه القصيدة، كما في كثير من أمثالها، نجد صورة الحركة وسرعتها في بعض الأحيان، مما يوحي إلى القارئ بأن هذا الوصف ليس ساكناً، بل متحركاً، أو عنيفاً أحياناً. وهذه من صفات الشعر المسرحي.
ومن الشعر الحديث كذلك، لا بأس من اختيار مثالٍ من مظفّر النوّاب (1934-2022) ومن الشعر الفصيح على الرغم من أن ثمة أمثلة كثيرة من شعره باللهجة العاميّة. هذا مثال من قصيدة «وتريات ليلية» يقول فيها:

ورأيتُ صبايا فارسَ يغسلن النّهد بماء الصّبح
وينتفض النهد كرأس القطّ من الغسل
أموت بنهدٍ يحكمُ أكثر من كسرى في الليل
أموت بهنّ
تطلّعن بخوف الطير الآمن في الماء
إلى قسوة ظلّي
مَن هذا المتَسَرْبِلُ بالليل بكلّ زهور النخل؟
تتأجّج فيه الشّهوة من رؤيا النّخل الحامل في الليل
شبقاً في لحم المرأة
كالسيف العذب الفحل؟
مَن هذا الماسكُ كلَّ زمام الأنهار
يسيل على الغربات كعُري الصّبح
يراوغ كلَّ الطرقات المألوفة في جنّات الملح
يواجه ذئبيّة هذا العالم
لا يحملُ سكّيناً؟
يا أبواب بساتين الأهواز، أموت حنينا

هنا كذلك، نجد الصفة الدرامية، بما فيها من حركة، وصورة الماء والصبايا وهن يغتسلن بماء الصبح.
وعند الشاعر الكبير، سعيد عقل (1911-2014) نجده على الرغم من تقدّمه في السنّ، ما يزال يكتب الشعر وكأنه في العشرينات من عمره. مما استهوى عدداً من المغنين والموسيقيين المعاصرين له، وأبرزهم فيروز والأخوين رحباني. ففي قصيدة «بغداد» يستحضر ماضي بغداد الحضاري الذي ألقت عليه فيروز من روائع اللحن في غناء من تلحين الأخوين رحباني:

بغدادُ والشعراءُ والصورُ
ذهبُ الزمان وضوعُه العطِرُ
يا ألفَ ليلة، يا مكمَّلةَ الـ
أعراس، يغسلُ وجهكِ القمرُ

بغدادُ هل مجدٌ ورائعةٌ
كان منكِ إليهما سفرُ
بغداد أنتِ المجدُ طلعتهُ
أنّى يحطّ جناحَه المطرُ

أنا جئتُ من لبنان من وطنٍ
إن لاعَبتْه الريحُ تنكسرُ
صيفاً ولونَ الثلج حمّلني
وأرَقَّ ما يندى به الزَّهَرُ

يا مَن يواجدُني وينكرُني
حذراً، وإن طريقَنا الحذرُ
بيني وبينك ليس من عتبٍ
حُيّيتَ تنكرُني وتعتذرُ

أنا لوعةُ الشعراء غربتُهم
وجميع ما نظموا وما نثروا
أنا حبُّ أهل الأرض يزرعني
وترٌ هنا، ويشيلُ بي وترُ

عيناكِ يا بغدادُ أغنيةٌ
يَغنى الوجودُ بها ويختصرُ
لم يُذكرِ الأحرارُ في وطنٍ
إلاّ وأهلوكِ الأُلى ذُكروا

هنا نجد التماهي بين الشاعر وموضوعه، وهو هنا يتغنى ببغداد وماضيها وحاضرها معاً. وهو من ميزات الشعر الرومانسي في أحلى أمثلته.
أليس في هذا كلّه من دليل على أن الشعر العربي لا يفتقر إلى الشحنات الرومانسية وإلى الحركة السريعة في بعض الأحيان؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية