ملاحقة الطبيعي أعطت الشعر الغنائي الرومانسي شكله: الشاعر الإنكليزي جون كيتس وقصيدته «إلى الخريف»

 عبد الواحد لؤلؤة
حجم الخط
0

1

يا فصلَ الضباب والإثمار اليانع/الخَدينَ القريبَ للشمس المُنضِجة/متآمراً معها لكي تُثقِل وتبارك/ بالثمار العرائشَ الدائرة حول السقائف المسائية/ وأن تُثقِل بالتفاح أشجارَ الكوخ المُطَحلَبة/ وتملأ جميع الثمار بالنضج حتى الأعماق؛/وتنفخ اليقطين وتُسمِّن حبّات البندق/ بحلو اللُباب؛ لتُبرعم/ ولمزيد منه، لزهورٍ متأخِّرة للنحل/ حتى يحسَبنَ أن الأيام الدافئة لا نهاية لها،/لأن الصيف قد ملأ خلاياهن الدَبِقة حتى طفحت./

2

من الذي لم يرَكَ غالبا وَسْطَ إهرائِك؟
وأحيانا من يبحث عنك خارجها قد يَجِدُك
جالساً بلا مبالاة على أرضية الإهراء،
وشَعرُك مرفوعٌ قليلاً بالريح الهَبوب،
أو عند جزء نصف محصود، غارقاً في النوم
مخدّراً بروائح الشقائق ومنجلك
قد توقّف دون الحَصدة اللاحقة وجميع ما فيها من زهور؛
وأحياناً، مثل لاقطات الحصيد، تحافظ على توازن
رأسِكَ المثقل عند عبور الجداول؛
أو عند مَعصَرة التفاح، بنظرةِ صَبور،
تراقب العَصَرات الأخيرة، ساعة بعد ساعة.

3

أين أغنيات الربيع؟ بلى، أين هنَ؟
لا تُفكِّر بهن. فأنت أيضا لكَ موسيقاك-
عندما تُزهِّر الغيومُ المتقاطعة النهارَ المتحدِّر للغروب
وتمسح السهوبَ بزاهر الألوان
وتنتحبُ صغار الهوام بجوقة أحزان
بين صفصافات الشواطئ السامقات،
أو غائصاتٍ مع اشتداد الريح أو خفوتها.
ويتسللُ ثُغاء الحِملان من التلال القريبة،
يصوِّت صرّارُ الليل، وبنغمة ناعمة
يصَفِّر العصفور الأحمر من خميلةٍ قريبة
وتبدأ جموع السنونو بالتغريد في الآفاق.

19-9-1819

هذه واحدة من عدد من القصائد التي كتبها كِيتْسْ، وتبدأ بعبارة، إلى، مثل، إلى الخمول، وأمثالها. وتقع هذه القصائد وجميع ما كتب كيتس تحت عنوان الرومانسية. وهذه كلمة غير واضحة المعالم تماماً لدى كثير من القراء. وبشكل عام، تفيد هذه الكلمة الابتعاد عن الأسلوب الكلاسيّ في الكتابة باتّباع الأعمال الكبرى في التراث الإغريقي واللاتيني. وقد تطوّر المعنى في عدد من البلاد الأوروبية ولكن يبقى المعنى الرئيس هو اتّباع المشاعر الشخصية تجاه المظاهر الطبيعية والرّبط بينها وبين الشاعر، وهذا ما نجده بشكل واضح في قصيدة «إلى الخريف».
فالقصيدة تتابع تطوّر فصل الخريف كما يراه الشاعر من بداية النضج في الفواكه حتى موسم القطاف. وهي، بشكل خاص، ترمز إلى نهاية الحياة في صورة القطاف. وبمعنى آخر، تصوّر القصيدة الوعي بالموت، اعتماداً على صور شديدة الحسّيّة، فقد عاش الشاعر كيتس من 1795 إلى 1821 وفي أُخريات أيامه، كان شديد الإلحاح على فصل الخريف أن يستمر لينشر الحب في الطبيعة كما يتمنّاها. وفي هذا إشارة إلى عبارة يكثر اقتطافها، تقول: «رومانسي، ذلك الذي يصوّر مسألةً عاطفية في شكل خيالي». وتعود فكرة الرومانسية في أول استعمالها إلى الأخوين شْلَيكل في ألمانيا، في نهايات القرن الثامن عشر، ويقوم الأدب الرومانسي، وفي الشعر خاصة، على إعمال الخيال والعاطفة، فقد كتب الشاعر إلى أخيه، جورج، بتاريخ 18 أيلول/سبتمبر، يقول: «أنا أصف ما أتخيّل». وقد تكون هذه وسيلة الفن الرومانسي الصحيح جميعاً الذي تكون أسمى غاياته أن يصف العالم بطريقة يغدو فيها اللامحدود في المحدود، والمثالي في الواقعي، متكشّفاً بجميع جماله. فالشاعر الرومانسي يكون دائم الشعور بحلول المثالي في الواقعي، وهو ما نجده في قصيدة «إلى الخريف» وفي بكائية الشاعر شَلِي، بعنوان «الخريف». وقد تحوّلت وظيفة الصور بشكل جذري من موقعها الهامشي في قصيدة القرن الثامن عشر، كنوع من الزينة، إلى منزلة مسيطرة في الشعر الرومانسي كناقل فاعل للمعنى. ونجد مثالاً شديد الوضوح في استعمال الصور هذا عند الشاعر بْلَيكْ في «أغاني البراءة وأغاني الخبرة» حيث تُستقطَر الفكرة الجوهرية في روعة لتنسج شبكة من الصور الثرّة:

«يا وردة، أنتِ عليلة/الدّبيب غير المنظور/الذي يهوّم في الليل/في العاصفة العاوية/قد اكتشف مقامك/القرمزي الفرح/: فعاد حبّه المعتَّم الخفيّ/يتلف منكِ الحياة».
تقول لنا هذه الصورة المرعبة عن الوردة العليلة، بطريقة المجاز الصّرف، عن حالة الخبرة أكثر مما يقوله أي قدر من التعليق الصريح. ولهذا السبب، ولأنها في الواقع الطريقة الوحيدة لتوصيل شيء من رؤاهم الخيالية، كان الرومانسيون يعودون دائماً إلى الصور الرمزية التي تتراوح بين صور مألوفة، واضحة نسبياً، مثل المعزف كشعار للعملية الشعرية عند كولَرِج، أو «النسيم المُوصِل» عند شَلِي، ووردزورث، وبايرن، كعلامة على الفاعلية الروحية، وبين الصور الفريدة عند بْلَيك، مثلاً. والشعر الرومانسي يدين بالكثير من سحره إلى الاستعمال الأصيل للصور الرمزية.
وقد يريد بعض الباحثين المقارنة بين لامارتِين في قصيدته، «الخريف» وبين كيتس في «قصيدة إلى الخريف» لكن الفرق يتضح بجلاء بين المقترب الذاتي: فقصيدة لامارتين مغرقة في الذاتية، تتركز كلياً على مزاجه الخاص كما تعكسه الطبيعة وحسب، بينما يقدّم كيتس ما يستحضر صورة ذلك الفصل بشكل واقعي ومغرق في الخيال في آنٍ معاً، حينما ينقل صورة من مشاعره الخاصة.
كانت ملاحقة الطبيعي مهمة كذلك في إعطاء الشعر الغنائي الرومانسي شكله، مما ترك أثره على الموضوع واللغة معاً. فعلى النقيض من الأناقة والظرف عند كتّاب العصر الأوكستيّ (أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر). يذهب وردزورث، مؤسس الحركة الرومانسية في الشعر الإنكليزي، إلى القول إن الشاعر «عليه أن يختار حوادث ومواقف من مألوف الحياة، ويقدّمها جهد الإمكان في لغة منتقاة مما يستعمله الناس فعلاً».
وقد انتشرت الحركة الرومانسية في عموم أوروبا، وخصوصاً في إيطاليا وإسبانيا، ثم في بولندا وروسيا، وفي الدنمارك وفي أمريكا. ويتضح من هذا لماذا لا يمكن صياغة تعريف واحد بسيط للرومانسية يفي بشموله جميع الكتّاب المرتبطين بها.
مشكلة العلاقة بين الرومانسي وبين الكلاسي والواقعي هي مما يرافق صعوبة تعريف هذه المصطلحات. ولأن ثمة القليل من الاتفاق حول معنى الرومانسي، يكون من الطبيعي اختلاف الآراء حول النقيض الفعلي لتلك الكلمة. ونحن نجد كلاسي وواقعي تستعملان كنقيض لكلمة رومانسي. وكلمة كلاسي في الواقع تكاد تكون محيّرة بقدر كلمة رومانسي. يرى أحد النقّاد أن يضع الكلمتين قبالة بعضهما بوصفهما رمزين لميول معينة من الحساسية. ويرى آخر أن الكلمتين تمثّلان توتّراً سائداً من الميول: «الانقباض والانبساط في القلب البشري عبر التاريخ». كما يرى أن الرومانسية «تمثّل أحلام البشر» في أعمال تكون فيها «الروح أكثر أهمية من الشكل». بينما الكلاسية «تمثّل توفيقاً وتوازناً» وبهذا المعنى تمتلك «اكتمالاً في الشكل».
وأحسب من المشروع القول إنه إذا كانت الكلاسية حالة الكمال من التناسق المتّزن، فإنها يجب أن تضم كذلك عنصراً من الرومانسية. وبعبارة أُخرى، أن الكلاسية، كتوفيق مثالي، تُؤآلِف بين نقيضين: الرومانسية والواقعية. وهذا لا يُبطل بحال القول بإن الحركة الرومانسية قد نشأت جزئياً كرد فعل ضد الكلاسية المُحدثة في القرن السابع عشر. هذه الكلاسية المحدثة هي ما يكون ماثلاً في أذهان الكثير من النقّاد عندما يقابلون كلمتي كلاسي ورومانسي. فعندما يدرس الناقد مَورَو في كتابه «كلاسيّة الرومانسيين» (باريس، 1923) يشير إلى استمرار الأساليب الشعرية الكلاسيّة المُحدثة في كتابات الرومانسيين.

***

لستُ أدري كم من هذا التحليل يعني شيئاً عند القارئ العربي، فنحن نقرأ الشعر ونستمتع به دون النظر إلى ما وراءه من نظريات أو تحليلات، ولكن نقول إن الشعر يعجبنا أو لا يعجبنا، ولستُ أدري إن كان هذا الكلام يحمل تجديفاً في رأي الناقد العربي المعاصر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية