«قمر غريب فوق صانع النايات» مجموعة الشاعر الفلسطيني خالد جمعة: الشّعر في ذئبية التعرية من الأوهام

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

يصعُب الشعر على مَنْ تَعَمّدَ كتابته، إذ يقتلُ العقلُ الإحساسَ، والشعرَ إن احتلَ كامل المساحة؛ في مماثلةِ أنه لا يوجد سكون بغيرِ حركةٍ، ولا حياةَ بغير الموت، ولا حقيقةَ إلا مع الكذب، لا نهارَ من دون ليلٍ، ولا حَمَلَ من دون ذئبٍ، ولا متعةَ من دون ألمٍ؛ وفي النهاية لا معنى للجنّة بغير الجحيم. ومن كان، في المفهوم الصوفيّ ومفاهيم نهاية الواقع والزمن، ماضياً ويكون حاضراً وسوف يكون مستقبلاً، واحداً أحداً، هو الإله الذي لا يُدرَك بأبعاد البشر المحدودة، الكائن اللاكائن والزمنُ اللازمن والمكانُ اللامكان، على مختلف صوَره المتعدّدة، ربّما بسبب هذه المحدودية، لديهم.
كل شيءٍ يعيش بنقيضه، على الأرض كما في السماء لدى هذا المخلوق الخالق الذي يدعى الإنسان، بكوننا الذي يتجلّى بما هو ليس أكثرَ من رملةٍ في محيط التكوين، لدى الشاعر الفلسطينيّ خالد جمعة، في مجموعته العاشرة الجديدة «قمرٌ غريبٌ فوق صانع النايات»، ويدفعُه إلى تعرية أوهام الإنسان عن نفسه، بالشّعر وشطح الخيال الصوفيّ، وذوبانه في الكائنات بحسبان التواضع والنصاعة أنه لن يخرقَ الأرض، ولن يبلغ الجبال طولا، واستقراره وحركته في وجدان القارئ، بكونه: «أنا الذي كنت مغروراً وظننت أنني رملةٌ في هذا الكونِ، قلتَ لي: الكون رملةٌ، فتخيّلت حجمي وبكيتُ، لا بكاء المستصغرِ، بلْ بكاءَ النادمِ على غرورِه».

الشعر/ الذئب:

في مجموعته الشعرية هذه، بتركيزٍ وانفلاتٍ، وانشغالٍ وفعلٍ داخل تفاعلاتها، يستدعي قمرُ خالد جمعة مسألةَ صعوبة أن يتخلّص الشعرُ من سهام الكلمات، بمعانيها ومفاهيمها ومجازاتها، حين تنوش جسدَه وتذوب أو لا تذوب فيه؛ مثلما يصعُبُ عليه تمييز نفسه إن كان لصاً منتحِلاً أم متناصاً أم مجدّداً متمايزاً في خروجه بعد انصهارات الذوبان، عند ارتكابه جرأةَ تحدّي التداخل بنصوص الشعر الصوفي وفلسفة الصوفية في الخفة والتخلّي والتحوّل.
ولا تغيب في هذا عن الذاكرة الأدبية إشكالات ارتكاب الشاعر أدونيس جرأةَ التداخل بنصوص النفّري، في كتابه «تحولات العاشق»، وتأليف الشاعر الناقد كاظم جهاد كتابَ «أدونيس منتحلاً» بالشواهد التي طرحت السؤال القاتل إن كان أدونيس هو مؤلف هذا الكتاب أم النفّري، والأسئلة الأخرى المهمةً حول حدود الانتحال والتناص والتمايز.
وعلى ضوءِ فضةِ قمره، يتكشف للقارئ سعي جمعة للتمايز، وإدراكه لحقيقة الذوبان، كما يبدو في مخالفات المنطق المعتاد بقصائده، وربّما مرَّ عليه إن لم يكن وهو الأرجحُ، قولُ المعلّم شمس التبريزي لتلميذه المحتمل الرّومي حين انتزع كتابه من يده وألقاه في الماء: «تعلّم علْماً لا يمحوه الماء»، وذلك في مقطع النهر من قصيدة «حكاية ناقصة»، حيث:
«النهر كما الأنهار، له حكمتُه ومجراه، وربّما كان النهر الوحيد، حسب معرفة الراوي المحدودة، الذي صبّ في البحر وخرج من الناحية المقابلة، قَطع البحرَ ولم يضِع فيه كالأنهار التي يعرفها الناس، تمدّد كما شاء، ونوّع أسماكَه كما شاء، قال مؤرخ لم يعش طويلاً بعد أن مرّ من هناك: كان هذا نهر لغةٍ، ولم يفهم أحدٌ مقصده، فهم لم يروا في النهر يوماً إلا ماءً يبلل أقدامهم حين يخوضون فيه».
ويؤكد ذلك جمعة، في قصيدة «الذئب الذي عاش وحيداً» بقلبه الصورة النمطية عن الذئب الذي كما الشعر: «أنا وجه أسلافي، أنا ما أنا، فِرائي دوزان الطبيعة حين أرادت تجميل الرماديّ في عين الأرض». والذي في مدّ جمعة التفرّدَ الخاص إلى العام، دون إشارة إلى تطويع اتفاقيات السلام الذي يكتشفه القارئ بنفسه، يتمايز عن الكلاب التي رضيت بالتطويع، حيث: «صرنا كلاباً تحرس الغنمَ من إخوتنا، صرنا نقعي كجنودٍ مَجَّانيّين على أبواب السادة، نمجّد اللحظة التي يطلقون فيها أعناقنا من طوق الأسر، ونسينا تماماً كيف كنا حرّية الأرض والوقت والتمائم».
كما يؤكد ذلك من خلال تشابكه المتفاعل في القصائد التي تنهج طريق الصوفية، بتناغمه مع مفهوم المشيئة، من جهةٍ بخطاب «الإله العظيم» في التجلّي السابع من القصيدة الفاتحة للمجموعة: «سبعة تجلّيات لصوفي وحيد»، حيث: «حفظتك غيباً وإن لم أدرك كنهكَ، لكني استسلمت لريح المشيئة متتبعاً ذاتي فيك ومقتنصاَ وجودَك فيَّ». ومن جهة أخرى، خروجه من خلال هذا الطريق، إلى التشابك والتناغم مع الطبيعة والكون بمفاهيم فيزياء الكم في إلغاء الواقع وتشابكات الوعي الكمي والعوالم المتعددة، في معالجاته الشعرية الحسية المتداخلة بقليل من الذهنية غير الباردة، للوجود والزمان والمكان، في التجلّيات الأخرى حيث: «الألوان تعترف بسحرها، وتغزو عينيَّ على غير ترتيب قوس قزحٍ، وتفرُّ أرانب الأسئلة من ثعلب الوعي المدمّر». وحيث: «الفانون قالوا إنها روح الرقص التي أنتجت كل ما دار على الأرض فيما بعد، فعرفتُ أن الزمن لم يكن قبل هذا، بل وأن ما يصبح زمناً هو الوقت الذي تتحرك فيه النار على إيقاع الجسد». ويضيف جمعة إلى ذلك روح الأنوثة الكونية في الأشياء، حيث: «يبكي البحر موجاً، تاءَه المفقودةَ منذ نشأته، كل اسمٍ لا ينتهي بتاء تأنيث يخسرُ عيده الكبير».

تجلّيات الذئب:

في تمايز ضوء قمره فوق صانع النايات المكتفي بتواضعه في صنعها عن العزف بها، في قصيدة العنوان، تماثلاً غير منظورٍ ربّما مع النفّري في اكتفائه بإملاء أقواله وشعره على تلاميذه دون كتابته؛ يكوّن جمعة مجموعته من 32 قصيدةَ نثرٍ مقسومةٍ مناصفةً بين قصيدة القطعة وقصيدة السطر، مع تداخل في الترتيب بنهاية المجموعة.
ويمايز جمعة قصيدة القطعة لديه بمواصفاتٍ ينسحب معظمها في الجوهر على قصيدة السطر، مع لعب الفراغ الذي يُولّده السطر دور إراحة القارئ من ثقل جرعة الكتلة، وفتح فضاءات الإحساس والتأمل لديه، وربما استعادة أنفاسه من غيابات التحليق التي يخلقها شطح التصوف.
ويمكن للقارئ بسهولة في هذه المواصفات تلمّس التنوّع في طول الجملة الشعرية، وتنوّع الخطاب بين المتكلِّم والمخاطَب مع الحوار بينهما، بمواصفات الجملة الطويلة، حيث:
«ستكون بسبعة تجلّيات قبل أن يأخذ الرملُ وصيّته من جلدكَ وتأمّلاتك العنيفة جوار الكهوف الكثيرة التي ستمرّ بها دون أن تترك أثراً لمن سيأتي بعدك غير الكلام، ستكون بخارى بحرك الذي لا بحر فيه».
وبخطاب الآخر الإله هنا، وسؤاله وجوابه: «لماذا سبع ياإلهي، ولماذا بخارى؟ لا تناقش اختيارَ الله لك. تجلَّ لأتجلّى.» وسرْد الحال بفعل الماضي، كما في التجلّي الثاني الذي تمر فيه النفس منصهرة بطبيعة المكان وتاريخه، وتمرّ الولادة من الحب والطمأنينة؛ إضافةً إلى انتشار التساؤلات، عن الوجود وحكمة الموت وتداخل الأشياء في متضاداتها.
ويمكن للقارئ أيضاً الإحساس بجمال إيقاع الجُّمل، متجلّياً بمزج إيقاع التفعيلة وتهدئته بالنثر، كما في قصيدة «حكاية ناقصة»، بمقطع الغابة، حيث: «هو الراوي وهو الغابة حين تصير حرارة الليل أكثر مما تحتملُ الكلمات، ينزّ فصولاً من مخلاته الفقيرة، ويُخرج منها كلَّ مئذنة وصليبٍ وعواءاتِ ذئابٍ، يُخرِج منها أدعيةً وجنازاتٍ وأمانٍ لم تتحقّقْ، يُخرج منها جداول وصعاليك وفرساناً جاهزين للموت من أجل الحقيقة».
كما يمكن للقارئ تلمّس استخدام ما تتيحه قصيدة نثر ما بعد الحداثة مثل سرد الحكاية، والتداخل بالثقافات، اللذَيْن يتجلّيان في معظم قصائد القطعة والسطر من غير فقدان للشاعرية، إذ يبقيها على ألقها التركيب الشعري المدهش للجمل. ويبدو هذا جلياً في قصيدة: «نَوْح السّحاب على المدن الخراب»، الطويلة الخماسية، التي تتضمّن سرد قصة الملك ضرغام السبئي وفرسه المحجّلة، برثاء مأخوذ عنوانه كما يبدو من أبيات ابن العرندس الحلّي في رثائه للحُسين عند استشهاده: «ترقّ بروق السّحب لي من دياركم… فينهلُّ من دمعي لبارقها القَطْرُ». ومثل السخرية المترابطة بالحكمة، من غرور البشر بأنفسهم ككائنات تكوّنت وأصبحت على رأس قائمة الافتراس. من دون نسيان استخدام جمعة للأساطير والأمثال والأقوال وقلبها، أو ابتكار ما له علاقة بها ويغايرها في معرض قلبه للمنطق المعتاد وتعريته للأوهام.
وفي كل هذا يُلاحظ حفاظ جمعة على تكرار لازمةٍ قصيرةٍ بلاغية تأخذ عنوان القصيدة، وتربط أجزاءها المكوّنة لها بالتكرار، خالقةً تلاحماً متشابكاً، كما في قصيدة «وإنها تأتي…»، التي يحس فيها القارئ من تكرارها أنها فلسطين.
ولأنّ منطق الشّعر هو اللامنطق، وأن «أعذب الشعر أكذبه»؛ يؤكّد جمعة على ارتباط هذا بطبيعة الحياة نفسها، في دعاء الشيخ ألّا يكون الراوي صادقاً: «يا ربّ، تعلمُ أننا لا نستطيع الحياة دون وهم الحكاية.».
وفي ختام المواصفات غير القابلة للختام، تثير إعجاب القارئ طريقة تعميقُ جمعة لمفرداتٍ محوريةٍ تحلّق بها مجموعته، ومدّ أبعادها، فيما يخص وجود الإنسان وطبيعة حياته وصراعاته على الأرض. من مثل: الغابة، النهر، البحر، الصحراء، الشجرة، الذئب والحصان، كما يفعل في قصيدة «موجةٌ حزينة وخجولة»، بتعميق الغابات التي «ترصدنا كمخلوقاتٍ نادرةٍ دون فروٍ أو ريشٍ، تحاول بيأس أن تعيد تشكيل بشريتنا، فتنثر الوقتَ على ياقات قمصاننا كفراشاتٍ فنحنِّط الغابة وفراشاتها في صالونات بيوتنا، ونقول: ما أجملنا بغابةٍ في البيت».
ومثلما يفعل في إثارة الحسرة حول حصان المجد الآفل، في خطابه له:
«تحت شجرةٍ علّقوا عليها قليلاً من الحنطة
وتركوك لتختبر الوحدة وتقلّب الوقت
لا فرس تحكّ ضلعها بأنينك
لا مهرَ تُعلِّمه الطرقات البعيدة
والركضات التي حفرتَ بها العالم. المشي، الخبب، الهذيب، العَدْو، التبختر
وتهديه أوسمةً من فضّة خام
لا شيء يا صديقي القديم، لا شيء
مجرّد سهلٍ يتذكّر المعارك كلها
يتذكر الميّتين، والقتلى
وينساكَ بين العشب
كأنك حجر».

خالد جمعة: «قمرٌ غريب فوق صانع النايات»
الأهلية للنشر والتوزيع: عمّان 2022
150 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية