«قناع بلون السماء» رواية الفلسطيني باسم خندقجي: اغتصاب ثقافي تاريخي بمتلازمة هرمجدون

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

إغواء أسلوب الرواية داخل الرواية، كما يبدو في الكثير من أعمال روائيي ما بعد الحداثة، يشبه إلى حدٍّ مقبولٍ «الإغواء الأخير للمسيح»، الذي يقع فيه الروائيون مدفوعين من أنفسهم بشغف ارتكاب الجديد، في ظلّ انسداد الآفاق الروائية عند ازدحامها بفيض الإنتاج. ويبدو أنهم محقّون في ذلك، ليس بسبب هذا فقط، وإنما لكونه كذلك أسلوبٌ مثيرٌ يمنح الرواية غنىً وعمقاً وتشويقاً ودهشةً، مع خلقه لرغبة التحدّي داخل الروائي في القدرة على ابتكار وقيادة التداخل بين الروايتين، بخصوصيةٍ وتجديدٍ ضمن الحكاية نفسها. وهذا من دون إقحام أو إنشاء يقلب هذا الإغواء إلى نزول المسيح عن صليبه قبل الصلب، واكتفائه بحياةٍ عائلية بسيطةٍ تنهي المسيحية وتقلبُ التاريخ، في عالمٍ موازٍ إن حدث هذا، مع حبيبته المفتَرَضة في الأناجيل المرفوضة/ «مريم المجدليّة»؛ أي أن يودي الإقحامُ بهذا الإغواء إلى وقوع الرواية في بئر الفشل.
الروائي الفلسطيني باسم خندقجي في روايته الجديدة «قناعٌ بلون السماء»، خارج فوزها بـ«الجائزة العالمية للرواية العربية» المثيرة للجدل، يركبُ صعبَ إغواءِ أسلوب الرواية داخل الرواية فيها. ويزيدُ عليه صعبَ تحدّي التداخل مع رواية أخرى عصفت بعالم نسبة القراءة التجارية وصُوِّرت فيلماً شهيراً، هي رواية دان براون الشهيرة «شيفرة دافنشي»؛ مثلما يزيد عليه الأصعب من ذلك، اختيارُه التداخلَ بين روايتيه ورواية براون، من جهة صورة «مريم المجدلية» التي تفرض على الروائي استخدام خياله بجموح المغامرة. إذ هو يفقد قاعدة معلومات وافيةٍ حول هذه المرأة التي طمرها مع إنجيلها، ترابُ المسيحية الذكورية التي قادها بطرس، لترسيخ غلبة المجتمع الذكوري الأبويّ، وقيادة البشرية إلى ماهي عليه من آثام الاستبداد وفقدان العدالة وتعاسة الصراع الذي يُشقي الرجل المتوهّم كونَه المنتصر، بقدْر إتعاسه للمرأة في الجوهر.
وفي كل هذا التداخل المولِّد للصعوبات وللسهولة التي يمدُّ بها الروائيَّ في ذات الوقت، ويضعُه على باب إنتاج رواية غنيّة مختلفة ومؤثِّرة، يأتي مكانُ الصراع نفسه الذي يتوّج التحدّيات/ «فلسطين»، المكانُ الأكثرُ تعقيداً في صراعه على الأرض. وإن تجلّى ببساطةِ احتلالٍ صهيونيّ يرتكبُ جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين، ضد الإنسانية، ليس من جهة الذكورية مع الأنوثة الكونية فحسب، (حيث قاد حاخامات اليهود، في ظلّ عدم توفر القواعد المعرفية وتحويرها إن وجدت، إدخالَ أساطيرِ الخلقِ الذكورية في الكتب المقدسة اللاحقة، العهد القديم بالجديد، والإسرائيليات بالقرآن، لحاجة هذه الكتب إلى سدّ نواقصها). وإنما كذلك من جهة الصراع الوجودي الذي عاناه المسيحُ على يدِ الرومان بتواطؤِ حاخامات اليهود، ونتجت عنه أسطورة نهاية هذا الصراع بمعركة البشرية النهائية مع شرّ المسيح الدجال/ هرمجدون، التي انتابت بشر الديانات التوحيدية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، ووصلتْ دون مبالغةٍ إلى ما يمكن تسميته بـمتلازمة هرمجدون، مع هوس الإنجيلية الصهيونية بقدوم المسيح.
فكيف تعامل خندقجي مع هذا التداخل لإنتاج روايةٍ مختلفةٍ مؤثِّرة، بحسبان إدراكه منذ البداية لما يرغب به، من خلال تركيب الرواية التي يريد بطلُهُ كتابتَها، داخل الرواية التي يكتبها، ويُفصح فيها عمّا يجب أن تكون عليه هذه الرواية، من إطلاق الخيال خارج الواقع العصيِّ على توفير معرفته، حيث: «سأحاول فعل الرواية، سأرتكبها بكل ما أوتيت من مرةٍ أولى وتخيُّلٍ، سأردُّ على الخيال بمثله وأكثر. فما التاريخ في النهاية سوى تخيُّلٌ معَقلَن!/ لكن، كيف سأكتب الرواية؟ وما الأسلوب الذي سأعتمده؟».
تساؤلات التداخل:
هنالك تساؤلات وإجابات تفكير في الرواية التي يكتبها بطلُ خندقجي، «نور مهدي الشهدي»، حول استعادة المجدليّة الفلسطينية من تصوير وسرقة الغرب لها، كما تَكرَّر في رواية دان براون، والتي يقوم من أجل توفير المعلومات عنها بمغامرةِ ارتدائه لقناع رجل صهيوني أشكنازي وجد بطاقته باسم «أور شابيرا» في جيب معطفٍ اشتراه من سوق الثياب المستعملة.. بذلك فإن خندقجي، في جريان الروايتين وتحولات روايته في النهاية إلى كشف الاغتصاب التاريخي والثقافي لفلسطين، واستعادة بطله لهويته الفلسطينية من متلازمة تماهيه بالمغتصِب، يثير تساؤلاتَ القارئ وتخيُّلاته حول وضع المجدليّة في الرواية ذاتها؟
فلماذا التزم طريقة التوازي بين الروايتين من دون تعميق تجلّيات المجدليّة في الحاضر الفلسطيني، وفي وجه وحياة ومعاناة أمّ صديقه مراد، بعد صلبه المتمثّل بحكم المؤبد في سجن الاحتلال، كما أثار في بداية الرواية؟ وما مدى تحويل هذه الصورة إلى وجه الفتاة الفلسطينية الحيفاوية «سماء إسماعيل»، التي تشترك معه في بعثة التنقيب عن الفيلق السادس الروماني إبان صلب المسيح، وثورة باكوخبا بين 130 ــ 136م، والتي تخوض معركة حقيقة النكبة وحقيقة الهولوكست الذي تفتحه الصهيونية لأجساد وأرواح الفلسطينيين. وهذا في مواجهة الفتاة الصهيونية أيالا التي تحاول إثبات حقيقتها الصهيونية المزيِّفة لواقع النكبة وواقع القرى الفلسطينية المغتصَبة التي يحاول الاحتلال إخفاء حقيقة وجودها بزراعة الغابات فوقها، وبتزوير حقائق المجازر والتهجير القسري التي قام بها، دون جدوى، كما يبيّن خندقجي ذلك، من خلال موقف باحثة الآثار البلجيكية المشاركة ببعثة التنقيب نيكول، والمشككة بالرواية الصهيونية لما حدث للقرى الفلسطينية بدلائل الآثار. وكذلك كما يضيف جهدَه الواضح في دعم اتجاه التحويل هذا، بالاستشهادات المواكبة من البحوث التي يأتي على رأسها اسم إدوارد سعيد، ومن الروايات التي تحضر فيها بقوة رواية إلياس خوري «أولاد الغيتو»، ومن الخيال الذي يوصله لإيجاد المجدليّة ببئر موجود في المستوطنة التي أقيمت على أنقاض قرية فلسطينية قرب السهل الذي ستقوم به المعركة الكبرى، ويتوحّد فيه وجهها بوجه فلسطينية الحاضر سماء.
ومع تدعيم جهده الواضح لرواية بطله داخل روايته بالاستشهادات من أناجيل الغنوصية التي يـأتي في مقدمتها إنجيل المجدلية نفسُها؛ يثير خندقجي تساؤلات القارئ عن المجدليّة كمقاوَمةٍ مدعومةٍ من المسيحِ، للنسوية في صراعها مع الذكورية. وعن أهمية هذه المقاومة في الصراع الوجودي مع الصهيونية، وعن دور «الإسرائيليات» الواردة في القرآن بخاصة، في تكبيل قوى الصراع، وفي حفاظها على فيروسها حيّاً داخل العقل العربيّ الذكوري المتغذّي به، موازاةً مع فيروس كورونا الذي تسير في زمنه الرواية/ بين 19 نيسان و11 أيار 2021. وعن مبرّرات تخفيف هذه المقاومة في الرواية إلى درجة تغليبها كمُوازٍ متماثلٍ مع موازاة دان براون، بدل أن يكون مخالفاً لها، كما رغب بطل خندقجي، بالتداخل العميق بين الروايتين، وبما يعكس ويجسّد تداخل التاريخي الفعلي والتخيّلي بالحاضر المشهود.
تجلّيات الأرض وابنها:
في خلوص روايته إلى اتجاهها في طريق كشف متلازمة إغواء التماهي بالمحتلّ، حيث يعيش بطل رواية خندقجي نور الذي يشبه بهيئة جسده الأشكنازيين الغربيين، ويغرس فيه محيطه المعيشي ذلك، وخلوصها إلى كشف باطن الأرض التي يحاول المحتلّ الصهيوني إخفاء مجازره باغتصابها وتحويلها، من خلال تنكّر نور نفسه بشخصية أشكينازي، للالتحاق ببعثة آثار قرب مستوطنة يهودية لا يمكن لفلسطيني لاجئ دخولَها؛ يشكّل خندقجي بنية روايته، من ثلاثة أقسام:
الأول: نور، الفلسطيني الذي يعاني بؤس أزقة المخيم، وصمتَ أبيه، مناضل انتفاضة 1988، المصاب بخذلان رفاقه له من عدم اعتنائهم بأسرته خلال اعتقاله. مثلما يعاني من تقييد حريته كلاجئ في مخيّم، وفقدان صديقه مراد المحكوم بالمؤبّد، والمشابِهة سيرتُه لسيرة خندقجي السجين نفسه. بإضافة ما يعاني من وصوله كباحث في الآثار إلى طريق مسدود في الوصول إلى قاعدة معرفية بحثية حول المجدلية؛ فيقرّر كتابة رواية عنها. ويُجري خندقجي قسمه الأول هذا في فصلين ينتهي فيهما إلى قرار بطله بارتداء قناع الأشكينازي أور الذي وجد هويته صدفةً، لتحقيق تكملة بحثه عن المجدلية.
والقسم الثاني: أور، الذي يعيش معه نور صراعَ الهوية، بحوارات تتكشّف فيها الشخصيتان الصهيونية والفلسطينية، ويكاد فيها نور أن يضيع بمعاناته ورغباته وإحباطاته، مع جرأة خندقجي في الغور عميقاً بأبعاد الشخصيتين، وتعرية نور لنفسه بينهما، في الفصلين الثالث والرابع.
والقسم الثالث: سماء، الفتاة الفلسطينية التي تحمل الهوية الإسرائيلية من حيفا ظاهراً، والفلسطينية المتجذّرة بأرض فلسطين جوهراً، وفعلاً يدفع نور المحتار بشخصيتيه إلى حسم أمر نزع شخصية أور عنه، وتجلّيه فلسطينياً خالصاً مع إحساسه بغمر وجود سماء له وجهاً للمجدليّة التي يبحث عنها، في الفصول الثلاثة: الخامس والسادس والسابع الذي يصل نور إلى نفسه فيه، كتجلٍّ لوحدانية الذكر والأنثى الممثِّلة للمجدليّة وفق ما يصل نور إلى تصوّرها بمقارنات الأناجيل وسيرتها فيها.
وفي هذه البنية التي تتصارع فيها السرديّة الفلسطينية بمعاناة المجازر والاغتصاب الثقافي التاريخي، والسرديّة الصهيونية بتزييفها لحقائق التاريخ والجغرافيا والثقافة؛ يبتكر خندقجي منظومةً سردية تتشابك إبداعياً مع هذه البنية، وتتآلف مع أسلوب تجلية السرديتين بأسلوب الرواية داخل الرواية. وفي هذه المنظومة يداخل خندقجي صيغتين للسرد، الراوي العارف، والمتكلم، ويقودهما بحِرَفية محبّبة كاشفة، يجري فيها سرد المتكلم، من خلال 17 بطاقة تسجيل صوتي. يبدأها بطله نور بالرقم 12، ويعرض فيها أفكاره حول الرواية التي يريد تأليفها حول المجدلية، كما يعرض فيها حركته وحياته والأحداث المرافقة ورغباته وإخفاقاته بصراحة تعرية الذات، ويوجّهها إلى صديقه مراد الذي لن يراها بحكم تعذر إيصالها له.
ويقاطع بطاقات سرد المتكلم هذه، سردُ الراوي العارف عن حركة نور في أزقة المخيّم البائسة، وفي رام الله الإسمنتية المصنَّعة، وفي القدس الطبيعية الرحيمة، وفي موقع التنقيب، والمستوطنة القائمة على جثة القرية الفلسطينية، مع الشخصيّات المرافقة التي تأتي في السّردَيْن مثل أمّ مراد، وأبي نور وزوجة أبيه، والشيخ الصوفي مرسي الذي يرعاه. وكذلك شخصيّة الصهيونية أيالا التي يشتهيها كأنثى يقيم معها طقساً جنسياً استمنائياً، ويرفضها كصهيونية متعصّبة تريد إفناء الفلسطينيين، وشخصياتِ أجانب بعثة الآثار وغاياتهم المختلفة الظاهرة والدفينة، في محاولات وعي الذات والآخر والعالم. إضافة إلى مداخلات الواقع بالتخييل لتفكيك تعقيده، وكشف جرائم التهجير والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، وفعل المقاومة المتبلور بالانتفاضة، والمقاومة المسلحة. مع محاولة شبك الماضي بالحاضر، وتجْلِية الروح والتعاطف الإنساني، والتوق الذي لا ينتهي إلى الحرية، والخلاص من المصالح والمعتقدات التي تمسخ البشر وتشوه إنسانيتهم.

باسم خندقجي: «قناع بلون السماء»
دار الآداب، بيروت 2023
240 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية