في ذكرى العقاد

كنت صغيرا في السنة الثالثة الثانوية، ولا أدرك معنى التقدم في العمر، وباب الرحيل الذي ينفتح. كنت معتادا على شراء صحيفة «الأهرام» أحيانا أو «الأخبار» بين يوم وآخر. أخذت أنظر إلى الصحيفة غير مصدق. إنها تعلن وفاة عباس محمود العقاد أمس في الثالث عشر من مارس/آذار وكان عام 1964.
كان عباس العقاد بالنسبة لي في ذلك السن الصغيرة، نافذة واسعة على الدنيا، تماما مثل طه حسين، فكانت كتبه التي تحوي مقالات مُجمعة مثل «الفصول» أو «ساعات بين الكتب» أو «مطالعات بين الكتب والحياة» وغيرها، دليلي لقراءة كثير من كتاب العالم، أو البحث عن كتبهم المتوفرة في المكتبات العامة، لأن قوتي الشرائية لم تكن تكفي لشراء الكتب، إلا السلاسل الأدبية التي لا يزيد سعرها عن خمسة قروش مثل، «أعلام العرب» و«روائع المسرح العالمي» و«إقرأ».
الأمر نفسه كان مع كتب طه حسين التي تحوي مقالات مجمعة مثل «ألوان» أو «حديث الأربعاء» وأيضا مع أنيس منصور وكتبه، التي من هذا النوع. العقاد كان تحديا كبيرا لأنه صاحب لغة صعبة، كما يرى الكثيرون، لكنني لم أشعر بصعوبتها أبداً. كنت أقرأ له آراء صادمة مثل، رأيه في الشعر والرواية، وكيف يتميز الشعر عن الرواية بالإيجاز، فما يعنيه بيت واحد من الشعر تكتبه الرواية في صفحات كثيرة. كنت أشعر بأنه يغالي، ليس في قيمة الشعر، فالشعر يستحق المغالاة، لكن في التقليل من شأن الرواية، ولو كنت مشيت وراءه ما كتبت روايات. خيل لي إنه قال ذلك لأنه لم يكتب إلا رواية عادية قيمتها في أنه هو الذي كتبها وهي، رواية «سارة» وربما شعر بأن موهبته فيها أقل من الشعر، وكان صادقا مع نفسه فلم يكررها وهذا يحدث للكثيرين.
يوم وفاته تعلقت أمامي صورة نضاله السياسي، وكيف دخل السجن لتسعة أشهر في عهد الملك فؤاد بتهمة العيب في الذات الملكية، حين أعلن في مجلس الأمة أن «الأمة على استعداد لتسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه». كان الملك فؤاد يريد تغيير المادة القائلة إن الأمة مصدر السلطات، والمادة القائلة إن الوزارة مسؤولة أمام البرلمان. كان العقاد يعني دستور 1923. نعود إلى وفاته وكيف تعلقت أمامي صورته كمدافع عن طه حسين، الذي هوجم بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي». لم يمنع العقاد من مؤازرة طه حسين موقف سعد زغلول نفسه وانتقاده لطه حسين، وكان سعد زغلول رئيسا لحزب الوفد، والعقاد أحد أعضائه. كان هذا بالنسبة لي أمراً شديد الأهمية. وعرفت مبكراً جدا، ففي ذلك الوقت لم أكن بلغت الثامنة عشرة من عمري، كيف كان العقاد معاديا للإخوان المسلمين وفكرهم الشمولي، ومعاديا للنازية والفاشية، حتى إنه حين اقتربت قوات المحور ـ ألمانيا وإيطاليا ـ من الإسكندرية في منطقة العلمين في الصحراء الغربية، وقبل أن تبدأ معركة العلمين التي انهزمت فيها قوات المحور، سافر العقاد إلى السودان، خشية دخول الألمان الذين كانوا يعرفون بعدائه للنازية. كان حرا وليبراليا، كارها للأفكار والنظم الشمولية. كنت متيما بقراءة المعارك الأدبية سواء مع طه حسين والمخالفين له بمناسبة كتابه «في الشعر الجاهلي» أو مع العقاد نفسه أو مع سلامة موسى.
في ما يخص العقاد كانت معركة مدرسة الديوان بالنسبة لي، هو والمازني وعبد الرحمن شكري معا في مواجهة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ذات أهمية كبيرة. لم يكتب شوقي ولا حافظ دفاعا عن شعرهما، لكن هجوم مدرسة الديوان على شعرهما هو الذي جذب انتباهي، وكان في ما أعرف أول انتقاد لمبنى القصيدة التقليدية، فالقصيدة التي يبدو فيها كل بيت من الشعر قائما بذاته ليست هي القصيدة، فالوحدة في القصيدة يجب أن تشملها كلها، وكذلك في الموضوع. أعجبتني الفكرة لأن وراءها معنى، فأن يكون كل بيت من الشعر قائما بمعناه يعني تنقل الشاعر بين المعاني في قصيدة واحدة، ما يعني وعيا فكريا بما يكتب الشاعر أكثر منه تجربة روحية لا تتقطع بين المعاني المختلفة.

ارتحت إلى التفسير القائل إن العقاد الذي لم يحصل إلا على الشهادة الابتدائية كان يميل إلى إظهار قدراته اللغوية، بينما طه حسين الحاصل على الدكتوراه، لم يكن في حاجة إلى ذلك.

في ما بعد قرأت عن المازني قوله إن جزءا من المعركة كان بسبب انسداد الطريق أمام الشعراء، فلم يكن مشهورا غير شوقي وحافظ وكان لابد لهم أن يجدوا طريقا. هذا جانب ثانوي لأنهم قدّموا ما يدل على معنى أفكارهم من الشعر، وظل شعر أحمد شوقي وحافظ ابراهيم في مكانه العظيم. لكن هذا المعنى الثانوي يقفز أمامي كمعني أساسي منذ السبعينيات حتى الآن، حين أنظر إلى معارك الأدباء والمثقفين فلا أجد وراءها فكرا أكثر مما أجد وراءها صراعا على مكاسب رديئة، وتطال المعارك حياتهم الشخصية في كثير من الأحيان. كانت معركة مدرسة الديوان جزءا من النهضة في العشرينيات من القرن الماضي، كما كانت معركة مدرسة أبوللو في الثلاثينيات، وكانت ترى بدورها أن شعر العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري انتهي إلى شعر شوقي وحافظ إبراهيم، وفتحت هي الباب للرومانتيكية. وحتى عدم رضا العقاد في الخمسينيات عن قصيدة التفعيلة، لم يكن شخصيا ولا صراعا على مكانة شعرية، كان قد تقدم في العمر وطبيعي جدا أن ينحاز إلى إنجازه. الأمر نفسه في معارك طه حسين وسلامة موسى والعقاد، مع أصحاب التيارات المحافظة في الفكر. كلها كانت تجليا للنهضة. خيل لي أحيانا أنهم يتفقون مع بعضهم على السجال فتحا لأبواب النهضة، فلم أعرف أبدا أن طه حسين قدّم بلاغا سرا أو علنا في الرافعي مثلا، ولا فعل ذلك سلامة موسى ولا العقاد.
كانت في مدرستي مكتبة عظيمة أستعير منها الكتب، لا أنسى يوم أن استعرت كتابا للعقاد أول مرة، وكيف قال لي أمين المكتبة أن أتركه، وحين سألته لماذا، قال لي لن تفهمه فهو صعب عليك. قلت له أنا أفهمه وكان مندهشا جدا. كانت حيرتي في المقارنة بين أسلوب العقاد، وسهولة أسلوب طه حسين. ارتحت إلى التفسير القائل إن العقاد الذي لم يحصل إلا على الشهادة الابتدائية كان يميل إلى إظهار قدراته اللغوية، بينما طه حسين الحاصل على الدكتوراه، لم يكن في حاجة إلى ذلك، لكن رغم ذلك فكما قلت لم يشكل لي أسلوب العقاد مشكلة شخصية، بل أحسست أن قراءة العقاد في الفلسفة تركت أثرها فيه. لا أقصد فكريا فهذا طبيعي، لكن أقصد لغويا أيضا، والأمر أبعد من مسألة أنه لم يكمل تعليمه. لم تشكل لي دراساته ولا مقالاته أي مشكلة في الفهم، بل بلغت المتعة منتهاها مع كتب مثل «الله» أو «العبقريات» أو «رجعة أبي العلاء» أو كتبه عن المسيح وغاندي وغيرهما. وجدت تفسيرا آخر أقرب إلى الحقيقة وهو رغبة الكاتب في التفرد، كيف يكون كاتبا حقا من يكرر الآخرين؟ في النهاية ليست لغة العقاد بأصعب من لغة مصطفى صادق الرافعي مثلا، التي قال عنها طه حسين «أُخال أن هذا الكاتب يضع الكلام وضعا» أي يلده ويعاني من آلام الولادة، فردّ عليه الرافعي «أتحداك أن تضع مثلما أضع وعليّ نفقات القابلة».
أعود لأقول كيف كانوا من أبناء الفترة الليبرالية، رغم خلافاتهم الفكرية، وكيف كان العقاد ضد النظم والأفكار الشمولية بشكل صريح وشمل ذلك الماركسية أيضا، وأن هذه الفترة الليبرالية هي ما أنتج هذه العقول العظيمة وغيرها. كان البحر المتوسط ماضيه وحاضر حضاراته هو هدفهم، وهو مصدر إلهامهم قبل أن تطل علينا الشمولية السياسية بعد 1952، ثم الوهابية والشمولية الدينية منذ السبعينيات، وتعود بنا إلى العصور الوسطى التي تنفست مصر بعيدا عنها وتقدمت رغم الاحتلال منذ 1919 إلى 1952.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حيدر المحسن (حيدر عبد المحسن):

    تحية إلى الكاتب إبراهيم عبد المجيد:
    في المقال إلتفاتة مهمة عن الخراب الذي تعيشه البلدان بسبب تأثر ساستها بأفكار مستوردة من -هناك وهناك- :((كان البحر المتوسط ماضيه وحاضر حضاراته هو هدفهم، وهو مصدر إلهامهم قبل أن تطل علينا الشمولية السياسية بعد 1952، ثم الوهابية والشمولية الدينية منذ السبعينيات)) بينما كان جيل العمالقة بريئاً من هذه اللوثة، ولهذا كانت القيم في ذلك الماضي السعيد في مكانها. البلدان تشبه الأشجار؛ عندما تهبّ عليها رياحاً مسمومة فإنها تموت ولا يبقى منها حتى الطلول.

  2. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد. كانوا كتاب وأدباء ومفكرين كبار وكان تأثيرهم على الوطن العربي بكامله وهذا مهد لتكون مصر صاحبة الدور الرائد للعرب جميعًا. لكن للأسف اليوم نبكي على الماضي، نبكي على الأطلال وعلى حالنا التي وصلنا إليها. القومية فشلت والشمولية الدينية زادت الطين بله! وتحولنا إلى دول فاشلة في معظم بلدان الوطن العربي.

إشترك في قائمتنا البريدية