«طائرُ الشاكو ماكو»: شاهدٌ على الشعرِ… شاهدٌ على الانهيار

حجم الخط
0

للشاعر العراقي جليل حيدر صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد مؤخراً أعماله الشعرية حاملة «طائرُ الشاكو ماكو» عنواناً لها، الذي هو عنوان واحدة من إصداراته الشعرية العشرة .
تضمنت الأعمالُ عدداً من شهاداتٍ كتبها شعراء وكتاب بارزون، أدونيس، فاضل العزاوي، محمد مظلوم، عبد القادر الجنابي، فاضل ثامر، حاتم جعفر، زاهر الغافري).
ينتمي جليل حيدر لحقبةٍ لاهبةٍ شهدتها الثقافة العراقية ألا وهي ستينيات القرن الماضي المحتدمة، التي شغلتها هموم التجديد والمغايرة، حقبةُ المتغيراتِ الجوهريةِ في عموم الشعريةِ العربية، ولعل ما جاء في الإهداء الذي ثبته جليل بمقدمةِ أعمالهِ هذه إشارةً واضحةً لذلك الانتماء: (إلى أصدقائي عصابة مقهى» المعقدين») في إشارةٍ إلى مجايليه الذين لم يكونوا عصابةً تمتهنُ السلبَ والنهب، كما هو الحال في بغداد اليوم، بقدر ما كانوا مجموعةً من مثقفين مستلبي الحرية والحقوق بحكم مواقف معظمهم التي تتقاطع مع خطاب السلطة واغراءاتها .
أعمال جليل، أو بمعنى آخر: تجربة جليل حيدر الشعرية لا تنتمي إلا إلى الشعرِ ذاته، جوهرا ومجابهةً حقيقيةً لواقعٍ فيه من غلاظة أقداره كل ما هو مخيف، ولذا كان صدورُ أعماله اليوم برقاً يحمل ضوءاً وبشارةً يكشف عن حقيقةِ الشعرِ الذي لم يكن بمنجى عن الانهيار الذي حصل ويحصل كواحدة من دعائم الثقافة إن لم يكن أبرزها.
في زمن ماراثون المهرجانات التي لا نهاية لها بلا رائحة ولا طعم سوى الضجيج الكرنفالي بينما يلوذ جليل وبعض ممن جايلوه ومن بعض الذين تلوهم بصمتٍ وعزلةٍ كخيار يبعدهم عن لوث الحاضر الذي شوهته ألوان انهيار مريع لم يتشدق به سوى كتبة البؤس الثقافي الذي لا يشبه غير الفساد الذي يتحكم بمصائر المثقفين وسائر العباد .
كتب أدونيس عن قصيدة جليل «أسد بابل» ليصفها بـ(القصيدة العراقية الأولى التي تكتب عراق الانهيار الحديث، بعد بدر شاكر السياب، وهي القصيدة الأولى التي تكتب «المنفى العراقي» الأولى بإطلاق). كم انهيارا شهده العراق وجليل حيدر يقف على ضفة (الضد) شاهداً يروي ما سمع وأحس ورأى من تلك المشاهد العاصفة بالخراب والدم والرصاص :
« اتحدث عن [لا]
عن حب يدفنني
عن شرطي يضرب رأسي بالجدران .
حياتي وطن يهرع من خوف الممكن، من جوقة إعدام، من زهر الدفلى، من سخرية سوداء، حياتي وطن يمشي بين الشارع والمقهى، بين البيت وحانة [غاردينيا] «
من عواء عراقي
المثقف العراقي، شاعراً كان أم غير شاعر بقي رهين جدران بيته وجدران سجنه أو منفى اضطراري ـ قسري يختاره هو بمساعدة الأقدار ولربما يموت في أصقاعه فترثيه الحكومة التي تسببت في منفاه! أليست مفارقة هذه؟ أو أليس هو الانهيار القيمي، الثقافي الرسمي، العهر الحزبي، إلخ .
مع ان الشهادات التي تصدرت أعمال الشاعر توفرت على قدرٍ عالٍ من النباهة والأهمية، إلا أن ما كتبه فاضل العزاوي يرتقي لفهم أكثر في تجربة الشاعر، ولربما بحكم المجاورة التي جمعتهما تلك الحقبة أو (مقهى المعقدين) الذين تسببوا بعقدة حكومات أزعجها (مقهى)!!
ولربما عامل المغايرة الذي شغف العزاوي به مبكرا في قصائده الأولى، الذي وجد ملامحه الأخرى في تجربة جليل التي يصفها بـ»حطب مدخر للأيام الباردة».
جليل حيدر بغدادي الولادة والنشأة والتجربة الشعرية والمنفى أيضا، وابن أسرة بغدادية عريقة، وتشغل بغداد هذه زوايا حادة في ذاكرته المعشوشبة بالعشق والرعب والأغنيات، وبالمجمل في تفاصيلها من مأذن وتكايا ومقامات متصوفتها، ولربما تحدث عن ذلك كله الشاعر العراقي محمد مظلوم النابت قسرا في منفاه الدمشقي هو الآخر منذ سنوات وهو يشير لقصيدة حيدر «أسد بابل» إذ يجده» يقتفي أثر الذكريات التي أهملت طويلا ويعيد الاستماع لما ترويه في نحيب الشموع في دجلة، حيث طقوس انتظار الخضر على ضفة النهر وترقب شفاعته ونيل المراد «.
كل شيء في بغداد، والعراق يعيش حالة انهيار تليها أخرى أشد مرارة وأغزر تأملاً منذ ذلك الصباح المشؤوم في التاريخ العراقي 8 شباط/ فبراير 1963 حيث شهد مقتل الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم وابادة الشيوعيين العراقيين:
« أشاطرك التظاهرة وقضبان الشرطة وعبد الحليم حافظ
في خلطة بين الملائكة، وشربت الرمان والشجاعة
أشاطرك صورتك على طاولتي وأنا في الرمادي من الوقت
ملتفتا إلى المعتقلات الواضحة كالأغاني»
أعقب جليل قصيدته هذه «مقتل الزعيم» بثلاث قصائد عن بغداد 1 و 2 و3، لكل منها دلالات وإشارات لكل ما في بغداد من جمال باهر وانهيار كاسر، فما عادت الأمكنة سوى أطلال ولا مقهى «المعقدين» سوى مقهى بائس في واحد من أزقة «شارع السعدون المؤدية لشارع أبو نؤاس» الذي ظلت كؤوسه في رؤوس عاصرت فتراته الذهبية، الذي أطبقت العتمة على ليله الراهن بفعل «تحريم» الكحول وانتعاش أسواق الرشى والحشيشة والزنى بالمحرمات التي تضج بها السجون .
وما عادت المحافل الثقافية بصخبها الذي شهدته تلك المقهى وسباق الريادات الشعرية سوى مزايدات متعهدي المهرجانات و»مانحي شهادات التقدير المصنوعة في سوق البالة الورقية ودروع النحاس المجانية» .
كل ذلك جرى ويجري في زمن الوزير «المؤذن» و»الرفيق» الناقد، أليس هو الانهيار الذي استحق رثاء الشاعر :
« للكافة طريقهم الواضحة، من هنا،
نحو الغامض
لذلك …
يلزمنا كثير من الغزو
لنعود إلى أنفسنا
يلزمنا كثير من العودة إلى أنفسنا
لنفهم الغزو»

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية