حديقةُ الماعز: حضور الرعويّة في شعر عمر الدليمي

يأخذ الشاعرُ عمرُ الدليمي المتلقي في نصّه «حديقة الماعز» المنشور ضمن مجموعته «ما ينقص شاعرا» منشورات اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق 2021- نحو أجواء القرية، وهو يسترجع صورة عموديّة استقر الزمن في نهايتها منفتحا على وداعة الحياة، وتواضعها، وحنو مفرداتها، وتشبّث الإنسان بمرافقة الحيوان؛ ذلك الذي هو أبعد ما يرى، وأقرب الأشياء إلى ذهنه المفتون بالزرع، والضرع، والماشية، وتجاور الموجودات، وحضور الطبيعة في كلّ حين، فقد جمع النصّ بين المكان والزمن الذي تراءى من خلال المفردات التي أحالت على نمط حياة ماضية قنع الشاعر بها، ورغب في استرجاعها طمعا في هجران حياة معاصرة ليست له من خلال بناء نصيّ احتفل بمقطع حياتي رعوي نُسج من خيوط البراءة التي تحكمت في حياة سارد الشعر يوما ما.
يحيل عنوان النصّ «حديقة الماعز» وهو أول ما يتلقاه القارئ – على مفارقتين اثنتين الأولى: أن الشاعر جعل للماعز حديقة على سبيل الاستعارة التي ترتقي بحياة حيوان ليس له حديقة، بل زريبة تحيط به من الجهات كلّها، والأخرى: أطلق الشاعر من خلالها لفظ الماعز وأراد به جزءا منه أي ذَكَرَه المسمّى بالتيس، في إحالة مجازيّة ذكر من خلالها الكلّ وأراد الجزء.
تقرأ النصّ فتجد الأسطر قد تمكّنت من استرجاع المعاني البعيدة؛ تلك التي غادرتها حياة الشاعر، ولم يبقَ منها سوى صوت الذكرى يدقّ في الذاكرة، مستعيدا فضاء قرية كان الشاعر وُلد فيها، وغادرها مُكرَها، ثمّ صار يتقصّدها في نصوصه تعويضا عن خسارة كبرى حدثت ذات ليل، فهي مكانه المتآلف مع لغته، واسترجاعاته المفضية إلى الحلم، وقد ابتدأ النصُّ بتحديد جغرافية المكان الذي كان فيه: (على مسافة ليست بالبعيدة عن حديقة الماعز أسكن أنا) فَسَكَنُ الشاعر قرب الزريبة، علامةٌ تحيل على وجوده، والإحالة واضحة، ولها أن تقدّم حديقة الماعز بوصفها مكانا أليفا له سلطة تمارس فعلها الحقيقي في طبيعة الحياة: (ريح الشمال النزقة غالبا ما تحمل رائحة التيوس فيطنُّ وقتي بالذهول). لا أظن أنّ للتيس صورة محبّبة في الشعر العربي، سوى صورة القوّة التي جيء بها يوما إلى ذاكرة الشعر مقرونة بحضور الخليفة، من خلال استحضار شاعر البادية: علي بن الجهم لبيئته الماضية، وهو يريد إعلاء ممدوحه: (أنت كالكلب في حفاظك للود…. وكالتيس في قراع الخطوبِ)، وما هذا من مقاصد الشاعر الدليمي، فقد جاء بالتيس مقرونا برائحة الصنان الكريهة، وهي تحْدِثُ صَوْتا في أذنيه يوجب الدهشة والشرود، في محاولة لتجميل القبيح ليس لأنه قبيح فحسب؛ بل نكاية بقبح الحاضر الذي أنكره الشاعر في ظل عبور الزمن إلى النهايات التافهة، وقد تراسلت حواسه، فكان الصنان ملأ الأذنين سمعا لا شمّا في تركيبة لغويّة تراسليّة يحبذها الشعر، لينهض السؤال بـ(ما) الاستفهاميّة وقد تصدّرت النصّ باحثة عن حقيقة العالم غير العاقل: ما هذا العالم؟
لقد نقل الشاعر السؤال إلى معنى الدهشة وهو يجاور حديقة كلّ موجوداتها من التيوس، في لغة تكاد تقتصر على الجمع بينه وبينها، في رفقة مؤنسة علامتها الكبرى التجاور في المكان، والعيش في الزمن، تحت نافذة المشترك اليومي الجامع بينهما، والشاعر يقضم ورقة الدفلى محاكاة لقضم التيوس شجرات الوقت كناية عن الزوال، وانقضاء الزمن والأجل، فالوقت للتيوس في ظلّ تآلفها، وانبثاق صوتها الواحد إلا أحدها فقد نفر خارج الحديقة متسلقا أحلامه دون اكتراث لصوت الأنثى، الذي كان يناديه عن بعد متفرّدا في مشيته وخيلائه، وكأنه ليس بتيس في إشارة دالة على مضمر تعلّق بتيوس آدميّة أخرى. أحالَ النصُّ حديقَة التيوس بوصفها مكانا، أو محجرا للذكورة الحيوانيّة، على مدرك آخر اقترب كثيرا من محنة الحيوانات التي لا شيء يذكّرها بالإناث سوى لغة الأوهام التي تنجب الجداء من فضاء المستحيل؛ حياة مرّة بهواء مرّ، وجمع من المتشابهات، والتيوس تدور حول نفسها في حلقة مفرغة، مثل حيوانات النواعير، تشير ضمنا إلى مضمر آخر يتعلّق بغياب الأنثى، وتصحّر المكان، وجدبه، على الرغم من الرفقة المؤانسة بين القطيع وراعيه، أكان الشاعر راغبا في هجاء حياة الحيوان؟ كلا، بل كان حريصا على تقريب محنته من محن الإنسان.
وتنهض صور الشاعر في نصّه مقتربة من براءة ريفيّة تنفتح على فطرة الحياة والشعر معا، سبق له أن تأملها وربما عاشها، والنصّ في النهاية ينتمي إلى الحياة التي يريدها الشاعر استرجاعا لجمال الزمن، وبهجة المكان المؤثث بالتأمل، والوحدة، والانصياع إلى البراءة الأولى.. ترى كيف تجتمع البراءة والسذاجة في نصّ نثري أراد الشاعر من خلاله أن يجافي حياة الآخرين، بما فيها من ضجيج، وأكاذيب، وجوع، وغنى لا يطاق، وسوء مصائر؟ ذلك ممكن يقبل به الشعر وهو يؤالف بين الإنسان والحيوان، وتقبل به قصيدة النثر التي تبتعد كثيرا عن أجواء الريف، والرعي بوصفها قصيدة متحضّرة وصلتنا في أعقاب عصور مشحونة بالتأمل، والتطوّر، وقد طوّعها الشاعر في ظلّ إلحاح الذاكرة، ومجافاة الإلزام. هل كانت التيوس في عزلة خانقة حقّا؟ أم كانت رمزا آخر لتيوس تربض في ذاكرة الشاعر؟ قدّر للنص أن يكشف عن رسم الشاعر لعزلة حياتيّة من خلال أنسنة الحيوان المقترنة بالعلائق المعروفة: الهيئة، والحس، والحركة، فالتيوس نادرا ما تغادر الحديقة، وكأنها في سجن، وهذا ما لمسته المقالة في معان أبرزها: الانتقال بالحيوان من وصف إلى آخر وتقريبه من أفعال الإنسان، من خلال التجسيد، واستيفاء جملة أركان الجسد، وغيرها، فالأفعال جميعها تجري مجرى التجسيد الاستعاري، الذي هدف إلى خلق بيان ثقافيّ يقوم على مفارقة منطق العقل، كي يؤسس (يوتوبيا) المخيّلة المبدعة عن طريق الاستخدام الشعري للغة، وهذه مهمّة ليست باليسيرة على الشاعر الذي تعامل مع اللغة تعاملا غير حيادي، بل هو قمّة الانحياز إلى التغاير، والتجاوز، واقتناص ظلال المعاني، وما وراء اللغة من أفكار، من هنا وُصفت مهمّة الشاعر بالصعبة التي تجاوز بها كلّ شيء، حين عمد إلى ابتكار صياغات لغويّة كانت أكثر مفارقة لما هو سائد في عصره، وهذا ما أراده النصّ الذي نظر إلى التيس من منظار أبعده عن حياة حيوان: (يغمغمون حتى تشكّل أصواتهم غيمة سوداء تجوب الفضاء الأزرق)، فالتيوس تغمض أعينها مثل إنسان، وتتمتم بكلام ينقصه الوضوح، ولا ينقص المتلقي التأويل المفضي إلى مغيّبات النصّ نفسه. ويستدرج النص متلقيه إلى سؤال آخر: أيمكن لحياة التيوس أن تكون بلا أنثى؟ (التيوس تدور على نفسها كما تدور بأنحاء الحديقة تدور تدور، ثم تخرّ على الأرض مضرّجة بفحيح شبق مخنوق)، يا لها من تيوس تصحو على زمنها وهي مسلوبة الوجود، ناقصة الحياة رافضة لطبعها، وهي توازن حالها مع تيوس أخرى استحضرها نسقُ الشاعر المضمر تختال مع معزاتها في الوهاد، والسهول غير مبالية بما يصنعه الإنسان، وهو يعزل عن عمد تيوسا أخرى عن معزاتها، فتختار قانعة موتها.
لقد أدمنَ الشاعرُ حياةَ الحيوان، حتى عَرَفَ فصائلَ الماعز وسلالاتها، كما يعرف محيطه، فعمد إلى توثيق أسماء فصائلها: الأمانشا، والأنجلونوبيان، والدمشقي، والزرابي، والبور وماعز الألب، والسانيس السويسري، ففي ذاكرته الشعريّة حشد من الألقاب، والمسمّيات ممثّلة في معجم صغير شكّل ذخيرته الذهنيّة التي أحالت على خصوصيّة الثقافة الرعويّة التي تراكمت خلال مئات السنين وهي تمرّ على لسانه صانعة مفردات ذات وظيفة خاصّة بالحيوان، في سياق من التعبيرات التي لا يعرفها إلا الرعاة والمتخصصون، لكنّ الشاعر عَرفها، وفُتن بها، وها هو يدخلها عن عمد في نصّه الشعري.
وللنصّ أن يمنح التيوس، وهي تقف في الظهيرات مسجونة عند سياج الحديقة رافعة رؤوسها، صفة إنسان مغلوب الأمر، ليس لها إلا أن تطفو فوق بركة ماء الوهم مستمتعة بما في خيالها من صور تستعيرها من حياة الآخر القريب منها، والشاعر مشغول بها يكاد يفقد وجوده ولغته جراء عذابها، والتماهي مع أحلامها فهو غير معنيّ بما فوق الأرض من حياة ملطّخة بالدماء، وسوء المصير، وهو يرحل عن الحديقة، وقد تملّكه شعور بنمو وبر فوق جلده، ألم أقل إن الشاعر هجر الحياة كلّها، ورآها من خلال حديقة الماعز التي تآلف مع موجوداتها؟
وبعد: فـ»حديقة الماعز» لا تصف حياة الراعي الذي استحضرته مخيّلة الشاعر في ظلّ سوءات المدينة التي تركت ندوبها في قلبه، بل تصف رعيّته ممثلة بمجموعة التيوس التي استلها الشاعر من ذاكرة بعيدة، معوّلا على براءة اللغة، ويسر العبارة، واستحضار مقطع من حياة المراعي التي تلوب بالجمال الأخضر، وطول الوقت، والبهاء، وقد اعتمد الوصف التخيّلي للنصّ استرجاع المعاني، وإعادة تركيبها، وتقليبها، وزجها في مصهر التخيّل وفق رؤية تولّت الجمع بين ما هو شعري، وسردي في مهمّة شعريّة دالة تمكّن الشاعر من التحليق بها على أجنحة الخيال مرهونة بقدرته، وانفتاحه النفسيّ، وهو يواكب نصّا عابراً حدود ما هو مألوف، بمعنى أنّه مجموعة من الأسئلة التي اتّخذت السياقات اللغويّة حيّزا لها وهي تريد الحضور تخيّلا.
لقد كشفت القراءة مسارات السرد في النصّ وهي تحيل على حنين الشاعر المغطى بدلالات تريد البوح بضرورة العودة إلى الماضي، ليس لأنّه ماض فحسب، بل لأنه ماضي القرية التي لمّا تزل تشرع أبوابها لولدها الذي ضل الطريق! وها هو يسترجع أيامه السابقة عسى أن يوفق في استحضارها في نصّ مثّل جانبا مهمّا من التصوّر الرعوي المفتون بجمال الحيوان.

ناقد وأكاديمي من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية