في الذكرى الحادية عشرة لرحيل إدوارد سعيد: مثقفون عرب: ناقش الغرب بموضوعية وأفكاره نبوءات لمستقبل الشرق الأوسط

تونس- «القدس العربي» ترحَّل إدوارد سعيد (1935-2003) بين عدّة جغرافيات عربية وغربية، ولم ينجح مكانٌ منها في استقطابه، لأنه فضّل أن يكون خارج الأمكنة التي ظلّت تتبعه باحثةً فيه عن هُويّاتها، لا بل ظلت تبحث عن سببٍ مّا لكي تنتمي إليه؛ ذلك أن الانتماء إلى سعيد هو انتماء إلى الإنسان، أي إلى المعنى الكوني الذي ضيّعته رغائب الاستعمار، ذاك المعنى الذي تأتلف فيه كلّ الذوات على اختلاف ثقافاتها وقومياتها. والرأي أن ترحُّل سعيد بين الأمكنة والثقافات واللغات والمعارف ليس إلا قَلَقًا من ضيقها عليه، وسعيًا منه إلى تأكيد انتمائه إلى وطن مسلوب لم تبق منه إلا استعارات اللغة وبكائياتها. و»القدس العربي»، إذْ تُحيي ذكرى وفاة سعيد الحادية عشرة، تفتح صفحتها الثقافية لمجموعة من المبدعين والكتّاب العرب ليقدّموا آراءهم في المُنجَز الفكري لهذا المفكِّر الفذّ الذي قلّت حماسةُ جامعاتنا لتدريسه لطلبتها حتى أخاله يردّد في غيبته هناك قول العرجي: «أضاغوني وأيّ فتى أضاعوا…».

صورة المثقف العربي الممكنة

يمكننا أن نقارب فكر إدوار سعيد ومصنفاته من زاويتين اثنتين تتضافران معا لتقديم دوره على مستوى العطاء- الفكر، على المستوى الإنساني، من جهة، وما يمكن أن يستفيده المثقف العربي من خلال تجربته ومساهمته في ذاك الفكرـ من جهة ثانية.
أولا: من يطلع على مؤلفات إدوار سعيد وكتاباته لا يمكنه سوى أن يخرج بخلاصة هامة حول تميزه باحثا رصينا وكاتبا عميقا، أهله ذلك لاحتلال موقع هام في الفكر الحديث والمعاصر. يكمن هذا التميز في اطلاعه الواسع على الثقافة الحديثة، ومعرفته الدقيقة بتفاصيلها وخرائطها المتشعبة. وتكفي الإشارة هنا إلى كتابه حول الاستشراق الذي صار من الآثار الكلاسيكية في الثقافة المعاصرة لتبين ذلك. وفي مختلف مؤلفاته نلاحظ انخراطا دقيقا في أسئلة الفكر الأدبي الحديث كما تبلور في الغرب، منذ عصر الأنوار، وامتداداته في الثقافة الحديثة في العالم الأنجلو- ساكسوني. مما ينم عن فهم دقيق وسعة اطلاع. لقد بوأته هذه المعرفة الدقيقة من المشاركة في طرح القضايا الجوهرية المتعلقة بتشكل ذاك الفكر وصيرورته، ومكنته بالتالي من مناقشته من الداخل من منظور نقدي موضوعي، وإن كانت تبدو من خلالها تصوراته كعربي فلسطيني ملتزم بالقضية ومدافع عنها. لكن ذلك لا يعني أنه يساجل الفكر الأدبي والثقافي الحديث من منظور سياسي وايديولوجي ينطلق فيه من مسبقات فكرية جاهزة. ويبدو لنا ذلك بجلاء في كون ردود الفعل الأجنبية من أطروحاته تتوزع بين معارض ومؤيد، بغض الطرف عن أصوله التاريخية ومواقفه الصريحة. وستظل أفكاره تمثل اتجاها فكريا أصيلا ومختلفا، له خصوصيته. نعاين ذلك بجلاء في كون مختلف المصنفات حول النظريات الأدبية والثقافية المعاصرة، سواء كانت ذات طبيعة موسوعية أو بحثية، لا يمكنها أن تتناسى حضوره ومشاركته في تطور الفكر الحديث وإسهامه الإيجابي في تطويره.
ثانيا: لقد صار الحضور الذي أثبته سعيد على مستوى الفكر العالمي المعاصر مصدر استشهاد ومرجعا أساسيا للدراسات الأدبية والفكرية العربية، تنتقى من مصنفاته المترجمة إلى العربية الشواهد والمقتبسات التي تدبج بها المقالات والدراسات. لا أرى عيبا في ذلك، ما دام يدخل في نطاق التفاعل بين النصوص. لكن أن يتحول فكر سعيد إلى مادة للإفحام أو إبراز الاستفادة منه في المساجلات الفكرية المختلفة، فهذا يقلل من قيمة التفاعل الممكن مع الرجل ومنجزاته الرائدة. إن هناك مسلكين أساسيين يمكننا استنتاجهما من تلك العطاءات لاستمرار تفكيره لا استنساخه ومسخه. يكمن المسلك الأول في تبني الطريقة التي تفاعل من خلالها مع الفكر الغربي المعاصر، عبر الاطلاع العميق والواسع على منجزاته الإبداعية والفكرية. ونسجل هنا تقصيرا كبيرا في مواكبة فكر الآخر، على المستوى العربي، من أجل فهمه واستيعابه. أما المسلك الثاني فيتجلى، ليس في استنساخ الشواهد منه، ولكن اتباع الطريقة التي نهجها في توليد الأفكار ومناقشتها وتطويرها. أن يكون سعيد صورة للمثقف العربي الممكنة فذاك هو المدخل الطبيعي لإسهامنا في الفكر الحديث. أما استرجاعه مادة للاستهلاك فليس سوى محاكاة بئيسة ودليل على قلة الإبداع.
* سعيد يقطين- ناقد مغربي

المنفى عدوّه الجميل
على الرغم من أن النتاج المعرفي والفكري لإدوارد سعيد يأخذ امتداده الإنساني الواسع فإنه في أعماقه يترسخ بجذوره في الثقافة والقومية العربية بل والإسلامية التي نتج عنها، فمن نظرة إدوارد سعيد للتعدد الثقافي والفكري بحيث يقرأ في شخصيته إنسانا متجاوزا لأطر الثقافات والحدود المرسومة للمرجعيات الجهوية والفكرية. إلا أن ذلك لا يمكن أن يلغي الأنساغ الأساسية التي شكلت هذه الثقافة الموسوعية، فمن خلال أعماله الفكرية والنقدية والتاريخية المتنوعة لا سيما دراساته عن الاستشراق، أو عن الكونيالية وما بعدها، تبدو خطوط التفاصيل العربية في بواطن تلك الأعمال وإن أخذت شكلها العمومي بوصفها واحدة من مشكلات الإنسانية. إن إدوارد سعيد هو ابن هذه الثقافة العربية وأحد ضحايا التكالب الاستعماري عليها، بوصفه أحد المنفيين عن وطنه الأم فلسطين بما تمثله من عمق ثقافي وفكري، وما تمثله من إشكالية حقيقية بين الثقافة العربية والثقافة الغربية الاستعمارية، وما هي إلا إحدى نتائجها التي مازالت ماثلة للعيان عبر التسلسل التاريخي حتى اللحظة، ومن هذه الإشكالية تتشكل ثقافة إدوارد سعيد في رحم هذه المعاناة ليصبح المنفى عدوا جميلا لولاه ربما ما استطاع إدوارد سعيد أن يصل إلى هذه المكانة العالمية، وهنا نكون والمعرفة الإنسانية مدينين للمنفى بهذه الإضافة التي هي نتيجة تواطؤ غير معلن بين الأطراف كلها بما فيها إدوارد نفسه. إن السؤال الذي ينبغي أن ينشأ هنا هو من يستطيع أن يأخذ بمشروع إدوارد سعيد طالما أنه مشروع إنساني حضاري لا يقف على حدود مقفلة، هذا السؤال موجه للمثقف العربي في الدرجة الأولى، وسيظل مفتوحا على مصارع عدة، فهل نحن بحاجة لإعادة ترتيب منافينا كي ننتج امتدادا لإدوارد سعيد؟!
محمد المحفلي- كاتب يمني

مثقّف أقام في وطن الكتابة

توفي إدوارد سعيد وظلت كتاباته وأفكاره تتنقل بين الأفراد والجماعات باعتبارها إرثا فكريا مؤسسا لترسانة من المفاهيم المتعالية عن كل زمان ومكان. كما شكل فكره منطقا مزدوجا هو الكاتب والمفكر الفلسطيني الأمريكي الذي يتقن اللغتين العربية والإنجليزية فأثرت هذه الازدواجية على نتاجه، فعمد إلى تصحيح العديد من المفاهيم التي اتخذ منها الفرد موقفا سلبيا استنادا على أفكار مسبقة وجاهزة، فأعاد مساءلة مفاهيم من قبيل: السلطة والثقافة والهوية والامبريالية والكونية والاستشراق، فقامت أطروحاته على القيمة وضدها: الاستشراق والاستشراق معكوسا، الثقافة والثقافة المضادة، القومية والكونية.
عبر الفكر الثنائي المزدوج شيد إدوارد سعيد معادلة تسعى إلى تصالح الذات مع الآخر، وإعادة الاعتبار للفئات المهمشة والمغبونة باعتبارها فئات تنتج ثقافة لا تختلف عن الثقافة المكرسة وهذا يبدو أمرا طبيعيا لأنه فلسطيني مغترب عاش في أمريكا وانتمى إلى الأقليات العربية المقيمة بالخارج، الأمر الذي جعله يدافع عن الكونية باعتبار الذات بنت هذا الكون معرفيا وسلوكيا وأخلاقيا بعيدا عن الانتماءات العرقية.
لقد كانت أفكار إدوارد سعيد سابقة لأوانها، قد نعتبرها نبوءات لما سيعرفه العالم العربي من تحولات وتطورات، وما يعرفه العالم العربي من ثورات الآن لا يخلو من تبريرات معظمها تعود إلى الصراع بين السلطة السائدة والضحايا المنكوبين، الأمر الذي جعله يدعو دائما إلى تحقق مطلب الاحترام والتراحم بين الأنا والآخر كيفما كان اختلافنا مع هذا الآخر.
لقد دعا إدوارد سعيد إلى نصرة الفكر الحر الذي يتطلع إلى بناء الحقيقة ويتجاوز الشائعات ويعلو على الفن الجماهيري اللذين يخدمان الايديولوجيات السياسية وكرستهما وسائل الإعلام وأدوات الاتصال الحديثة. لهذا كان من دعاة محاربة تنميط الفكر، وتنميط الحياة.
إن رؤية مفكرنا للمبدع والفنان والروائي لا تخلو من رسالة سامية ومهمة عظمى كلما ارتبط إبداعه بالمعاناة الجماعية الخاصة بالشعوب، وبالخبرات التاريخية التي تجعل منه إبداعا خالدا حتى وإن فارق الحياة. والأمر نفسه ينطبق على إدوارد سعيد حيث ظل خالدا بأفكاره وبأطروحاته التي صارت في متن مشروعه تتجاوز الثنائية القطبية غرب/ شرق إلى الدعوة إلى المعرفة الإنسانية التي يصنعها الإنسان انطلاقا من تاريخه الخاص، ووعيه الذاتي لفهم العالم.
لا يمكننا النظر إلى فكر هذا الرجل الأيقونة إلا على كونه فكرا مجددا ومخلخلا لكل المعتقدات المقدسة التي تنظر إلى المفاهيم على أنها معطيات ثابتة، وترى في الذات البشرية ذاتا نمطية.
الأمر الذي وسم مشروعه بطابعيْ الهدم والبناء، يبني حقائق ويعود إلى مناقشتها في كتاب آخر لتصحيحها أو لتأكيدها أخذا منه بمبدأ تحمل المثقف مسؤولية تمثيل الحقيقة دون السماح لراع أو سلطة بتوجيهه.
* سعاد مسكين- كاتبة مغربية

لم يسمع إلا صوت ضميره الإنساني

عندما أطلق روديارد كيبلنج عبارته الشهيرة «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا» لم يكن إدوارد سعيد قد وُلد بعد، لكنه قُدِّر لهذا المفكر الكبير أن يكون المثال الصارخ على هذا الالتقاء الخلاق بين الشرق والغرب، داحضاً بذلك- وبشكل عملي- نظرية هذا الأديب الإنجليزي الذي سيكون أحد الذين يفكك سعيد أعمالهم ويخضعها لنقد علمي منهجي صارم وغير مجامل، وغير هياب من السباحة ضد التيار. فقد كان إدوارد سعيد «على الريح يمشي. وفي الريح يعرف مَنْ هُو» على حد تعبير محمود درويش في قصيدته البديعة عنه. كانت تجري في جسده وروحه دماء شرقية وغربية ظلت تؤكد أن الإنسان يمكن أن يكون هو الكون بأسره (وليس فقط شرقه وغربه) إن سمح لآفاقه بالانفتاح على السماوات والأرض.
لم يكن سعيد (كما يؤكد في سيرته الرائعة «خارج المكان») يفهم معنى الفصل بين اللغتين الإنجليزية والعربية اللتين كان يفكر ويتكلم بهما معا، بل ونسي بأيهما كان يحلم، على حد تعبير درويش أيضا. ولذا كان جسرا بين ثقافتين بعيدتين ومختلفتين. للغرب قدم صورة مختلفة للعربي المثقف الذي لا يحكم على الأشياء بظواهرها، ولا انسياقا وراء عاطفة دينية أو قومية، بل بالحجة والبرهان وإعمال العقل. وللشرق قدم صورة أمريكا سياسيين ونُخَباً كما هي في الحقيقة لا كما يشتهيها السائرون نياما وراء الإكليشيهات والتنميطات.
يكفي أن سعيدا بدراساته العميقة في الاستشراق أحدث ثقبا ليس بالصغير في جدار صلد فيما يتعلق بنظرة الغرب تجاه الشرق من جهة، ونظرة الشرق تجاه الغرب من جهة ثانية. ولا أحسبني مبالغا إن قلت إن العالم بعد كتاب «الاستشراق» لم يعد هو نفسه قبله. فأقلّه بدأت مساءلة تلك النظرة الفوقية التي «تضع الشرقي في قاعة التدريس، في محكمة، في سجن، أو في دليل موجز لأغراض التحليل المدقق، والدراسة والمحاكمة والتأديب أو الحكم».
لقد كان سعيد المثال الأبرز على ديناميكية العقل البشري وقابليته للتطور ومراجعة القناعات وتقبل النقد بدليل اعترافه بصحة نقد الناقد جيمس كليفورد له بأنّه «ينتكس إلى أنماط النعرة الجوهرانية ذاتها التي يهاجمها» في كتابه «الاستشراق»، قاصدا أنه كان هو الآخر- أي سعيد- ينمط الغرب وينظر إليه ككتلة واحدة لها نفس الخصائص والمزايا والعيوب، ولذلك حرص على تصحيح هذه النظرة في مراجعاته اللاحقة لكتاب «الاستشراق»، داعيا إلى اكتشاف عالم ليس مبنيا على جواهر متعادية.
نقطة أخرى تقفز للذهن ونحن نتذكر إدوارد سعيد اليوم تتعلق بكونه أحد أكبر المدافعين عن القضية الفلسطينية، ليس ذلك الدفاع العاطفي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، بل بمخاطبة الغرب بشكل عام، والأمريكيين على الخصوص، باللغة التي يفهمونها، لغة العقل والحجة والبرهان، وعدم إلغاء الآخر وان كان عدوا. لكن هذا الحب لفلسطين والإيمان بقضيتها لم يمنعه من توجيه النقد القاسي للقيادة الفلسطينية على هرولتها لاتفاقية أوسلو ورضاها بما قدمته إسرائيل من فتات سواء في كتابه «غزة أريحا، سلام أمريكي»، أو في كتاباته وحواراته الأخرى. لذا بقي إدوارد سعيد وسيظل مثالا بارزا وقدوة تحتذى للمثقف المستقل الذي لا يبيع نفسه لسلطة، ولا يسمع إلا صوت ضميره الإنساني.
* سليمان المعمري- كاتب عُماني

اكتشف قارة أدبية في هذا «الجنوب» المهمَّش

لم يكن أمام الطفل، الذي كنته في القسم الخامس من التعليم الابتدائي المغربي في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، إلا أن يتعاطف مع الطفل الزنجي «فرايداي» في القصة المصورة «ربينسن كروزو»، المقتبسة من رواية كتبها الروائي الإنجليزي «دانيال ديفو» سنة 1719. وبقدر ما أعجبت بشخصية «روبينسن كروزو» الميالة إلى المغامرة، أزعجني، بل أخافني نزوعه إلى استبعاد طفل أسود، لا ذنب له سوى الهروب من بني جلدته «آكلي لحوم البشر»، كما تصورهم الرواية بالطبع. وقد ولّد هذا الانزعاج/ الخوف رغبة في الانتقام للطفل البريء- الذي تعاطفت معه، كما سبق القول- من جلاّده الإمبريالي «ربينسن كروزو». هذا ما ولّدته فيّ قراءة القصة المصورة حينها.
لم أكن أعلم أن هذه الرغبة سترافقني من الطفولة إلى مرحلة الشباب، خاصة في المرحلة الجامعية أواسط التسعينيات. وقتئذ، بدأت هذه الرغبة تتحول تدريجيا إلى سؤال فكري، وأنا أكتشف، لأول مرّة، تيارا فكريا ينكب على قراءة مجمل المتن الفكري والأدبي الاستعماري وتفكيكه وتحليله، كان بطله المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد بدون منازع. حينها فقط، أدركت أن رغبتي في الانتقام من «الجلاد» قد تحققت، حتى قبل أن أقرأ القصة المصورة «روبينسن كروزو».
لقد فتح إدوارد سعيد، من خلال كتابه الرائد «الاستشراق» (1978)، باب تفكيك المتن الأدبي الاستعماري على مصراعيه، ليصبح في غضون سنوات قليلة جدا رائد مدرسة فكرية نقدية تحمل اسم ««ما بعد الكولونيالية». إذ استطاع هذا الكاتب الفذ، الذي تأثر أساسا بأعمال الفرنسيين «جاك دريدا» و»ميشيل فوكو»، أن يغير مجرى النظرية الأدبية والدراسات الثقافية، بل أن يسم علوم إنسانية أخرى بميسمه الخاص. ذلك أنه نجح في أن يخلق رؤية جديدة مغايرة إلى أدب ظل، إلى وقت قريب، يرمز إلى قوة الأدب الغربي. فمن ذا الذي كان يستطيع، مثلا، أن يشكك في رمزية أدب فولتير، فلوبير، إرنست رينان، دانيال ديفو، جوزيف كونراد، راديرد كيبلينغ، أو غيرهم من رواد الرواية والرحلة الغربيتين. وبدراسته العميقة لهؤلاء، دفع إدوارد سعيد مجموعة من المفكرين والنقاد إلى دراسة متون أخرى، من أبرزهم «هومي بهابها»، رنا قباني، طلال أسد، ألبرت حوراني، خالد بكاوي، إلخ. وأهم الكتابات في هذا المجال كتاب «الإمبراطورية تكتب ردّا» (The Empire Writres Back) (1989) لكل من «بيل أشكروفت» و»غاريث غريفيتس» و»هيلين تيفين».
لكن أثر إدوارد سعيد لم يتوقف عند هذا الحد، بل ألهم إبداعا أدبيا يرد على مجمل الكتابات الأدبية الاستعمارية، التي انتقدها أساسا في كتابه «الاستشراق». صحيح أن هذا التيار الأدبي بدأ قبل صدور هذا الكتاب بعقود، إلا أنه اكتسب زخما في الثمانينيات. ومن أبرز الأسماء التي أبدعت في هذا المجال: تشينوا أتشيبي، وول سويينكا، ديريك والكوت، نادين غورديمر، إيمي سيزير، حنيف قريشي، الطيب صالح، نجيب محفوظ، غابرييل غارسيا ماركيز… وبالطبع، هناك «جيمس كويتزي»، هذا الأديب الجنوب أفريقي الذي حقق رغبتي الطفولية في الانتقام من الجلاد «كروزو» في روايته «العدو» (Foe) الصادرة سنة 1986. وآخر من حقق هذا الانتقام الروائي الجزائري كمال داوود بروايته «مورسو: تحقيق مضاد»، المرشحة لجائزة «غونكور» الفرنسية، وهو يرد على وراية «الغريب» للروائي الفرنسي «لبير كامو».
هكذا، تحولت رغبتي الطفولية، البريئة بالطبع، إلى شغف متواصل بما ولّدته نظرية إدوارد سعيد- وما تزال- من روايات رائعة. لم أكن أتصور أبدا أن رغبة دفينة ولّدتها قصة مصورة بسيطة ستحفزني- خلال شبابي- على الإقبال على إدوارد سعيد، وأن هذا الأخير سيدفعني إلى اكتشاف قارة أدبية قائمة بذاتها في هذا «الجنوب» المهمش.
* محمد جليد- كاتب مغربي

كان يرى في أبيه شكلا من أشكال السلطة القمعية

«خارج المكان» هو واحد من أجمل وأصدق كتب السيرة الذاتية. فيه يعري سعيد ذاته أمام مرآته ويعرضها للآخر كما هي بانتماءاتها المتعددة المتناقضة والمتصالحة. كتاب حافل بتطورات وعيه بذاته وبوطنه وبالقضايا العربية والإنسانية من حوله. دخل إلى عالم العلاقات الإنسانية وحلل علاقته بوالديه وشقيقاته وأقاربه وأصدقائه. منذ البداية يعلن أن هناك خللا بالطريقة التي تم اختراعه بها: «وقع خطأ في الطريقة التي تم بها اختراعي وتركيبي في عالم والدي وشقيقاتي الأربع». فالخطأ الذي تم اختراعه به هو مرتبط بشكل مفصلي بالخطأ الذي من خلاله حذفت فلسطين من الذاكرة العالمية وتم استبدالها بإسرائيل. لذلك لا نستغرب من كونه يتنقل بالحديث عن التطورات في حياته الشخصية والقضية الفلسطينية معا، بحيث يرتبط الشخصي بالعام، وتلتحم في مواضع كثيرة سيرة ألمه الشخصي بحزنه العام على فقد الأرض. بدؤه الحديث عن طفولته ينطلق من إيمانه الفرويدي بأهمية مرحلة الطفولة في تكوين شخصية الفرد وهويته. وهو ما دفعه للاعتراف بنهاية السيرة ووقوعه بعقدة أوديب من خلال تعلقه الشديد بأمه ونفوره من أبيه، لأن أباه بالنسبة إليه هو شكل من أشكال السلطة القمعية، لذا لا نستغرب أن نجده وهو يحلل علاقاته بالآخر يستثمر خطاب ما بعد الاستعمار بشكل واسع ولتأكيد ضمني بأننا جميعا نخضع لهذه العلاقات بشكل مستمر، صريح أو علني.
وعيه السياسي بالقضية الفلسطينية بدا واضحا بتتبع تاريخ القضية من خلال سيرة عمته نبيهة فهي رمز المرأة الوطن في كتاباته، والدكتور فريد ونضالهما في القاهرة لمساعدة المحتاجين من الفلسطينيين.
في نهاية السيرة يعلن عن عجزه عن القبض على أحد هذه الانتماءات بين فلسطين وأمريكا، بل ينتمي إليهما جميعا، بحيث يكون بيني الانتماء والثقافة لا ينتمي لمكان واحد أو ثقافة واحدة. وكأن عقدة مكونات الاسم طبعت هويته البينية بين إدوارد الإنجليزي وسعيد العربي واختزلت هويته بالمكونين العربي والأمريكي، فكان له من اسمه نصيب راسخ البصمة والهوية، وباتساع أفقه حاول استثمار هذه البينية بشكل إيجابي ومتصالح جدا، فهو أمريكي فلسطيني يعتز بهذين الانتماءين.
الصدق أحد هذه العوامل الهامة المساعدة على قراءة شخصيته كما هي بصورتها الحقيقية كما عرضها هو شاحذا ذاكرته أثناء فترة مرضه لكي ينتج ذاكرة حية وحقيقية غير مخترعة على الطريقة الايديولوجية السياسية في اختراع الذاكرة للشعوب، بل قدم سيرته وسيرة قضيته لتكون شاهدا أمينا على تحولات الهوية الفلسطينية والتاريخ.
* سعاد العنزي- كاتبة كوتية

اللسان العربي الأقوى لنضال شعب بأكمله

في مثل هذا اليوم الخريفي غادرنا إدوارد سعيد، الذي ارتبط اسمه بفلسطين أشدّ الارتباط. رحل تاركا ثروة فكرية ليس في حجمها الورقي أو المكتبي فحسب، بل في تأثيرها الفكري والفلسفي والإنساني على عالم مليء بالتناقضات والمفارقات. ترك إدوارد سعيد خلفه ما جعله يُذكر أمام الزّمن وبصوت صادح قوي. ترك مجموعة أفكارٍ في «الاستشراق» مدوّنة بحبر يملؤه اللجوء والمعاناة. ترك للغرب- بلسان إنجليزي متقن وبفرنسية سلسة وعربية بيّنة- أسئلة عن المصير والمعاناة والعدل. ترك وراءه أسطرا من أسئلة العدل وحق العودة والرّجوع إلى الدّيار.
كان لكتابه الأيقونة «الاستشراق» الصادر سنة 1978 وقع خاص على طبقة سياسية غربية، تفاجأت بالحقيقة الماثلة أمامها عمّا خلّفته من تجهيل وتضليل في المشرق، عن تأثيراتها السلبية في واقع هذا المشرق، عن ترسيخ النزعة الإثنية وتفكيك مجتمعات بأكملها وتجاهل قرون من البناء الفكري والتشييد الإنساني منسوج عبر تداخل متناغم بين الغالبية المسلمة والأقليات المتعدّدة الديانات.
كان بلغة الدبلوماسيين محامي القضية الفلسطينية دون منازع، وكان باعتراف أكبر المنابر الصحافية الغربية: (الصوت السياسي الفلسطيني الأكثر قوة، الأندبندت عدد: 12 كانون الأول/ ديسمبر 2008). وكانت نصوصه، السياسية منها بالخصوص نواةَ أساسية للدراسات ما بعد- الكولونيالية (روبرت يونغ، الكتابة التاريخية والغرب، لندن، روتليدج 1990).
عاش في طفولته بين القاهرة والقدس التي حفظها في دمه وفي قلبه حتى وهو في أمريكا، التي رحل إليها مكرها، ولكنه تمرّس في الدراسة ولاقت بحوثه وأفكاره عظيم التّرحاب في أرفع الجامعات وأعرقها. واصل التدرّج الأكاديمي معتزا بانتماء إلى مشرق أضاء له طريق حريّته المسلوبة. ناقش باكرا (وهو المسيحي العربي) تشكيل الإعلام الغربي لصورة الإسلام في أذهان المتلقي، وأبرز كيف ينظر الغرب إلى الإسلام بعيون الإعلام عبر كتابه: الإسلام في وسائل الإعلام (الغربية) الصادر سنة 1981.
لم يكن انتماؤه إلى أرضه الأم فلسطين ليبعده عن حسه الإنساني المشترك مع بقية الأحرار عبر العالم، حسٌ تجلى في أروع صوره الفنية والموسيقية بشكل خاص، عبر إنشاء مؤسسات للسلام تساهم من خلال نشاطاتها الفنية الثقافية في ترسيخ العيش المشترك في ظل مبادئ الحرية والعدل والمساواة، وحق المرء في العيش الكريم في وطنه أو في عزلته القسرية.
بين تشرين الثاني/ نوفمبر 1935 وأيلول/ سبتمبر 2003، مسيرة حياة حافلة لرجل عانى محبسي الاستعمار والتهجير، وكفاح مستمر في سبيل صوغ الحقيقة بلسانٍ مختلف وبرؤى غير التي عرفتها الإنسانية. سعيد وبرغم آلام الصبا المثخنة بالطرد والتهجير والشعور بغربة المكان ترك إرثا فكريا أعاد للغربيين الضمير كي ينظروا بوعي لما ارتكبته أياديهم من تمكين للمغتصب، وتشريد لصاحب الأرض والتّاريخ. ليس إدوارد سعيد مجرد اسم جمع بين المشرق والغرب في الانتماء العرقي والدّيني، بل هو اللسان العربي الأقوى لنضال شعب بأكمله لا زالت جروحه برغم الحقيقة الجلية تنزف وعلى مرأى ومسمع كل العالم.
محمد فتيلينة ـ روائي حزائري

عبدالدائم السلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية