فيلم «خيال أمريكي»: نموذج زجاجات جوني ووكر

حجم الخط
0

هل يصح القول إن هذا الفيلم سينما سوداء، بمعنى أنه ينقل قصصاً وشخصيات لأمريكيين سود ومجتمعهم؟ وقد نقلتها أفلام تفاوتت في مقارباتها، من الكوميديّة لسبايك لي، إلى التراجيديّة لستيف ماكوين وأنتوان فوكوا، وآخرين نقلوا في معظم أعمالهم قصصاً لأمريكيين سود، من تاريخهم وراهنهم. من العبودية إلى العنصرية، حتى اليوم، وقد تحول كلاهما إلى شكل جديد أقرب لتنميط الأمريكي الأسود وعزله، كما نراه هنا، بكوميديا ساخرة، «خيال أمريكي».
في عمله الذي رشِّح أخيراً لأفضل فيلم في حفل الأوسكار، والذي نال أوسكار أفضل سيناريو مقتبَس، تناول كورد جيفرسون المسألة ذاتها من النسخة المستحدثة لما كانت عليه العنصرية وقبلها العبودية، نسخة ليبرالية واستهلاكية، وهي تنميط الأمريكي الأسود من خلال أفكار مسبقة تجاه نتاجه الأدبي، من ناحية الموضوع، ومن ناحية التصنيف الميكانيني، كرفوف «الأدب الأمريكي الأسود» في المكتبات التجارية، منعزلة عن «الأدب الأمريكي».
الفيلم American Fiction، ينقل بسخرية لاذعة هذا التنميط، من خلال روائيٍّ أسود لا تنال كتبه مبيعات لافتة، يتعامل معه الوسط الأدبي الأمريكي بوصفه أسود أو ممثلاً لجماعة عرقية معينة، لا كمواطن أمريكي مثلهم، فيكون ضمن لجنة التحكيم في جائزةٍ، لرغبة المنظمين إدخال تنويع عرقي على اللجنة. وتكون رواياته في موقع اهتمام أقل من قبل الناشرين، أو القراء، لكونها تحكي عن أمريكيين سود، بخلاف الصورة النمطية، لاحقاً، سيدخل ساخراً هذا التنميط ليرفضه، أو يحاول ذلك من داخله.
يقرر مُنك (نسبة إلى موسيقيّ الجاز ثيلونيوس مُنك) تأليف رواية كما يريدها كل هؤلاء، لشخصيات أمريكية سوداء تكون من خرّيجي سجون وتمارس التهريب والقتل، تكون شريرة على هامش المجتمع الصحي. الصورة التي نقلتها بشكل مكثف وبعيد عن كل ما دونها، السينما الهوليوودية حتى اليوم. حينها فقط، في تخليه عن الكتابة حول أمريكيين سود، مثله، يكونون من طبقة وسطى، أطباء كمعظم عائلته، يُقبَل مُنك في الوسط الأدبي، وفي ذهاب بالسخرية إلى أقصاها تقمصَ شخصية أمريكي مطلوب للعدالة، ألّف رواية مبنية على سيرته كمجرم، واضعاً لها عنواناً هو «فَكْ» ليُسحر العنوانُ الناشرين لكونه «أسود جداً».

نعود للسؤال أخذاً بعين الاعتبار الفيلم ومقاربته، هل يمكن اعتباره فيلماً أسود؟ الأفضل أخذه بوصفه فيلماً أمريكياً ينقل مسألة بعينها، هي سوداء. فالأفلام عن العبودية هي قصة أمريكية جداً، وليست سوداء وحسب، هي قصة المجتمع الأسود والظلم التاريخي الذي أوقعته عليهم مجتمعات أمريكية أخرى، إذن نبقى هنا في الحلقة الأمريكية. أقول ذلك بالتماهي مع رفض مُنك إدراج مؤلفاته في رفوف «الأدب الأمريكي الأسود» ليحملها إلى رفوف «الأدب الأمريكي».
الفيلم مركّب في كوميدياه، لا تتوقف ملاحظاتها الانتقادية اللاذعة في حواراته وفي الخطوات التي يتخذها مُنك، مجابهاً بذلك الحالة المفروضة عليه من قبل نظام أكبر مكوّن من رؤوس أموال مالية مشغَّلةٌ في المجال الأدبي وصناعة الكتب، فالكتاب عندها سلعة، وحين يكون المؤلف أسود لا بد أن تكون السلعة ضمن المتوقَّع من قبل القراء، لا بد أن تدرّ المال، أي أن تكون سوداء، وهذه أيضاً تلبي توقعات المشتري (وهو دائماً على حق في منطق الرأسمال) ليكون الأسود في قصصها منمَّطاً، أي خارجاً من السجن أو داخلاً إليه.
وجّه الفيلم سخريته إذن لا لتنميط الأمريكي الأسود في المجتمع وحسب، بل كذلك لتسليع العمل الأدبي، رابطاً بينهما من خلال أديب أسود واع لهذا التنميط، وذلك التسليع ورافضاً لهما من خلال المواجهة الساخرة، من خلال الإقبال على كتابة أدب مريع وسطحيّ كما يراه، يراعي متطلبات السوق الأبيض، الأدبية، والترفيهية كذلك فهناك من سيهتم بتحويله إلى فيلم سينمائي. ما يعتبره مُنك تنازلاً عن أدبه الجاد والمخلص لذاته.
أخيراً، يُقنع الوكيلُ الأدبيُّ مُنك بالمضي في قبول عرض الناشر، قائلاً إن جوني ووكر، صانع ماركة الويسكي الشهيرة، لم يكتفِ بنوع واحد من الويسكي، فصنع «ريد لايبل» وهي رخيصة ولجمهور غير متذوّق للمشروب لكنه كبير، يسعى للسكْر وحسب، ثم «بلاك لايبل» وهي أغلى ثمناً بقليل، لأصحاب ذوق وميزانية محدودتين، وأخيراً «بلو لايبل» وهي بأضعاف سعر الزجاجتين السابقتين، ولها من يبحث عنها، لكنه أقلّية. فتكون صناعة الويسكي الرخيص، المطلوب أولاً ودائماً وبكثرة، هو ما أتاح لجوني ووكر صناعةَ نوع فاخر من الويسكي لا رجاء مادياً منه.

كاتب فلسطيني/ سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية