«عين الطاووس» رواية اللبنانية حنان الشيخ: ترمّد الذات بالعنصرية ونهوضها بأجنحة موسيقى الراب

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

في مسألة التحكّم بالرواية وفلتانها، يعرفُ كُتّابها أنها أعقد بكثيرٍ من مجرّد مثالِ حصانٍ برّي يتطلّب تطويعُه القدرةَ والخبرةَ وشجاعةَ الفارس، وقد يصحّ فعلاً تشبيه كتابتها بمعركةٍ تتطلّب القائد الفذّ الذي يدير مجريات قطعها بالخبرة وتراكم المعرفة وفهم الساحة، وأكثر من ذلك رؤيوية وشجاعة وتهور الاسكندر المقدوني أو هانيبعل أو خالد بن الوليد، لكي يُنتج روايةً نابضة بالحياة، تحت مبضع النقاد، وفي شرايين القراء، وبين إبر عقارب الزمن.
ويعرفُ الروائيون من تجاربهم وتجارب زملائِهم أنّ كثيراً من الروايات عانت خلال كتابتها من انسداد آفاق جريانها، أو انفلات خيوط ربطها، أو ضياع شخصياتها في منعرجات تحليلها، أو تضارب أزمنتها؛ لتفقد بأيٍّ من هذه الأسباب أو غيرها حماسَ كاتبها في إكمالها، أو قوّةَ إقناع الآخرين بها إن أقدمت دارُ نشرٍ تحت أية ذريعةٍ أو واسطةٍ على طبعها؛ حيث لن تنفع الكاتبُ عند فشلها السّذاجةُ، أو تبريرات خداع النفس، أو محاولات فكّ عقد النقص، أو الغرور الفارغ الذي لا يُنجي منه سوى التمتع بتكوين وألوان وعيون مروحة ذيل الطاووس.
رواية اللبنانية حنان الشيخ الجديدة «عين الطاووس»، التي يكاد أن يكون ثيمةً فيها وشمُ هذا الطير بعيون ريشه على جسد بطلها ناجي، تُحَلّق في الحقيقة بأثقالها المخيفةِ من انفلات حبالها، محمولةً على أجنحة خبرةِ تكوين 13رواية سابقةً ناجحة، ومعرفةِ الساحة المكانية والزمانية التي تتحركُ وتُحرِّك قطعها على أرضها كما يلمس القارئ العارف ذلك بقوة، خلال التنقل في قراءته بين لبنان والسنغال وألمانيا وفرنسا، مع التمتع بثقافة اجتماعية عميقة ضاربة في معرفة وتحليل الأمثال والمعتقدات. ويدركها القارئ بسهولةٍ، مبثوثةً في تفاصيل الرواية، ومترابطةً لخدمة محورها ومستوياتها؛ إضافةً إلى ثقافةٍ موسيقية تؤجج رؤيوية وشجاعة وتهور الشيخ في اقتحام وتفتيت قطع جنود المجتمعات العنصرية المغلّفة بقشور وقيود العادات والأخلاقيات الفارغة الخانقة، التي تشد البشر إلى أسفل، بخيول الرفض الشبابي الناهضة الأكثر جرأة ووقاحة وصخباً في الاقتحام المتمثل بشعر وموسيقى الراب،  حيث يصدح ناجي في أغنية راب «القمل» الذي يرتبط بطفولته البائسة التي صنعت فيها أمه يا سمين من رأسه مزرعةً للقمل تبيعه لصيدليات تزود أثرياء به كعلاج لمنع الجلطات، بعمق وسخرية العبث:
«عدا عن ذلك، يا أصدقائي ويا أحبائي، اكتشفتُ أن القمل مخلوق عنصري، في غاية العنصرية، إذ لم يشأ دخول غابة شعر ريكا الأجعد مع أنها كمدينة الملاهي وليست عبارة عن سهل كرأسي. غابة الشعر الأجعد هي مكان للمغامرة، للهو، وبإمكان القمل التزحلق على استدارة الشعرة، ودخول لولبها المثير./ لابد أن القمل يحب شعر أفلين عشيقة والدي، ثم زوجته؛ كان على أمي أن تتفق معه وتفتح مزرعة في شعرها الأملس الناعم، فيتقاسمان الأرباح 50/ 50. وأخيراً يا سادتي وسيداتي، القمل لاعب جمباز، يقفز من شعر رأسي إلى شعر إبطي ثم يُسرع الخطى ويتوقف عند شعر ما بين فخذيّ، ربما عليَّ أن أشكر القمل، فهو الذي تسلّل إلى عقلي وبحث بين خلاياه حتى وجد خلية القلق، دخلها وما زال يمكث بها. كم أنا ممتنٌّ له، فالقلق هو الأكسجين الذي أتنفسه، هو أكسير حياتي».

إدارة معركة الانحدار والنهوض:

باستخدام بنية خادعةٍ ببساطتها، (سواء في خارجيتها أو بنيويتها العميقة، حيث تتدفق الرواية من دون فصول تساعد الكاتب عادةً على محورة وتركيب مستويات روايته، والقارئَ على التذكّر الذي لا تحتاجه الروايات القوية التأثير)؛ تسير الشيخ بروايتها دون خوف من إفلات هذا التدفق الذي لا يُحكم السيطرة عليه سوى الروائيون المتمرّسون، إذ تهدّده على أقل تقديرٍ ضرورات تداخل الأزمنة والثقافة والخارج والداخل، مثلما يهدده تطور الشخصيات وتحليلها النفسي وانقلاباتها مع تطور الأحداث.
وتعتمد الشيخ في سيرها الواثق هذا على منظومةٍ سرديّةٍ بسيطة بأسلوب سرد الراوي العليم، وصيغة فعل الماضي على مدى الرواية، ولكنْ بمداخلته أيضاً، في الأوقات التي تتطلب ذلك، بمونولوغات اللاوعي وحديث الذات مع نفسها في عودتها لذكرياتها المطمورة المعقِّدة لها من جهة أولى، مثلما تفعل كمثال في الانتقال بغير إشارة من الحديث عن ريكا، حيث: «قَرَّب ريكا وعاء الحليب من الكلبة»… إلى حديث ريكا مع نفسه: «هل هي صادقة يا ترى؟ لا بد أنها تلاحظ خجلي وارتباكي…». ثم العودة إلى سرد الراوي: «جلستْ والكلبة في حضنها…». ومثلما تفعل في العودة إلى الماضي خلال سرد الحاضر في مثال سرد الراوي ماضي حبّ ياسمين لرامي وهجرتها معه إلى فرنسا بعد خيانة زوجها لها وطلاقها منه، انطلاقاً من وصول رسالة الحبيب القديم لها. دون أن يشعر القارئ بهذا الانتقال.
ومن جهة ثانية، بمداخلة الشيخ سردَ الراوي بأغنيات ناجي للراب المعبرة عن سرده الذاتي لقصص تعقيده النفسي من فعل أبيه «العكروت» كما يُطلِق عليه، الذي هجره وأمه إلى كندا مع عشيقته، وفِعل أمّه التي استغلته طفلاً بصنع مزرعة للقمل في رأسه، وشعرتْ بعد هذا بالذنب فأصبحت تعيله وتحميه من المخدرات التي وقع ضحية إدمانه لها، مع قصص تمرّده وسخريته من عنصريةِ اللاجئين أنفسهم تجاه بعضهم، رغم عيشهم في بلاد يتهدّدهم فيها تاريخها العنصري. وذلك بمناصرة ناجي الدائمة لابن خاله ريكا المختلط الجنس واللون بين أبيه اللبناني، التاجر الوسيط الذي كاد أن يكون الشخصية النمطية للمهاجر اللبناني المحتال على سلطات البلاد التي يكون فيها، وأمّه السنغالية المغلوبة على أمر حمايته من خطف أبيه له بالفقر، والذي عانى ويعاني من تراث اللبنانيين والعرب العنصري المتغلغل في أمثالهم الدارجة وكتبهم المقدسة حول تفضيل الأبيض على الأسود.
هكذا يقول ريكا لعمته، بلهجة حوار الرواية بالمحلية اللبنانية الأقرب إلى الفصحى: «لا أنا وصغير زعلْت منّك لأني ما فهمتْ شو قصدك لما قلتيلي مرة بدي إياك يا ريكا تبيّض لي وجهي مش تسوْدُه.»… «وأنا قلت لحالي، ليش عمتي عم تقول ما تسود لي وجهي لأني كنت قاعد حدها؟ يعني هي خايفة أعديها، يعني تنعدى ويصير مجهها أسود مثلي ومشان هيك صرت أدهن كل سكربيناتك بالأسود». وهكذا يأتي اليوم الذي فيه، مهما كانت تفسيرات وروده: «تبيَضُّ وجوهٌ وتسْوَدُّ وجوه، فأما الذين ابيضت وجوههم، ففي رحمة الله هم فيها خالدون».
ولا ينسى ناجي في محاولة حماية ريكا ظلال ماضي تربيته في بيروت التي تلقَّى فيها نار مصطلحات حلوى رأس العبد، سيف العبد، وفستق العبيد الذي كان سودانيون مهاجرون يبيعونه محمصاً في شوارع بعض البلاد العربية، مع الدم الأسود والدم الأحمر من الثقافة والمنتجات الشعبية اللبنانية، حيث: «كم كان ناجي مخطئاً عندما ظنَّ أن سنين الماضي قد ولّت من غير رجعة، ليكتشف أن الماضي واسع الخطوات دائماً، يلحق بالحاضر، ويستولي عليه».
ويكتشف القارئ بقوة تأثير كشف الشيخ مدى ما تفتح الرواية وما تُداخل من عوالم تتكشف فيها أسباب انحدار الذات في مجتمعات اللاجئين ومجتمعات من ألجأهم، ومشاعر الذنب ومواجهة الذات في المجتمعين، من خلال الشخصيات الثلاث الرئيسة: ياسمين، المهاجرة اللبنانية العاملة، الأسيرة لرعاية ابنها، التواقة لفك أسرها بالحب القديم الذي يطرق بابها مرةً أخرى؛ وابنها ناجي، شاعر ومغني الراب الذي غرق في إدمان المخدرات في غربته واستحالات تحقيق أحلامه الفنية واندماجه بالمجتمع الفرنسي؛ وريكا الأسود الأبيض، ابن خال ناجي الطيب البسيط الذي لم يستطع ماضي عيشه للعنصرية كسر طيبته وإنسانيته. هنالك أيضاً الشخصيات الثانوية المهمة المتمثلة بالفرنسيتين ماغي حبيبة ناجي مغنية الشوارع، وباسكال التي تحاول انتشال نفسها من مشاعر ذنب كذبها على الكنيسة التي ترعى الأكاذيب وتقيم علاقة صداقة وحب ورعاية لناجي الذي تكتشف موهبته الفنية وتؤمن به. وكذلك شخصيات الأبوين «العكروتين» المهاجرين اللبنانيين والدا ناجي وريكا، مع شخصيات سكان المجمع السكني من تجار مخدرات ومن بسطاء يعيشون واقعهم بقناعة ومودة.

انفراد ريش الفينيق:

في غرق الذوات وإخفاقاتها، وتضاد هذا الغرق مع محاولاتها الإنسانية للخلاص من مآزقها وانسدادات آفاقها، بتصوير مشوّق متدفق دونما حدود، وحافلٍ بمراجعات الذات وسط جريان الأحداث، توصل الشيخ روايتها من دون إشارةٍ مباشرةٍ إلى مرجعيات طائرها الطاووس ورموزه الفنية والأسطورية، متجاوزةً رمز الغرور إلى الأكثر عمقاً في فهم وترميز الشعوب لهذا الطائر. وتعكس هذا الترميز في التأثير العميق لحركة وتطور الشخصيات، كما في الحكمة البوذية المعكوسة في مائة عين الطاووس، التي ساعدت ياسمين على تفهم دوافع ابنها في أغاني الراب القاسية عنها، مع قارع الطبل البوذي، وكما في روح التمرد الكامن في ناجي، بعصيان «طاووس الملائكة» الشيطان لأمر ربه بالسجود لآدم، طاعةً منه لأمره الأول بعدم السجود لغير الله وفق فلسفة الإيزيديين عنه. وصولاً بذلك إلى الترميز الذي يرفع ويختم الرواية بمستويات عالية من التأثير  تدمع فيها عين القارئ، في نهوض ناجي البهيّ بمروحة طاووسٍ موشوم على صدره، من مستنقع مخدراته، في أغنية الراب المذهلة عن حياته، وسط تصفيق ودموع أهالي المجمع السكني، كما لو كان فينيقاً ينهض من رماده.

حنان الشيخ: «عين الطاووس»
دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت 2023
263 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية