عن روايات غسان كنفاني سرد قصير لملحمة شتات طويلة

حاتم الصكَر
حجم الخط
0

1

لكأنما صنع الشهيد الروائي والقاص غسان كنفاني بصدفة موضوعية فذة، تقابلاً غريباً بين قِصر حياته الغنية بالمواقف والكفاح والعنفوان، وأعماله الروائية المكثفة القصيرة المحتشدة بالصراع والمصائر والتحديات.
لقد نال حصة قليلة هي ستة وثلاثون عاماً من حياة كرّسها مقاوماً ينتمي لوطن مستباح ومحتل. لكنه لم يدع مقاومته مقتصرة على الفعل الحياتي فحسب، فقد ترك إرثاً ثقافياً ثرياً لتلك اللحظات الأولى من الإفاقة للعمل التحرري.
فتح عينيه بسعتهما ليقرأ أحوال الناس في المنافي والملاجئ، ويستبطن أملهم وأحلامهم، وضعفهم أيضاً.
لم يكن غسان كنفاني يطيل سرده، فقد اهتم بخلق الشخصيات التي تتلخص في سيرتها وطبائعها المعاناة الجمعية لللاجئ، وهمومه الفردية أيضاً. كان يركز على حدث جوهري أو مركزي واحد ثم يتركه ليتمدد على أركان الرواية، بينما تظل نقطة التبئير الحدثي هي الواقعة التي يسردها مكثفة. ولربما كان ذلك مؤشراً على صَهره تجربة كتابة القصة القصيرة والرواية، واستلاف بعض الخصائص القصصية لما كتب من الروايات القصيرة التي يمكن درجها في نوع النوفيلا. تلك الرواية التي تكتفي بأن تكون كما وصفها النقاد (أقصر من رواية وأطول من قصة)، احتكاماً إلى شعريتها القائمة على الاختزال والتمركز الحدثي، والتقليل من وجود الشخصيات والزهد بالحبكات الثانوية، والحرص على عدم هيمنتها على المتن المسرود، حماية له من التشتت والترهل.
ويوجب اختيار الرواية القصيرة من الكتاب أن لا يقعوا في إغراء التفرعات الحدثية أو التداعيات المطولة التي تستغرق مساحة كبيرة تجعل التركيز ضعيفاً في جانبيْ الكتابة والتلقي، والانشغال بما يحايث العمل خارجياً ولا يخدم جريانه.
ويستلزم هذا النوع السردي خبرة في الترميز والإيقاع السريع للأحداث وخطّيتها، أو خلفياتها وترابطها وتزمينها، وتموضعها في الفضاء المكاني. مع الحرص على توصيل الدلالة التي لا معنى للعمل بدون إنجازها ببلاغة تجلب معها القدرة على الإحالة المرجعية بشيء من الدقة اللغوية، لأن قِصر النوفيلا يجعل الكلمات في سياقها ذات دور في نموها وتصاعدها الذروي صوب النهايات والمصائر. فيكون للجملة السردية وقع ودلالة لهما ارتباط بالاختزال الشعري والاقتصاد اللفظي لصالح التثبيت والتعيين في السرد.
لقد توفرت ميزتان فنيتان لأعمال غسان، هما التكثيف الحدثي وتركيز سياق السرد حوله، واختيار الشخصيات القليلة التي تتمثل المعاناة وتبدو نماذج دالة على سواها من البشر. شخصيات لا تطيل الحديث أو الادعاء عن ماضيها إلا بقدر ما يربطها بالمستقبل. في روايته القصيرة «عائد إلى حيفا»، 1969 لا ينتظر سعيد س شيئاً كثيرا من زيارة حيفا التي يقوم بها لبيته القديم الذي شُرّد منه. فهو محاط بالنذُر التي تقول له إن المسألة ليست بالسهولة التي يعتقدها: أن يقود سيارته (تحت شمس حزيران الرهيب التي تصب قارها على الأرض)، وبجانبه زوجته صفية ليعيدا البيت المغتصب، والابن (خلدون) الذي فقداه في حيفا عندما فر سكانها من الحرب عليهم مذعورين مضطربين.
تزامن دقيق تصنعه مخيلة غسان بين الشمس الحزيرانية الحارقة ذلك النهار، وألم حزيران النكبة الثانية1967 ومجرياته. لا سيما وأن أحداث الرواية وأفعالها تتم فيه.
استل غسان هذه الجزئية ليلم حولها خيوط السرد، وينسج ذلك المونولوج الطويل الذي يستغرق الطريق من رام الله حتى حيفا. لقد فُتحت الحدود. احتل الإسرائيليون حيفا عام 1948، وهاهم يفتحون الطريق إليها من الداخل باحتلالهم للضفة الغربية كلها عام 1967.
سيكون التبئير الحدثي على بيت سعيد حيث يشهد لقاء عاصفاً ورمزياً بميريام المهاجرة من بولونيا لتسكن بيت سعيد. وتعثر على خلدون في سريره وبأشهره الخمسة. لقد أصبح الآن دوف جنديَّ الاحتياط الذي سيصل إلى البيت مسرح المناظرة حول الحق في السكن والولد. لكنه أصبح شخصاً آخر. خطابه هو خطاب الجندي، بينما أخوه خالد في رام الله يريد أن يعمل مع المقاومة ويمنعه أبوه خوفاً عليه. لكن سعيد تغير الآن بعد ما سمع من خلدون أو دوف حول ضعفهم وهزيمتهم وأنه تربى هنا ولا يعرف سوى أمه وأبيه اللذين ربياه وتشربت فيه كراهية الآخر، بل إنه سيقاتل حتى خالد لو رآه.
أحس سعيد أن المسألة ليست كما تصورها. العودة للبيت تستلزم أشياء كثيرة سيؤمن بها بعد المناظرة والجدل والتداعي المؤلم للذكريات، وتفحّصه لأشياء بيته، وحرصه على السؤال عما تغير فيه، وما فقده حتى ريشتين من ريشات الطاووس المغروز في الآمية.
في النهاية تعمل جملة واحدة عمل الفعل السردي، فيحصل التحول، ويقول سعيد لزوجته: أرجو أن يكون خالد قد ذهب.. خلال غيابنا.
الغياب هنا رمزي، لأنه يعني ذبول هيمنة الجيل الأول الذي اقترن بالهزيمة، وصعود جيل (خالد) الذي بدأ طريقه صوب الحرية.
كم من المعاني والدلالات اكتنزها العمل القصير. لقد لاحق ماضي أسرة ميريام التي سكنت بيته، نزوحها مهاجرة لفلسطين من بولونيا، بينما يهاجر سعيد وأسرته من بيته. ويكون خلدون الذي حسبوا أنهم سيعثرون عليه، قد تغير إلى دوف الذي لا يرضى حتى بنسب أبيه. يقول سعيد: إن دوف هو عارنا، وخالد هو شرفنا الباقي.
المسألة إذن معقدة وخطيرة، وليست مجرد عودة بالسيارة من بوابة إلى البيت.
هكذا فهم غسان كنفاني طبيعة الصراع من أجل الحرية. وهناك هزائم في كل رواياته. يموت الفلسطينيون الحالمون بالعمل في الكويت داخل شاحنة يقودها جريح فقد رجولته في حرب 1948 في روايته الأشهر «رجال في الشمس». فهل يصلح لهذه المهمة؟ لقد تركهم يتفحمون داخل الشاحنة في هجير الصحراء. لكنه بعث رسالة لمتلقيه على لسان أبي الخيزران: لماذا لم تدقوا الخزان لماذا لماذا….
إنه سرد قصير يتمخض عنه قصٌّ لملحمة طويلة كبرى، مستمرة وأبدية.

2

تصف دار نشر ملفل في نيويورك سلسلة إصداراتها الخاصة بالرواية القصيرة النوفيلّا تحديدا، بوضع شعار لها يلخص شعريتها: إنها رواية (قصيرة جدا عن أن تكون رواية، وطويلة جدا لتكون قصة قصيرة). وبقراءة قائمة منشوراتها نتعرف على أسماء روائيين عالميين اشتهروا برواياتهم الطويلة، لكنهم كتبوا الرواية القصيرة؛ مثل جيمس جويس وهيرمان ملفل وهنري جيمس وأنطون تشيخوف وليو تولستوي وإيفان تورجنيف وجوزيف كونراد وسكوت فيتزجيرالد ومارسيل بروست. وفي قائمة الإصدارات نجد كاتبا فلسطينيا يقيم في لندن هو سمير اليوسفي وعمله النوفيلّي «وهْم العودة».
ترغب الدار بعرض ما تراه جذوراً وأصولا معاصرة لهذا النوع الروائي، وتضع له حجما تقريبيا هو ما بين 15000 و40000 كلمة، يُنقصها البعض إلى 20000. وتعد روايات مثل «الشيخ والبحر» لهمنغواي، و«قلب طفل» و«الصيف الأخير» لهيرمان هسَّه، و«مزرعة الحيوان» و«1984» لأورويل، و«المسخ» و«المحاكمة» لكافكا، ضمن هذا الفن الروائي القصير. وكذلك بعض روايات ماركيز مثل «ذاكرة غانياتي الحزينات» و«حكاية موت معلن» و«أنديريرا البريئة وجدّتها»، وكذلك «الغريب» لألبير كامو. هنا تلتم الحبكات الرئيسية فحسب، وتتصل ببعضها بطرق موجزة تلخص أبعاد الزمان والمكان ونمط الشخصيات وأحداث السرد.
مبكراً كان غسان كنفاني يقدم النوفيلا العربية لقرائه بساطة في الظاهر لكنها تمنح سعة في السرد المفتوح على الدلالات والتأويل، حيث يجري تمثيل الطبائع وأفعال السرد. وتقدم لغة السرد وصفاً وحواراً، وتقنياته استرجاعاً أو امتدادا خطّياً بمهمات النمو والتطوير السردي، وصولاً إلى النهايات والخواتم التي يتم فيها التحول الذي يعد سمة فنية وجمالية بارزة للسرد الحديث.
ولما كان غسان ذا مشروع سردي ثوري، فقد عرض الصراع من أجل حرية وطنه بهيئة إشكاليات وحقائق وظواهر في رواياته القصيرة. وكانت وقفتنا عند «عائد إلى حيفا» تريد الإشارة لاقتراح قراءة أعمال غسان بتتبع هذه المعادلة التي حافظ عليها، أن يعرض في متن قصير كل المسألة: ماضي فلسطين القريب وحاضرها، وتاريخها وجغرافيتها، وملامح هويتها وتفاصيل يومياتها، وما في داخل أرواح أهلها من جرح وحلم وأمل. فانضمت رواياته إلى منجز السرد الروائي القصير المؤثر، ونالت مكانتها المستحقة في السرد الذي يقوض سرديات الاحتلال وضلالياتها ويكشف دعاواه العنصرية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية