عمر أبو ليلى.. سيرة الفتى الهادئ المشتبك

يرحل الفدائيّ بسرّه، وحتى لو ترك رسالة يقول فيها وصيّته أو أسباب تنفيذه عملية فدائية، مثلما فعل باسل الأعرج وبهاء عليّان وغيرهما من الشهداء، إلا أن هذه الوصايا تبقى غامضة، لا تروي عطشنا نحن الأحياء، في البحث عن أجوبة لأسئلة تتشعّب وتتدرّج في تعقيدها من المحليّ حتى الوجوديّ: حول الموت والحياة، والوطن والحرية، والمقاومة وجَدْواها.

لا يمكن النظر إلى الشهيد عمر أبو ليلى خارج إطار صورة بانوراميّة شاملة تجمعه ومن سبقوه من شهداء نفّذوا في السنوات القليلة الماضية عمليات ضد الاحتلال بشكل فرديّ، من بينهم مهند الحلبي وبهاء عليان وباسل الأعرج ومصباح أبو صبيح وأحمد جرار؛ فهؤلاء جميعهم من جيل الشباب، طلبة أو متعلّمون، معظمهم من الطبقة الوسطى، منهم من اهتم بالتثقيف الذاتي والمشاركة في فاعليّات وطنية، وما يجمعهم أنهم قاموا بتنفيذ عملياتهم بشكل فرديّ، دون معاونةِ خلايا تنظيميّة أو عسكريّة. وما يميزهم أيضًا أنهم كان أمامهم الخيار ليعشوا حياة عاديّة كغيرهم من الشباب، أي أن قرار كلٍّ منهم بتنفيذ عملية فدائية تمخّض عن إرادة ووعي بالقضية والواقع الفلسطينييْن، لا عن يأس أو إحباط.

وعلى الرغم من تشابه حالة عمر مع حالات من سبقوه، إلا أن ما يميّزه صغر سنّه (19 عامًا)، وعمليته “المركّبة التي لا تشبه سابقاتها” كما يصفها الاحتلال، والذي جاء في تقديراته أيضًا أن عمر عمل وحيدًا دون أن يكون مرتبطًا بخلية ساعدته على تنفيذ العملية أو الانسحاب من مكان تنفيذها.

كما أن الاطلاع على حساب عمر أبو ليلى على “فيسبوك” ــ والذي تم إغلاقه عقب استشهاده كما تم إغلاق حسابات العديد من الشهداء ــ يعطي صورة عن شاب يبدو أنه كان يعيش حياة سعيدة، هادئة وعادية، إذ كان يكثر من مشاركة صورٍ لتفاصيل حياته، يظهر فيها مبتسمًا، وأنيقًا، وهادئًا ومليئًا بالشباب والحيوية. وتكمن المفارقة في أن عمر قلّما أشار في منشوراته على “فيسبوك” إلى قضايا وأحداث سياسية.

إذًا، ما الذي دفع بفتى في مثل هذا العمر، يعيش حياة تبدو هادئة وعاديّة، إلى تقديم نفسه، بمحض إرادته، فداءً لفلسطين؟

رحل عمر دون أن يجيبنا، وليس لنا إلا صوره علّها تخبرنا شيئًا عنه، وأحاديث تصفه مصدرها أهله ومَن عرفوه؛ تقول والدته إنها لم تتوقع أن يقوم بأي شيء من ذلك، فهو لم يحمل يومًا سكينًا. وعلى غير عادته، لم يسلّم عمر على أمّه يوم خروجه الأخير من البيت لتنفيذ العملية، وتخمّن إنه لو فعل وودّعها ربما لن يكون بمقدوره أن يذهب لتنفيذ ما يفكّر به، وتضيف: “لم يقدر أن يراني.. سلّم على جدته ولم يسلّم علي، هذه آخر مرة رأيته فيها”. كان عمر، وقبل أيام من مغادرته البيت لتنفيذ العملية، قد طلب من والدته أن يستلقي في حضنها لتداعب شعره، وهو ما لا يطلبه عادة، فهو خجول كما تصفه، وتقول بحزن عليه: “كان حسّاسًا لدرجة أنه يبكي لأبسط الأشياء، ويحزن على كلّ متضايق..”.

ما الذي دفع بفتى في مثل هذا العمر، يعيش حياة تبدو هادئة وعاديّة، إلى تقديم نفسه، بمحض إرادته، فداءً لفلسطين؟

إذًا ليس لنا إلا صوره، وكلمات أمّه، ومسارٌ اتخذه قبله مجموعة من الشبان الفلسطينيين لتنفيذ عمليات بشكل فرديّ، وهو مسار واضحٌ لا مجال فيه لكثرة التأويل والتخمين. فمع كل عملية جديدة، نتيجتها معروفة غالبًا، وهي الاستشهاد، يترسّخ هذا المسار في الوعي الجمعيّ كظاهرة تعبّر عمّا يمكن تسميته بالصحوة والرفض القاطع لدرجة الاشتباك والاستشهاد، ضمن واقع فلسطينيّ تتعاظم أزماته نتيجة الانقسام، وتزايد السيطرة الإسرائيلية بدعمٍ أمريكي شامل. هذه الظاهرة هي تعبير أيضًا عن فقدان الثقة في القيادة السياسية الفلسطينية، التي طالما وعدت بالخلاص وردّ الحقوق إلى الشعب الفلسطيني، وعن العودة إلى المقاومة باعتبارها الملاذ الأخير، وباعتبارها جدوى مستمرة.

تتراوح صورة عمر في الوعي الجمعيّ بين اتجاهين يظهران في ردود الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي؛ يتجلى الاتجاه الأول في نشر صورٍ له تُظهِره في أوضاع اجتماعية مألوفة، في البيت وفي الحديقة وفي أماكن عامة. الاتجاه الثاني يجد تعبيرًا عنه في مشاركة صور لعمر مرتديًا الزيّ العسكري ويحمل السلاح، بعض هذه الصور معدّل رقميًا، بحيث تم تضخيم الجسد وكسوته بزيٍّ عسكريٍّ مدجّج بالسلاح، ليظهر عمر محاربًا متمرّسًا، وقائدًا وبطلًا أشبه بالأسطورة.

وبين الاتجاهين، تصبح الصورة ساحة معركة يخوضها الفلسطينيون على جبهتين؛ يدرك كثير من أصحاب الاتجاه الأول، الذين يركزون على نشر صور لتفاصيل إنسانية وعادية في حياة الشهيد، أن معركتهم هي الصورة ــ الصورة بمعناها الواسع وبما ترسّخه من أفكار وما تصنعه من وعي، ضد سياسة ممنهجة يتّبعها الاحتلال تهدف إلى شيطنة الفلسطيني وتصويره “كإرهابي”، وبالتالي شرعنة قتله والخلاص منه، بالموازاة مع ترسيخ صورة “إنسانية” عن الجندي الإسرائيلي. هذا نهج واضح في الإعلام الإسرائيلي؛ على سبيل المثال، تم استغلال صورة عهد التميمي، وهي تصفع جنديًا يقتحم فناء بيتها على وجهه، لتصويرها في الإعلام الإسرائيلي، وفي الكثير من المنصّات الإعلامية الغربية، كفتاة “عنيفة” و”همجيّة”، مقابل صورة الجندي الإسرائيلي “اللطيف” الذي “تمالك أعصابه” إذ لم يقابل فعلَ عهد بأي ردّ فعل. الاتجاه الثاني، بتركيزه على صورة عمر كمحارب وعسكريّ، هو تعبير عن الحاجة إلى بطل وقائد؛ ففي ظلّ الواقع الفلسطيني الآخذ بالمزيد من التأزم، وفي ظل عدم وضوح الاتجاه نتيجة النزاعات الداخلية، يجد الشعب الفلسطيني في عمر وأمثاله نموذج البطل، والقائد الذي تحتاج إليه، ليقوّمها، مسيرةٌ طويلة من النضال تصبح متعثّرةً خُطاها. هكذا، مع كلّ خبر عن عملية فدائية جديدة، تصمت إلى حدّ كبير المعارك الكلاميّة حول الخلافات الفلسطينية الداخلية، لتحل محلّها على مواقع التواصل أخبار الفدائيّ المطارَد، وصوره بعد استشهاده، ومنشورات حول المقاومين الذي يقومون بعملياتهم الفدائية بضبط وتصحيح اتجاه البوصلة.

وبين الحاجة إلى “بطل ــ نموذج” يقود مسيرَ القضية التي تواجه الاغتيال والانقسام، والحاجة الملحّة إلى “أنسنة الفلسطينيّ” في مواجة الرواية الصهيونية المشوِّهة والنافية لإنسانيته، تراوحت صورة عمر، مثلما تراوحت صورة باسل الأعرج بين كونه مثقّفًا وبطلًا، وصورة أحمد جرار بين الفدائيّ البطل والشاب الوسيم المحبّ للحياة. وبطبيعة الحال ينتقي الاحتلال من بين هاتين الصورتين، صورة المحارب العسكريّ، لتعزيز روايته المشوِّهة للفلسطيني، وليبرهن أن فتى مثل عمر يستحق الحصار بعشرات الآليات العسكرية والقصف بالصواريخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رياض-المانيا:

    سلمت يداك. مقال معبر وهادف. شكرا لك ورحم الله الشهيد البطل وكلنا على الدرب سائرون ونسأل الله شهادة في باحات الأقصى.

  2. يقول وبشر الصابرين:

    الله ينتقبله من الشهداء
    ربنا يكثر من امثاله
    نيالوووو

إشترك في قائمتنا البريدية