عمارة الذاكرة في أعمال العراقي حسن عبود

جاسم عاصي
حجم الخط
0

الذاكرة مصدر الحواس، ودافع للإحساس ورهافته، بما تحتويه من حيوات تستعيد صور الأمكنة والأزمنة المُغادَرة. والفنان حسن عبود استعان أو مال إلى مفردات الذاكرة بمبررات حالة التغريب الذي يعيش فيه. صحيح إن الأمكنة التي تحتويه ككائن طموح متخمة بالجديد ومتواصلة مع المبتكر بسبب استقرار الوجود، كذلك الأزمنة المستقرة التي وفرت له مناخاً رائقاً ومحفزاً، إلا أن ذاكرته تُزاحمه وتدعه إلى الاستعادة، وهو نوع من البنية النفسية التي نعتها مارسيا إلياد بالعود الأبدي، بمعنى الحنين إلى المستقرات الأُولى التي رافقت نشأته وشكّلت وعيه البِكر. لذا كانت لوحات الفنان تنطوي على مثل هذا الحنين الجارف عبر استعادة شواهد الأمكنة ورموزها. لكنه وبطبيعة الوعي الفني الذي اكتسبه في المهجر غيّر من أُسلوبه في الرسم. فبدلاً من الاستعادة الانطباعية للأمكنة المُغادّرة عمد إلى تقديمها بأساليب فنية تنطوي على جهد فني خالص من جهة وبمواكبة ذكية لما تعلمه وحقق عبر معارفه هي خلاصة التعبير الذاتي أو تأسيس هويته الفنية في الرسم كما سنرى. إنه وضمن جيل كانت لهم الغربة مجالاً لتفتح الامكانية لخلق التوجه الذي يضمن له استقلاليته المنهجية ومنهم الفنان هاشم الطويل وفاضل نعمة لأنهم من مدينة واحدة هي كربلاء. بمعنى تقارب الوعي المبكر وتأثير البيئة ذات النمط القدسي.

الاحتواء

إنَ تغيّر المكان لا يعني نسيانه، وقِدمه واندثار معالمه لا يعني موت صورته. هذه الحقيقة عولجت بشكل واسع، خاصة عند غاستون باشلار الذي اعتبر المكان تاريخا، بل تاريخا مؤثرا ومحفزا لصيغته الموضوعية (الذاكرة) كما ذكرنا. والفنان حسن عبود ركيزته في اللوحة معظم الصور التي ارتبطت بالماضي الذي وجد فيه أكثر تأصيلاً مقارنة بما يعيش داخل الأمكنة في المهجر. وهذا لا يعني المفاضلة، بقدر ما يعني الحنين الذي يشكّل ضاغطا نفسيا يحاول الفنان اختيار سطح اللوحة مجالاً للاستعادة. غير أنه يستعيد ذلك خارج إطار النظرات الانطباعية التي تهتم بالتفاصيل، لذا يعمد إلى الالتفات إلى الاشارات المشار إليها بالعلامات الفنية الخالصة. فلوحته عبارة عن عمارة ذات تراكيب لا تميل إلا للإشارات التي تختزل المشهد المعتمد على الظهور والاختفاء. الظهور النسبي والاختفاء المعني بالأجزاء التي يقرأها تاريخ المكان بحمولاته المتعددة. وبالتالي تعمل اللوحة على مبدأ جعل اللون من يعبّر عن مثل هذه الرؤية التي تكشف عن الوقع النفسي لشواهد المكان الواضحة الدلالة والتشخيص المؤشر بعلامات اللون المتدرج في التشكيل والتركيب، فالداكن والمنفتح ثنائيات تعبّر عن السرائر والقوة النفسية الغائرة في الذات. ولعل بعض الشواخص التي تميل إلى عكس صورة المقدس، هي الأكثر تشخيصاً وتأشيراً إلى ظاهرة الحنين عند الفنان. إنه يُظهر علامات المقدس على هيبة ووقار وقوة تأثير، فهي من بين سرديات اللوحة التي تتعامل مع الرموز عبر ممارسة الظهور والإخفاء الذي يحدده الضوء والظِل، فالضوء يعني التخفيف من اللون الترابي، والظِل تشكله عتمة اللون.
إن جملة الرموز الظاهرة على السطح لا تشكّل زحمة، وإنما بفعل الحركة المتوازنة تخلق توازناً بصرياً يُساهم في تصعيد رؤية المتلقي، بما تمنحه طبيعة اللون والحركة المدروسة مما يفعّل حرية التفسير عبر تأمل بصري جاد ومنتج. فالجدران والشواهد ينظر لها الحس البصري المعتمد على ذائقة بصرية مدّربة على اختيار الجمال حتى لو كان متخفياً بين الركام. فالتراكم في لوحة الفنان نوعي وموحي، بحيث يوفر استجابة للمتلقي الذي يقف موقف المنتج للنص البصري. وهي خاصية فريدة وجدناها عند الفنانين حسن عبود وعلي رشيد. ولوحات الفنان لا تغفل عن ظاهرة توقير الجسد بنوع من الشفافية الفنية سواء باللون أو التجسيد بالخطوط.

عمارة اللوحة

حين اجترحت المعمارية زَها حديد منهجها في تصميم وتشييد العمارة، لم تغفل عن الوظيفة المؤداة، باعتبارها مكانا للإيواء وأداء الوظائف المتعددة والمختلفة. لذا نجد في عمارة لوحة الفنان حسن اختلافا في منهج إنتاجها تصميماً عن غيره من الفنانين، لكنه أيضاً راعى الوظيفة البصرية باعتبار اللوحة عمارة الآخر، أي مصممة للآخر. لذا حاول الاجتهاد في تصميم الأشكال والألوان، وكما ذكرنا كونه حافظ على التوازن في التصميم والتوزيع، سواء في الأشكال والألوان التي شكّلت السردية البصرية ذات المفردات المنبثقة من الذاكرة، فهو يعالج مفردات ذاكرته من خلال حداثة منهجه الفني، وذلك في مراعاة التوازن بين الأشكال والألوان وقدرتها على بث المعاني. فمثلاً من أجل إبراز الأشكال عمد إلى إشاعة الضوء كخلفية للوحة ما دعا المفردات أن تكون أكثر وضوحاً وشاعرية، خاصة إظهار هندسة الجدران وميلها للتعامد وقوة الإصرار على البقاء.
إن مثل هذا الاهتمام من تركيز وتجسيد معني بإبراز علاقة اللوحة بالشعر الذي هو أيضاً يميل إلى التصميم والانتقاء والرهافة الشعرية التي تكتنزها الألوان كشعرية صاعدة بكل ما من شأنه تصعيد الوظيفة الشعرية للوحة، تماماً كما فعلت عمارة حديد وغيرها من المعماريين على أداء الوظيفة الشعرية إضافة إلى وظيفة الإيواء. فاللوحة مكان مرهف لإيواء مشاعر وأحاسيس المتلقي، لكي يكون مساهماً في إنتاج اللوحة بما يمتلكه من متخيّل بصري المضاف إلى متخيّل الفنان.
إن الفنان حسن عبود يركّب تصاميمه الفنية وفق أُسس تُحرك المشاعر الدفينة في النفس البشرية لإنتاج ملَكة التلقي المُنتِج المساهم وليس الناظر العابر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية