المرئيات الخفية في أعمال العراقي علي رشيد

حجم الخط
0

حين ذُكر، أن الرسم شعر صامت والشعر رسم ناطق، فالقول ينطبق على ما توحي به لوحات الفنان علي رشيد، لتؤكد شعرية اللوحة، بما تنطوي عليه من سمات مرئية، تُشير وتوحي بسمات خفية، عبر التعامل مع مكونات اللوحة. فهي لا تتشكل وفق قانون الفرض الصارم بقدر ما تترك المجال متسعاً أمام المتلقي البصري، بل تدفعه إلى أن يكون جزءاً من النص، أي إنتاجه ثانية. وهذا يعني دون شك مدى حيوية اللوحة بمحتوياتها من رموز وإشارات قادرة على خلق الإيحاء وتنشيط التصورات، وفق ذائقة المتلقي ومستوى معارفه.
إن مثل هذا التوجه الفني في التعبير يتعلق مباشرة بمبرراته التي تستند إلى البنية الفكرية، التي يجد الفنان عبرها، إن اللوحة قادرة على احتواء ما يشغله من هم فكري يتعلق بفلسفة الوجود، ومبررات الصراع القائم بين ثنائيات تتناسل باستمرار. ما يعني فنياً إنه يرفض الظِل واقتفاء أثر الغير، أي لا تشكل لوحته ظلاً للوحة أُخرى. وهذا يسحبنا في اتجاه تداول تاريخ الفن من جانب ما قدمه الفنان العراقي من كل الأجيال، فنقف على نوع التطورات الفردية والجمعية الساعية إلى تأسيس الهوية الفنية لكل فنان. وهذا ما يعنيه الفنان رشيد بطروحاته الفنية. إنه لا يغادر منطق الجدل الذي عليه حراك العقل وملكة الذائقة، وإنما يسير بتجربته وفق النهج الذاتي، بما يُحاول ضمن تأسيس منهجه الفني وتحقيق هويته الفنية. لعل الذاكرة هنا تعمل بحيوية للإمساك بمعينات الإنجاز وبكل المتعلقات المرتبطة بالمكان (سطح بياض اللوحة). فهو فنان ينشئ تصوراته وقناعاته الفكرية والفنية (الجمالية) على أساس ما ترمي إليه الذاكرة من ثقل نوعي، بل يجد فيها مصداً واستجابة لما يقدمه جدار اللوحة من مغريات فنية تنشّط الذهن الفني الذي بدوره يفعّل القدرة على الإنتاج. ولعله ـ كما صرّح ـ في كون إشكاليته الرؤيوية ترتبط كثيراً وبدقة وصرامة بصفاء السطح الأبيض الذي يجده متسعاً لاستقبال حراكه الفكري. بمعنى يعمل على إنشاء توجه فني وأُسلوب يناسب تصوراته هذه، التي تصل أحياناً إلى الإشكالية الوجودية، من خلال تداخل مكونات اللوحة لأنه أساسا يوقّر البياض ولا يفرط بنصاعته، معبّراً بذلك عن الكثير من الإجراءات التي أُقيمت خارج إرادة الإنسان. فهو يستل أي يستخرج المعنى العام من الأجزاء التي تشغل السطح، مشكّلة بذلك وحدة فنية تتماسك فيها الأجزاء التي لا تشكّل فائض قيمة.

إطار المتخيّل

نجد في فعالية المتخيّل بشكل عام مرونة فنية، تُمكّن المنتج من التمتع بحرية التعبير دون مصدات تعرقل الانسياب لشعرية المكونات، حتى لو كانت نفسية. المهم عند الفنان حصراً، كونه يتمتع بحيازة استقلاليته الفكرية والأخلاقية على صعيد الإنتاج الفني، لذا فهو لا يراعي منطقيتها وعلاقاتها بالظاهرة وبالأشياء وجهوزيتها، بقدر ما يحققها على أساس العلاقات البنيوية بين الأجزاء التي تشكل لديه جملة رموز وإشارات، لا تعني سوى طبيعة حرية حركته في المكان والزمان، فهو كائن خالق لوجوده ومطور له، من خلال ممارسته الحرية الفكرية التي تتحكم بقدرة الأداء، مستعيناً بمتخيّله الفني، الذي يرافقه زماناً ومكاناً. بمعنى، وهو يمارس فنه وتعامله مع بياض الجدار، لا يغفل عن بنيته التخيلية التي رسمت له سبيل جدية وحرية التعامل في ترك انطباعاته الراسمة لهوية أجوائه الفنية. إنه يسعى لتأسيس اقترب في اختيار منهجه الفني كمعظم الفنانين، الذين تركوا بصماتهم، من خلال خلق الاختيار لمناهجهم الفنية وأدائهم البارع والمقيم في رفوف الذاكرة الجمعية، مكثل لمعمارية زَها حديد التي لم تقف عند منجز الآخر، وإنما استسلمت لإرادة تأسيس منهجها في تصميم وإنتاج عمارتها وفق رؤى ذاتية.

رؤى ومفاهيم

يعمل علي رشيد في ممارساته الفنية في اتجاه التأسيس دائماً، فالبياض عنده مشروع دائم للتأسيس، لذا تستوقفنا القراءة على جملة استنتاجات، محاولة لتقليل المسافة بين قراءتنا وقراءته لما حوله من مجريات. ففي الجانب الذي يخص الحواس والمتخيّل، نجده ينطلق من الحس الذاتي لمراقبة مرئياته، وبالتالي يعمل على الاستعانة بالمتخيّل الفني، الذي يصوغ مرائيه وفق مبدأ الاختزال في التفاصيل، لأنه يرى الأشياء والظواهر بما هي عليه ذائقته الفنية المدعومة بدافع التخلي عن الممكن الجاهز، بل يتعلق بما يراه فقط، معتمداً بالمختزن في الذاكرة من أجل إعطاء القيمة المبتكرة لشكل مخزوناته التي لا تبتعد عن صور الواقع. فقط يعمل على ما هو مدعوم بالمنظومة الفكرية الخفية والدافعة إلى خلق رصانة سردية المحتوى، وفق البناء متعدد التوجهات، مثل التركيب والاختزال والاكتفاء باللمحة والتبصر، بقدرة متخيّله الناظم المركزي لأشيائه على السطح. من هنا نراه غير مقتنع باقتفاء الخطى، بقدر ما يؤسس لخطواته بأريحية الخطوط والألوان، التي تميل كثيراً للصفاء وبساطة التركيب بدرجات متفاوتة في التدرج والاضمحلال التدريجي أحياناً.
كما يراعي المسافة بين المعلن والمخفي، وهو مبدأ فني يترك المسافة المدعومة بحرية التلقي. وكما ذكرنا، أنه يترك المتلقي لأن يكون مشاركاً في صناعة ما هو ماثل على بياض السطح. وبهذا المسعى يكون للتاريخ حيّز. ونقصد بتاريخ الأمكنة والعلاقات الإنسانية، دون مواربة سوى مواربة الأُسلوب، فالسطح لا يقدم خديعة فنية، وإنما يطرح قناعات موضوعية بأشكال يجدها الفنان معبّرة وغنية الطرح، لأنه أساساً يجد في التعبير مجالاً لاحتواء وطرح مكونات ذاتية كجزء لا ينفصل عن المكون العام للوجود. فالجدار يحتوي على مجموعة ظواهر تعبّر عنها، الإشارة الخطية واللونية، وفي أحيان بالكتل الصغيرة التي تغدو مركز اللوحة (الفيكَر). فجداره جاهز بما تجود به ملَكة الفنان وصراعاته الذاتية، التي تتحول إلى صراعات عامّة يلعب فيها الاختزال بالجملة الفنية بصيغ متناوبة ومتوالية، كالصرخة مثلاً. فيما تغيّب ضبابية السطح التفاصيل، لخلق نموذج متخفٍ ومعلن في آن واحد. بمعنى لا يغيّب الفعل صيرورة المعكوس على السطح، حيث تتآلف المحتويات لتنتج وجوها ورموزا وأشكالا مألوفة. فالأُلفة مع الأشياء لا تأتي إلا من رهافة الحس الفني عند الجانبين (المنتج والمتلقي). إن سيادة البياض في بعض اللوحات لا يعني الخلو (الفراغ) وإنما يعني البراءة والبكرية والصفاء، ثم الدلالة على البدء في الإنشاء. إن الفنان علي رشيد، تتجدد القراءة للوحاته بتجدد التمعن بالمرئيات، لأنها تشكّل مشروعاً دائماً في البناء والانتقاء، كذلك قدرة أدواته الفنية المتصلة بقوة مع الإنشاء الدائم.

التقارب والتجاوب

الفنان رشيد لا يتخلى في رسوماته عن أهم الأُسس التي تعينه كغيره في عرض ما يمكن عرضه على سطح اللوحة. ولعل البياض ما يشغله دون معظم الفنانين، بسبب وعيه للعلاقة بين البياض وما سوف يشغله من كُتل وعلامات ورموز. فالأبيض من وجهة نظره وطروحاته الفنية يستفز الذاكرة، لأنه يعني الصفاء الذهني والتأمل المركّز الذي يقود إلى الخلق وتنضيد الحيوات الكتلية والألوان، فهو يرمي بذلك إلى الاستعادة لإلغاء تأثيرات المحو، خاصة محو المكان، فاللوحة بمكوناتها تُعيد صياغة الواقع وفق موازنة جديدة يدعمها التوازن الفكري، فالرسم لديه حضور للمخزون وعلامات ما هو مفتقد. إن المعرفة هي الداعم الأساسي لاستكمال هذه الممارسة، فعنوان (غرقى يحرثون البياض) لديوانه الشعري، يُشير إلى العلاقة بين الرسم والشعر، وهو تمرين ومزاولة للحرية، كما أكد، وهو دال على الخلق الشعري والآخر التشكيلي.
هذه الفعالية تستمر ما زال ثمة طرق تؤدي إلى المتاهات، وهي واحدة من تصورات الفنان، وهي متاهة لا تعني الاستسلام بقدر ما يتم البحث عبر الرسم عن اليقين. بمعنى الاستقرار على خلاصات يقينية، وهي توارد خواطر فلسفية خالصة، تقود إلى يقين محكم، فالرسم لديه ممارسة فكرية ومعرفية لتقصّي الصراع بين البياض والمكونات، الذي يفضي إلى كسره باللون والكُتل، فالمكونات تخفي البياض بضرورة صورة الواقع الجديد القادرعلى تجسيد براءة البياض بحمولاته القارّة والايجابية. فالأثر الذي تتركه الأزمنة يتم تأصيله في المخيلة، فالفنان يفعّل متخيله الفني الذي يقدم أشكالا قادرة على التعبير بحرية. لاسيّما فعالية تقصي اليومي والخروج منه بنتائج مكينة ومتينة الصورة، كما فعل معظم الفنانين عبر التجارب الكبيرة والعميقة التي تركت أثرها البليغ، حيث يمكن الاقتداء بتفاصيلها من أجل البحث عن الهوية الذاتية المجسدة في الأعمال التي لا تشكّل ظلاً للآخر.
يرى الفنان علي رشيد أن الفنان لا يقدم أجوبة للأسئلة عبر اللوحة، وإنما يقدم أسئلة جديدة، بما يثيره في ملَكة المتلقي البصري، باعتباره مشاركاً في تنفيذ اللوحة عبر خلق الأسئلة المتواترة.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية