عالم هاشم شفيق الشعري… معادلة الحرير والحديد!

في استقراء تجربة الشاعر هاشم شفيق يمكن الخلوص إلى أنه أحد أكثر الشعراء، لما بعد الرواد، إخلاصاً للشعر، ليس على صعيد الشعر العراقي فحسب، بل الشعر العربي، أيضاً.
إن العلامة الأوفى على هذا الإخلاص تتجلى في تكريس الشاعر حياته للشعر في رهان لا رجعة فيه. وربما يكون هاشم شفيق الأكثر غزارة على صعيد النتاج الشعري، على الأقل بين مجايليه، فإصداراته فاقت الثلاثين كتاباً شعرياً، عدا عن ترجماته العديدة الموقوفة على الشعر، أيضاً، وهو ما له صلة بالتكريس الشعري، المشار إليه.
وهذه إحدى مزايا الشاعر التي تقطع بجدّيته، ومركزية الشعر لديه، لما تشي به من دأب واحتراف يغدو سمة وجودٍ وهوية باتّة له، مع ما يعنيه ذلك من عنفوان شعري، فهو يعمل وفق مبدأ أنّ «كل صباح جديد/ يفترض قصيدة جديدة» كما في إحدى شذراته الشعرية، إلا أنّ ذلك لم يكن لديه مدعاة لإثارة الضجيج أو السعي لاستجلاب الأضواء والأنظار وتركيزها حول شخصه ونصّه، بل أنّ كل هذا الدأب يكاد يجري في الخفاء، بمعنى ابتعاد الشاعر عن الاستعراضية ونبذها، فهو لا يرى في عمله سوى نوع من شغف وطريقة حياة. أتذكر هنا موقفاً ذا دلالة، وهو يصلح لأن يكون أحد التعريفات الدالة على الشاعر بهذا الشأن، فقد كنا مرةً سويةً في مدينة لوديف الفرنسية، مدعوَين إلى مهرجان شعري يُقام سنوياً بِاسم هذه المدينة، الهاجعة في هدأتها في الجنوب الفرنسي، وفي أحد الأصائل، وكنا جالسين إلى طاولة تظللها شجرة كبيرة، في مكان يطلّ على ساحة تابعة للمهرجان، وثمة غصن مورق يتدلى فوقنا يكاد يحجب الشاعر، قلت له: أنت متوارٍ!
فقال: أنا متوارٍ دائماً.
وقد صدق الشاعر في ذلك، فهو متوارٍ بالمعنى المتقدّم آنفاً، فلا ضجيج ولا مزاحمة جائعة من أجل انتشار مجاني، بل الترفع عن ذلك، مفضلاً الانغمار كليّةً في عالمه، مفسحاً الطريق لقصيدته تتقدمه وتتحدث عنه، لتسطعَ، فيما هو يختار الظل، طائعاً، هادئاً.
وهاشم شفيق من الشعراء القلائل الذين تكون قصيدته مرآة له، فهو يتماهى مع هذه القصيدة، سكينةً وأُلفة، وحياته، بهذا المعنى امتداد لقصيدته، والعكس يصح بالضرورة.

البساطة والحميمية

ونظرة سريعة على عناوين دواوينه الشعرية تبيّن طبيعة عالمه الشعري ونوع انشغاله، عناوين تنتمي إلى قاموس سمته البساطة والحميمية وإقامة الصلة مع قارئه دون كلفة، من ذلك: «قصائد أليفة» «أقمار منزلية» «ورد الحناء» «طيف من خزف» «شال شامي» و.. «هدأة الهُدهُد» هذا الديوان الذي ستنطلق منه القراءة التالية، كونه يصلح أنموذجاً، بدرجة ما، لتمثيل عالمه الشعري، بما يشكله من وحدات ومفردات، هذا العالم الذي بقي الشاعر أميناً له منذ ديوانه الأول»قصائد أليفة» الصادر في بغداد سنة 1978.
وعلى ما يسود عالمه هذا من تجانس، إلا أنه لم يكن ليكفّ عن توسعته وتنميته والسعي إلى توكيد قاموسه الشعري، ديواناً إثر آخر، ليقيم عمارته الشعرية، بتؤدة، دون قفزات أو انعطافات هجينة، مفاجئة، مبتورة الصلة بالتطور الطبيعي للتجربة، أي ما يعني الوعي بمسألة توطيد نهجه الشعري.
ومنذ بداياته عُرف هاشم شفيق بقصيدة الوزن، مواصلاً ذلك على مدى دواوين عدة، وفي «هدأة الهدهد» يتخلّص من إسار الوزن، كليّةً، وكان لهذا الانعتاق أثره في قصيدته التي امتلكت أفقها بعيداً عن ما يحتّمه الوزن، في أحيان كثيرة، من معالجات جراحية للمفردات، تكييفاً لما يقتضيه السياق الموسيقي للقصيدة، أو الاضطرار إلى الاستعانة بالوحشي من المفردات أو حتى قسر المعنى، انسياقاً لضرورة الإيقاع، وكان هذا التحرر مدعاة لإثراء قصيدته، مع الحفاظ على المناخ الشعري الذي دأب الشاعر على إشاعته، وذلك بفعل اللغة المعتمَدة والثيمات الأثيرة لديه بما تحفل به من تفاصيل ودقائق، عُرفت به قصيدته عادةً، تفاصيل تخص ما هو إنساني أو ما يتعلق بمظاهر الطبيعة أو العالم إجمالاً، تفاصيل يقوم عليها معماره الشعري لتكون أحد أبرز الملامح لهذا المعمار، ومصداقاً لذلك، تمثيلاً لا حصراً، مقارباته الشعرية، للأعضاء البشرية فهو يخص اثني عشر عضواً وجزءاً في جسد الإنسان، ابتداءً بالقدم والرأس، مروراً بالأنف والعين وانتهاءً بالركبة والأسنان، في فهرسة هي من صلب نزعة الشاعر في التعامل مع ما يحيطه. ويشير مثل هذا الاهتمام، أي الاحتفال بالتفاصيل، إلى روح متصالحة مع العالم وشهادة على مؤاخاة الأشياء.
يقول، في «دقات الساعة» وهي قصيدة طويلة تتشكل من مقاطع مستقلة، وأحسب أن الشاعر أراد بالعنوان الإحالة إلى تماهٍ بين هذه المقاطع القصيرة الوامضة، المكثفة وبين دقات الساعة في سرعتها وتلاحقها، ومن ثم مجاراته لها في الكتابة:
(الأشجار علامات مقدسة في كتاب الطبيعة/ الإنسان سطر متوهج/ في كتاب الحياة. النجوم أغانٍ/ نسمعها من بعيد. في صينية من قش/ يندثر حقل صغير. في الجناح/ تختبئ سماء مختزلة). وفي القصيدة المعنونة «تحيات.. تحيات»:
نقرأ: (أُحيي الأمشاط والأساور/ والخواتم المبللة بأملاح البحر (….) أُحيي الحياة وأقرباءَها من الفقراء). في هذا الديوان وسواه يفصح الشاعر عن همٍّ شعري منحاز للإنسان بمطلقه، مذوّباً الأيديولوجي في الشعري، كما أنّ طبيعة تعامل الشاعر مع مفردات الوجود وطريقة النظر إليها تقرّبه في أحيان كثيرة من عالم الطفولة، إذ أنه يرعى الطفل الذي في داخله، ما يؤشّرعلامة إضافية للتصالح المنوّه به سابقاً: (مسقط رأسي/ هو ذلك الغصن. مهدي في الصغر/ هو تلك القطرة.
أتمنى إقامة قصيرة/ داخل الأصداف). ومن دون احتساب الحيز الرحب الذي تشغله «الأنثى» في شعره عموماً، لا يمكن اكتمال قراءة عالم هاشم شفيق الشعري، فالمرأة تشكل واحدة من الثيمات الرئيسة في شعره، يرمقها آناً بما هو حسي، وتارةً بما هو وجداني، وهي تمثل لديه في كل الأحوال معادلاً للجمال، والامتلاء الذي يجعل من خواء العالم محتملاً، فلا عجب، والحال هذه، أن يرصد القارئ تمظهرات طغيان موضوعة المرأة، وتجسدها بأشكال متعددة ومتفاوتة، سواء في هذا الديوان أو في بقية أعماله، عدا ما كرّسه لها من كتب كاملة مستقلة.
ولا يكاد يمر موقف دون أن يعلن الشاعر عن هذا الشغف الأبدي بالمرأة وتفاصيلها: (قدم الحبيبة/ مطفأة في قمر/ وأُخرى مقيدة بنسيم القارات/ الأولى تتلاشى في غيم/ الثانية تضيّع خلخالها في حليب،/ إنها قدمٌ عمياء/ لا تعرف الطريق إليّ/ بينما قلبي يرنّ،/ قلبي المشّاء/ حافياً يسير/ باحثاً عن قدمٍ عذراء/ لم تطأ أرضاً قبلي/ ولم تعشق قلباً/ غير قلبي) قصيدة «قدم».
ويقول في قصيدة «الأظفار» متحيّناً التسلل إلى عالمه الأثير، عبر هذا المقطع: (مدهشة أظفار حبيبي المصبوغة/ بدم الياقوت) على الرغم من الجملة الدرامية التي تعقب ذلك مباشرة: (وحزينة أظفار ابن عمي المنزوعة في السجن) يشير هذا التجاور بين ما يمكن تسميته بالأضداد، أي بين ما ينزع إلى ما هو رومانسي وبين ما يشي بما هو دموي، إلى ملمح طبيعي من ملامح تجربة الشاعر ككل، فالتصالح مع العالم المشار إليه آنفاً، لا يعني بأي حال، غض الطرْف عمّا هو مأساوي أو كل ما يحطّ بالإنسان، بل على العكس، وكما تم التنويه من قبل عن انحياز الشاعر الإنساني، فإنّ تجربته في مجملها قائمة على قطبين متنازعين، يمكن إجمالها بعنوانين رئيسين، الأول هو الانتصار للجمال بكل تفاصيله ومفرداته ومكوناته، والثاني هو مناوأة القبح وأعداء الجمال، وتجليات ذلك في الطغاة والقتلة والجلادين وبائعي الأوطان والمأجورين وكل مظاهر الظلم، وما يمتّ إلى ذلك. من هنا تأتّى عنوان هذا المقال الذي يرى في سيرة شعر هاشم شفيق منازلة بين قوتين أو قطبين، وما يستتبع ذلك من لغة مناسبة أو طريقة تعبير، ومن المهم الإشارة إلى أنّ الرفق الذي يبدو عليه هذا الشعر في جانب من جوانبه، لا يمكن له أن يحجب صلادة موقف الشاعر، كما يكشف عنه شعره في جوانب أُخرى وهو يتمثّل هذه الصلادة.

«بورتريه طاغية»

إن موضوعة مثل موضوعة الطاغية بما يعنيه هذا من دمار وخراب وترويج للحروب وكسر للإنسان وسلب لحريته، هي من الموضوعات التي طالما ترددت في أعمال الشاعر، و«هدأة الهدهد» ليس استثناء من ذلك، ففي القصيدة المعنونة «بورتريه طاغية» وعلى مدى إحدى عشرة صفحة، يُسائل الشاعر الطاغية عن جرائمه وعلى مختلف الصعد، وقبل كل شيء يسأله سؤال الحرية: (أيها الطاغية/ قل كيف تسنى لك/ وضع كل هذه الزنازن في قلبك/ تُمدّد الصحراء على لسانك/ وتأكل النجوم التي كانت مكدسة/ على سطوحنا يوماً/ أتلفْتَ نسيمنا أيها الطاغية/ قل أيها الطاغية كيف حملتَ الوطن على كتفيك ذات صباح وابتعدت لكي تفككه في العراء). إلى أن تخلص مساءلاته واستنطاقاته إلى التعريض بكتَبة قوافي المديح للطاغية: (حدثني عن طبقات الشعراء وعن مجدك المحفور على ألسنتهم/ حدثني عن القوافي المنثورة/ فوق كراسي الألماس).
إن النبرة الهادئة التي تبدو عليها قصيدة هاشم شفيق، إجمالاً، تنطوي في الوقت ذاته على اضطرام داخلي واحتجاج هدفه الإنسان، ليكون ذلك نوعاً من «سياسة» تعتمدها القصيدة.
وفي ختام هذه القراءة لابد من القول أن مقالاً كهذا محدود الكلمات لا يتسع لكل الأبعاد التي تمثلها تجربة الشاعر كاملةً، وما تعنيه، ضمناً، من تنوّع في اللغة والموضوعات والمعالجة، والتي تحتاج، حقيقةً، لأجل استيفائها إلى كتاب وربما ما هو أكثر.
وقد كان طموح هذا المقال التوقف عند كل قصيدة من «هدأة الهدهد» لا سيما قصيدة «بعض الليالي» التي كان هناك مشروع مقال مستقل مكرّس لها، هذه القصيدة «المدوّرة» بفعل تلاحق أسطرها، وإن كانت متحررة من الوزن! فقد بدت كما لو أنها جملة واحدة قيلت بنفَس واحد، ويمكن عدّها ضمن الممارسة التجريبية للشاعر، وهي تذكّر بالتجربة الثرّة لقصيدة «صخرة الأنثى..
رمال الرجل» المنشورة في ديوان «ورد الحنّاء» والمتحررة بدورها من الوزن. وكما يكتب الشاعر في آخر قصيدة من «هدأة الهدهد» (مَرحباً بالغابة توفد مندوباً أخضر) كان كتابه هذا، غصناً أخضرَ من غابة مورقة، هي شعره بالمجمل، والذي يمثل لقارئه ظلاً بارداً يُستراح إليه في وقت الصهد، وبه تُستعاد الرؤى المتخيّلة عن روح الشعر الحقة، وقد باتت في زمننا هذا مفتقدة أكثر فأكثر.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية