حيدر حيدر: يوميات الضوء والمنفى

حجم الخط
0

في الأزمنة الصعبة، وفي الأوقات الجريحة والأيام المطعمة برائحة التمرد والثورة والحلم بالتغيير، تعرّفت إلى «الفهد» أو إلى حيدر حيدر، الذي كتب هذه الرواية يوماً. مشواره كما عرفته وكما بيّنه هو في «يوميات الضوء والمنفى» كان يشبه سيرة الأبطال الثوريين، أولئك الذين قرأنا لهم، أو مرّوا في حياتنا كالحلم، أو كضوء خاطف، لكنه الحلم الجميل والمثقل بالحياة بكل تنوّعها وتمفصلاتها وتمظهراتها الزمنية، خصوصاً زمن بيروت، زمن المقاومة الفلسطينية والعربية المتجسدة بالحركة الوطنية.
في ذلك الزمن الحالم والزمن المقاوم والزمن المفدّى، ظهر حيدر حيدر روائياً وقاصاً ومناضلاً من طراز فريد، شرساً وعنيداً، ثابت الرأي والبصيرة والفكرة التي لا تتغير مهما تغيرت الأزمنة، وتلونت الأوقات وظهر العاجزون وهم يحمون وقتهم وسمتهم المتلونة وتاريخهم المشوب بالشبهات.
ها هو ذا حيدر حيدر في «يوميات الضوء والمنفى» يسلّط الضوء على بعضهم من خلال مسيرته الناصعة، وعبر نضاله اليومي في صفوف الثورة، وفي صفوف حركته السرية اليسارية، التي كانت تنادي بالتحدّي والتمرّد والتصدّي للطغاة وزمرهم من باعة الأوطان وباعة القضية الفلسطينية، ومن ثم المضي من أجل السقوط في الهاويات، تلك التي كان يبشر أصحابها برفع الرايات البيضاء والاستسلام للحاكم وللعدو في آن واحد. هناك في بيروت في مطلع الثمانينيات التقيت بحيدر حيدر الروائي أولاً، والمناضل الذي لا تلين شوكته ثانياً.
حيدر حيدر شخصية دمثة ومحبة وساخرة، وأيضاً هو شخص قلق وعنيد وشرس في بعض حالاته، لكن حين يكون في مواجهة الحق، أو حين يكون أمام الحقيقة، فهو هنا سيندفع بكل عنفوان من أجل الدفاع عنهما، دون حساب لما سوف يحدث، أو ما سيلحق به من خسائر وأضرار، جراء مواقفه الصلبة العادلة والشريفة، تلك التي لم يحد عنها طيلة حياته قيد أنملة أبداً. حيدر حيدر روائي مشاغب منذ بداياته ومنذ ظهور قصصه المتحررة الأولى في بعض المجلات العربية. وقد ازداد الغضب عليه أكثر وأكثر حين نشر روايته الشهيرة «وليمة لأعشاب البحر» تلك التي صدر منها أكثر من طبعة، ومنعت في أكثر من بلد عربي. إنها رواية تخطت التابو وكسرته في اتجاه الرأي الحر، والقول غير المقيّد والأفكار غير المعتقلة.
في بيروت سيقف حيدر إلى جانب الضعيف، في مواجهة القوي، إلى جانب المقاوم إزاء العدو المسلح بأحدث الأسلحة الحربية، فكان هناك وراء المتاريس، يزور المقاومين في الجنوب اللبناني، ليرى الواقع عن كثب، ليرى الحياة بكل تفاصيلها، ليرى كيف يعيش المقاتلون يومياتهم، لقد سهر وأكل ونام مثلهم، وعرف من هم هؤلاء الذين يضحون بحياتهم الشابة من أجل الحق المضاع في فلسطين. كتابه «يوميات الضوء والمنفى» يكشف عن سيرة تتوزعها سوريا ولبنان والجزائر وفرنسا وقبرص، سيرة كاتب أسير الثورات، والأحلام التي لم تتحقق، لكنه خاض غمارها بكل ما يملك من رؤى وأفكار وتصورات.

الشخصية المركزية في الكتاب هي سارد الذكريات حيدر حيدر الذي جاب المنافي ليؤكد الثورة، ويعلي من شأن القضية الأساسية فلسطين، حارب كدونكيشوت الطغاة بما يملك من كلمات، ومن مفاهيم علمية تنويرية، انتمى إلى حزب ماركسي، وناضل في صفوفه، حزب سرّي، في عالم مفتوح على الجهل والمال والسلطة، وهو يخوض مع رفاقه غمار الثورة المستعرة في نفوسهم قبل أن تستعر في خلايا الحزب الماركسي، ناضل واختلف مثل أي مناضل على الأسس الصحيحة والحيثيات والمنهج، لكنه سيخيب، لأن القضايا الكبرى تحكمها أطر كبرى من المصالح والخفايا اللاعلمية، في أزمنة الطغاة المؤبدين، ما أدى بالقضية المركزية إلى أن تعوم وتطفو في تيار من الأهداف غير السليمة، ثورة يشوبها التردي ذو المسوح البيروقراطية، بحيث تتآخى هنا الثورة مع العهد الثابت للحاكم والطاغية الراسخ العهد، طغاة جاءوا باسم فلسطين ورسخوا في نهج الحكم، الذي تدرج في الفساد حتى اهترأ، لكنه لم يسقط، بل راح يوغل في الدموية وحكم الاستبداد. بلدان عربية رفعت شعار الوحدة والحرية والاشتراكية لتكون حسب شعارها المرفوع ذات رسالة خالدة، لكن الرسالة كانت قاسية ودموية تلك التي أرسلت للشعب المحكوم بقبضة من حديد، والوحدة بنت الأسوار العالية بين البلدان العربية، والحرية كانت تُظهر عكسها وهو إقامة المزيد من السجون والمعتقلات لحاملي الرأي المغاير والفكر المختلف.
وهنا، حسب سارد اليوميات، حتى حزبك الذي ناضلت من أجله سينقلب ضدك ويهاجمك في صحفه الوطنية ويشنّع بك، مثلما حدث للكاتب المسرحي سعد الله ونّوس مع حزبه الشيوعي، وحيدر حيدر مع حزبه اليساري الماركسي. لقد لفّ حيدر حيدر البلدان من أجل حمل رأي حزبه، حتى الرسائل كان يغامر ويسافر من أجل إيصالها الى رفاقه الثوار في الجزائر، لكنه هناك كان مراقباً من قبل رجال المخابرات، وكان شخصاً غير مرغوب فيه في الجزائر، فصديقته الجزائرية وحبيبته ستعتقل وتدلي بمعلومات عنه تحت التهديد، ويتم منعها من استمرار العلاقة معه، فسافر إلى ليون في فرنسا وأقام هناك من أجلها، ومن أجل البريد الحزبي المنقول من خلاله إلى الرفاق في الخارج، وبذلك سيخوض المجازفات ويعيش حياة الكفاف في كل من ليون، ومن ثم باريس، شارداً في الشوارع، ملتقياً هذا الرفيق أو ذاك، لكنه سيجوع ويعرى فيقرر السفر إلى بيروت، ويدخل سراً إلى قريته «حصين البحر» في طرطوس ليرى أم أولاده وأولاده ورفاقه القدامى، وقبل أن ينكشف أمره سيغادر أيضاً عابراً الحدود إلى طرابلس لبنان، ومن هناك إلى بيروت منتمياً إلى المقاومة الفلسطينية المسلحة.

في بيروت سيعمل في وكالة «وفا» للأنباء وينخرط في جو الثورة والمقاتلين، مكملاً مسيرته الثورية، ومواصلاً نضاله الحقيقي في الثقافة الفلسطينية. لكن حيدر الرافض وغير المحايد والثوري والكاتب الأصيل والحقيقي لا يقبل بكلمة نعم المزوّرة، أي أنه لا يقبل بالخذلان حتى مع عمله ومكانه وسيرته الثورية الجديدة، ليعلن وبوجه صريح رأيه المناقض والمختلف مع بعض المسؤولين الفلسطينيين الذين أصبحوا مثل مسؤولي بعض الدول العربية، تلك التي تستجوب وتفصل وتعتقل وتسجن، ولها جهاز مخابراتي وأمني يحارب من يرفع صوته ويقول الحقيقة في وجه هذا المسؤول أو ذاك. سينخرط حيدر حيدر في الجو الثوري لبيروت وثقافتها اللبنانية والعربية والفلسطينية، منغمساً في تفاصيلها الكثيرة إلى أن يحين موعد رحيله إلى قبرص عاملاً في مجلة مع سعدي يوسف هي «الموقف العربي» ومن ثم تركه هذه المجلة لظروف وملابسات لا مجال لذكرها الآن والعودة إلى بيروت، ليشهد حصارها، ثم الرحيل مجدداً إلى قبرص عاملاً في مجلة فلسطينية هي «البلاد» وحين يستوفي المنفى وصاياه يأزف الرحيل مرة أخرى إلى بيروت عام 1986 ومن هناك إلى «بحرون» أرض الطفولة في «طرطوس» لتختتم الرحلة الصعبة والمسيرة المرهقة لروائي أتعبته المنافي.

 شاعر وكاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية