اقتراف الندم

حجم الخط
0

من النادر أن تجد اليوم في عالم الشعر امرأة تكتب الشعر الموزون المقفّى، ذلك أن قصيدة النثر ذات الحمولة الخفيفة تجعلها قابلة لدخول المؤنث بسهولة إليها، فهي الأقرب إليها في مثل هذه الأوقات المفتوحة على كل الاحتمالات التقنية التي تواجهنا بتطوّراتها كل يوم وساعة.
لقد بات سمة بائدة وتقليدية أن تكتب شاعرة ما قصيدة كلاسيكية، فالشعر الحالي، وما يستتبعه من نقد، ينظر إلى شاعرة قصيدة التفعيلة نظرة فيها شيء من عدم الرضا، كون هذه الشاعرة التي تكتب بالوزن لا تلتفت إلى شعر ما بعد الحداثة، شعر النساء اللواتي يكتبن الشذرة والومضة الشعريتين، وممن يكتبن بطرق فنتازية ملتوية ليدهشن الناقد أولاً، المتسلح بالنظريات الغربية الجاهزة، من أجل أن يكتب عنهنّ كلاماً ملغزاً وغير مفهوم، ليعدنّه في النهاية، على إنه نقد حداثي قد سبر عوالم قصيدتهنّ المتطوّرة، تلك التي تقع في طرق ما بعد بعد الحداثة الشعرية!
لا نريد هنا أن نغمط حق جميع الشاعرات، فبعضهنّ يعَين دورهنّ وقد كتبن أجمل ما كتب في قصائد النثر، وهنّ عديدات في البلدان العربية، لكن اللواتي كتبن بالوزن كنّ على الدوام قليلات، فقصيدة النثر السائدة حالياً فتحت الأبواب أمام الجميع ليقول ما يدور في ذهنه: خاطرة ما، فكرة معيّنة، شذرة عاطفية، شطحة صوفية، تعابير أنثوية حالمة، تمتمات داخلية، هواجس وجدانية، لواعج لغوية مغلّفة بملامح شعرية، رؤى معيّنة نثيرة، كل هاته الترسيمات وجدت طريقها إلى قصيدة النثر الحالية، وقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على نشر هذا الطوفان من الكلمات، التي يقول أصحابها إنها قصائد نثر خارقة وفارقة وحداثوية البعد، بتعبيرهم وتفسيرهم ووصفهم لهذه لقصيدة التي يكتبونها ويحملونها أكثر مما يجب. لذا حين نقع على ديوان شعري فيه قصائد موزونة لشاعرة عربية، سننظر إلى الديوان نظرة مختلفة، متأنية في القراءة، لنرى ما ينطوي عليه هذا الديوان من جديد.
من هذه الدواوين الشعرية وقع في يدي ديوان «اقتراف الندم» للشاعرة الفلسطينية الأردنية هناء البواب، وهي شاعرة مطبوعة ولها لونها التعبيري الخاص بها، ما جعلها تتميز في هذا المجال الشعري ذي المسحة الإيقاعية والذبذبة الموسيقية، وهي تنحو نحواً ميلودياً، حافلاً بالتراجيع النغمية وصداها الأفقي. تتوزع الديوان عدة اقترافات، وهي على التوالي: اقتراف الحب، اقتراف التيه، اقتراف الشوق، اقتراف النأي، اقتراف الندم.
إذن نحن هنا أمام خمسة اقترافات، كل اقتراف يوضح الهاجس الفني الذي يحمله، الدوافع والأسباب التي جاءت به، فالشوق على سبيل المثال يؤكد حالته الداخلية، يؤكد لوعته ويؤكد الحرقة التي يخلقها البعد عن الحبيب، حتى نجد أنفسنا أمام نوع من التراسل السديمي، تراسل الشيفرات والعبارات والرموز، عبر الكيمياء التي يحملها هذا التراسل للآخر البعيد والنائي، وربما الجافي والمُنادى عليه، من خلال ترجيعات ومناشدات ولهفة موجعة تستدعيه ليطفئ نار هذا الشوق المشوب بحالات من الترقّب إلى الآخر، العاشق، الذي ربما لم تصله شواظ الشوق وجمراته الحارقة:
« يا رجلاً يتقطرُ عشقاً
وأنا طفلٌ أجري خلف الثلج الأبيضِ،
أضحك من لغة القلب الخرساءْ،
في هذا الوقت من الليل تغيب الأرواح بعيداً
في فلوات الأرض،
جرحٌ يتفتح قبل الورد النائم خلف ظلال الوقت،
يغزو جسدي
الوقتُ يمرّ ويسحقني،
بوح الورد هناكَ
أدوس على حبات الثلج المنثورِ
في وادي النورْ».
المناجاة والتلهف والشجو مفردات جوهرية تؤطر هذا الديوان الذي اقترف الندم، ومضى يرقب آلهة الشعر أن ترحم الحبيب وتغمره بالأناشيد والتراتيل الحبيّة الشائقة، لكن هذا الحب العاصف والحارق لا يخلو من الهجران وربما حتى الخيانة، فالندم قد تكرّس وأصبح موضوعاً ونوعاً من التسرية لروح العاشق، ندم يعلو ويحيط بالجسد الشاكي، ليكون صنو العاشق الحقيقي الذي رأى الحب في وجهه الآخر، وجه الصدود والنكران، والهجر الذي يفرض إقامته على العاشق المترقب والبعيد، المترصّد لخطى الحبيب، كما توضّحه هذه التراجيع في قصيدة «خيانة» وهي تطرح التآويل والمكابدات والتهجُّد الباطني:
« أنا هنا
وحدي أصلي
أرفع الكفين
أصفعُ خيبتي
فتردّني صفر اليدين
كئيبة وحدي مضيتُ
غموضُ آدم لم يزل
سيفاً على عنقي».
فالصلاة هنا هي صلاة العاشقة، وهي تتولّه وتتمتم في محراب الحب، من خلال صلاتها التي تؤديها لوحدها، مشفوعة بالخيبة، مكتئبة تفسّر غموض آدم وتنعته بالسيف على العنق، لاجئة إلى حسن الصورة وترتيب الاستعارة، بعناية ودقة داخل العبارة الشعرية لكي تستطيع في المآل إيصال المقصد والهدف المراد، حتى ولو عبر السياق الرمزي.
وعندما نتوغّل أكثر في متون الديوان وهوامشه، سنعثر في طيّات هذا التوغّل على صوت أنثوي جريء، مجازف بلغته الشاعرية وبوحه السرّي، الذي يغدو في ناحية من نواحيه مكشوفاً وبارعاً، في ما يختزنه هذا البوح من مراميز وإشارات ودلالات، تشي بالإيحاء البيّن والوافي:
«أنا الأنوثة خفقة اللفظ العميقِ
بما احتوى من رفعة المعنى
وأنا الحنانُ شريعتي
الحبُّ دين» .
وبذا تتخذ النبرة الإيقاعية في «اقتراف الندم» تموّجها النغمي ذا السبيل الكنائي، المتّسم بسعة البعد الموسيقي، هذا البعد الذي يهيمن على مجمل القصائد، فيشدّها ولا يدعها تنبر أو تتناشز، بل يتركها تجري كماء رقراق يُريك صفاء الدفقة النغمية، وصوتها المتواتر في رشقات الأبيات الشعرية، وهي تتراص لحنياً، ليكون قوامها رشيقاً ومدوزناً:
«حين تجلى وجهكَ
في مرآتي
كان الحبُّ جنيناً أخضرْ
كان اللحنُ مرايا».
أما الثيمة التي نستجليها، وتستحوذ على الفضاء الدلالي للديوان، فهي ذلك الغياب والنأي، وكل ما له صلة بالبعد وأنسقته التعبيرية، من ترقّب وانتظار وشوق وتولّه، لا ينتهي ويزول إلا بالحضور والمثول بين يدي الحبيب العاشق، المعذّب المكتوي بالانتظار، والصابر من أجل أن يحدث التلاقي، ويتم التناغم، وصولاً إلى تجديد مقامات الغرام حسّياً، ومن ثم بث النفثات الروحية والتداعيات الحبيّة بين يديه، وشخصه المجسّد بالحضور.
إنّ ما يلفت في الديوان أيضاً، تلك الرسوم، أوالسكيتشات التشكيلية التي وضعها الشاعر والفنان محمد العامري على مدى صفحات هذا الديوان ، وهي في الحقيقة لوحات حبرية بارعة، تستكشف وتستنطق أبعاد هذا العمل الشعري ومكنوناته الداخلية، بحيث أتت لتكون المُكّمل الفني والدلالي والإشاري الواضح لهذه الأشعار، وأيضاً الدليل الجمالي لها.

شاعر عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية