ضجر كلها الحياة!

بالأمس فتحت عيني على ما نفعله جميعًا لحظة الاستيقاظ: قراءة مهام اليوم على صفحة السقف. وجدت أنني مطالب بكتابة هذه الزاوية وبعدها سفر عنيف يشبه القتال المتلاحم في شوارع مسدودة وطرق خطرة من أجل زيارة مجاملة. قضيت ساعة لا أرغب في النوم أو الاستيقاظ. شعور يعرفه الإنسان ولو لمرة واحدة في حياته، لكنه عندما يتحول إلى عادة يكون مؤشرًا على خلل لا شفاء منه. افتقاد الدافع يسميه فرناندو بيسوا ‘الضجر’ ويُعرِّفه بأنه الحالة الروحية التي تستوي فيها الرغبة في الموت والرغبة في غيره. الشاعر البرتغالي الذي يعتبر نفسه مفطورًا على الضجر، مات مطمئنًا إلى تفسيره معتقدًا أنه لم يتوصل إليه إلا بعد طول تأمل. لكن معاجمنا العربية تُجمع على أن الضجر هو القلق من الغم والبرم والضيق. وهذا التخريج أدنى إلى الصواب، وهو الذي يمكن أن يفسر معنى الحياة على الأرض، ومن ضمنها حياة بيسوا الضجران نفسه.
طبقًا لتعريف بيسوا؛ فالضجر هو ‘اللامبالاة المطمئنة’ وللسخرية؛ فقد ترك الشاعر هذا التعريف في مؤلف يحمل عنوان: ‘كتاب اللاطمأنينة’ ولو كان صادقًا في لا مبالاته ما ترك وراءه ذلك الكتاب أو غيره، بل ما ترك أي مبدع آخر أثرًا.
بسبب الضجر أي القلق من الموت يجتهد البشر في ترك علامات على وجودهم، يختار كل منهم الطريقة التي يمكن أن يترك بها علامته المميزة طبقًا لقدراته، بعضهم يختار بناء الأهرامات، البعض يؤلف الموسيقى، يكتب الشعر، والبعض ينجب الأطفال. نوبة قلق من الموت تدفع الإنسان إلى العمل، ثم تتبعها موجة برم بالحياة تدفعه إلى الشك في قيمة ما عمل؛ ذلك الشك الذي يأخذ دائمًا شكل تحدي السابق ومحاولة تجاوزه، يتمثل أحيانًا في صورة اليأس من ذلك التحدي، واليأس يدفع البعض إلى الكف عن المحاولة أو محاولة تحطيم ما فعل، لكنها حالة لا تدوم طويلاً.
لو اطمأن بيسوا إلى تفوقه ما اجتهد وترك شيئًا مذكورًا، ولو كان صادقًا في إحساسه بتساوي الوجود والعدم لأحرق كل ما كتب، لكنه ـ مثل كافكا وغيرهما من الضجرين المراوغين ـ ترك ما كتب لكي نجده من بعده، أي لكي يحيا رغمًا عن الموت، ورغمًا من تصريحه المنافق بتساوي رغبتي الموت والحياة في روحه.
ربما ما أحس به بيسوا، عندما كتب مقولته هذه، كان السأم لا الضجر. بعض المعاجم تساوي بين اللفظين، لكن ‘السأم’ هو الملل حتى من المتعة، والشخص السئم أقرب إلى اليقين. زهير ابن أبي سلمى، الذي سئم تكاليف الحياة، كان أدنى إلى طلب الموت من بيسوا الضجران.
الضجر يحرك التاريخ في مجراه الطبيعي، والسأم يصنع لحظاته الهزلية والمأساوية. السأم هو الذي دفع زوجتي الملكين الشقيقين في ألف ليلة وليلة إلى خيانة زوجيهما. وما فعلته شهرزاد على مدار الليالي هو دفع السأم عن الملك، الذي افتض وذبح قبلها كل أنثى تتحمل الوطء في مملكته. لم تمح الحكايات أمثولة الخيانة، بل دعمتها ليلة بعد ليلة وحكاية بعد حكاية، لكنها في مقابل ذلك خلقت شغف شريار بالحكاية من خلال النقص الذي تتعمده في نهاية كل ليلة.
كاليجولا، الامبراطور الذي عين حصانه عضوًا في مجلس النواب، تطوع بعض المؤرخين واعتبروه مجنونًا، بينما اعتبر البعض قراره شغفًا وكلفًا بالحصان. لماذا لا يكون القرار الساخر سأمًا من طاعة البشر وجبنهم؟!
كيم جونج أون رئيس كوريا الشمالية لم يعين حصانه في البرلمان بل نفسه، بفوزه قبل يومين أصبح كيم نائبًا في برلمان بلاد يملكها بمن عليها. كيم النائب عليه الآن أن يراقب أعمال كيم الرئيس! أليس هذا سأمًا؟ مواطنو دائرته دفعوه إلى مزيد من السأم بالتصويت بنسبة مائة بالمئة لصالحه. كان بوسع ناخب أو اثنين أن يداعبا ضجره من خلال التصويت بـ ‘لا’ أو إتلاف الصوت، وكان من شأن ذلك دفعه إلى التعبير عن ضيقه بإعدامهما، لكن سكان الدائرة ـ بسخرية تامة ـ زودوه بالمزيد من السأم، ربما لكي يقترب خطوة من مصير مأساوي ينتظره أو تنتظره البلاد!
سأم الإمتلاك يدفع الشخص السئم إلى تجربة ما لم يجربه وامتلاك ما يتصور أنه خارج دائرة ملكيته، لهذا تطلع صدام إلى كتابة الرواية، القذافي فعل الشيء نفسه، وفاقه بالسأم من قيم الحداثة والمعاصرة فعاد بالخيمة والناقة إلى ماضي البداوة وبالحارسات الأمازونيات إلى ماضي الحضارة.
تسأم الشعوب فتكف عن الفعل فيتسلط عليها طغاة يسأمون فيوغلون في التسلط فتضجر الشعوب وتقتلهم لتسأم مجددًا، وهكذا.
ضجر الشعوب العربية فجر الربيع، والسأم هو الذي يدفع الجماهير إلى موجات من الشك في جدوى ما أبدعت.
ضجر الحرب هو ما يجعل الفلسطينيين ينجبون أطفالاً للموت، وما يجعل السوريين ينجبون وسط الكر والفر كذلك، بينما يدفع سأم السلام أوروبا العجوز إلى التوقف عن الإنجاب.
مؤخرًا كنت في المجر، وكان المرشد السياحي يُعرِّض بشبابها علنًا أمام السياح. تقول الدعاية السياحية التي تبثها سماعات الباص السياحي بكل اللغات:’البلد الجميل يبلغ مجموع سكانه عشرة ملايين، بدأوا في السنوات الأخيرة بالتناقص، وإذا كنتم تريدون معرفة السبب اسألوا الشباب’. ولم أكذب خبرًا، سألت من قابلني ومن قابلنني من شباب وشابات موفوري الصحة: لماذا توقفتم عن الإنجاب، قالوا جميعًا دون سابق اتفاق: إنه السأم.
السأم من الجمال أعادني لأكافح القبح. وقد حملني الضجر على مغادرة الفراش من أجل الكتابة والسفر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو سامي د.حايك:

    لقد كانت رحله طويله و ممتعه و أنت تنظر إلى السقف حاربت فيها الضجر و من الطريف أن المتشعب من الأفكار يأتي في وضع استلقائي أكثر منه في وضع عامودي بعكس الكتابه و لهذا غادرت الفراش و أمتعتنا بهذا المقال !

  2. يقول eng.Gamal Abdel Nasser:

    المقال رحله ممتعه بذاته ..
    الله عليك بجد .

  3. يقول ميشيل _ فرنسا:

    كم نحتاج الى هكذا مقالات تلقى لنا بالضوء على سير الكون و حقيقة الطبيعة البشرية بكل ما بها من غرابة وتناقضات وإمكانيات لنبصر ونعقل ونفهم البعض القليل بلا جعجعة وبلا افتخار زائف وبلا تخيلات غير واقعية
    تحياتى للاستاذ عزت آنا آتشوق كل اسبوع لمقالك الذى يمتعنى كثيرا ويتركنى لعدة ساسعات أتأمل افكاره وفى كثير من الاحيان أعيد القراءة لأستمتع مرة أخرى
    ميشيل

  4. يقول ghassan salama ----u.a.e:

    ابدعت يا استاذنا العزيز في كتابتك ووصفك الذي يشمل بكل معنى الكلمة الحياة وتناقضاتها وندعو لكم الله عز وجل ان يحفظكم . نتمنى على استاذنا العزيز ان يجمع مقالاته في كتاب حتى نتمكن من قراءة ما فاتنا من مقالاته الرائعة والتي دائما نحن بانتظارها صباح كل يوم سبت من كل اسبوع ,,,,,,ودمتم بحفظ الله

إشترك في قائمتنا البريدية