بعْد مجموعة من الإصدارات في مجالات القصة والنقد واللغة، يفاجئنا الكاتب المغربي ابن أصيلة أبو الخير الناصري، بكتاب رحلي يحْمل عنوان فِتْرٌ وشِبْرٌ (رحلات داخل المغرب) صدر عن مطبعة الخليج العربي تطوان 2024 في 185 صفحة من القطع المتوسط، وتزين غلافه لوحة للتشكيلي محمد العربي المسناني. يتألّف هذا الكتاب من ستة نُصوص رحلية ناتجة عن أسْفار قام بها الكاتب خلال سنتي 2021 و2022، تعدّدت وجهاتها داخل المغرب (عبد السلام بنمشيش، القصر الكبير، الرباط، تطوان، وشفشاون في مناسبتين) وقد تعدّدت أغراضها بين الديني والثقافي والسياحي، لكن رغم هذه التعدد في الوجهات والأغراض، فقد أبدت لنا قراءة الكتاب وجود ثلاث سمات ناظمة لها.

لقاءات مع أماكن

يخلق السفر للكاتب ألفة مع الأماكن، وهذا ما يفسر عودته إليها في أسفار لاحقة، من جهة، وما يفسر، من جهة ثانية حضور ذكريات مفعمة بالحنين المتواصل إلى أماكن بعينها في تطوان والقصر الكبير وفي شفشاون، التي تؤكد أن فعل السفر تجديد للصلة بأسفار ظل أثرها حاضراً بقوة في أعماق وجدان الكاتب. وهو ما يقوي من رغبة الكاتب المتواصلة في السفر إليها مجدداً، إلى جانب تحفيز من موانع طارئة كالحجر الصحي، الذي فرض بسبب جائحة كورونا أو الانغماس في مشاغل الحياة؛ يمر الزمن فيجد الكاتب نفسه قد اشتعل حنيناً إلى أماكن لها منازل في قلبه، ويصر على زيارتها والإقامة فيها (الفنادق) والجلوس فيها (المقاهي) والأكل فيها (المطاعم) والتجول فيها (الساحات والشوارع) ) والصلاة فيها (المساجد) التي تضاعف فعل السفر وتؤكد تعلّق الكاتب بأماكن بعينها، بعد أن صارت لها مكانة خاصة في أعماق نفسه لأنها تذكره بأحداث وأشخاص، وبالتالي يغدو السفر ارتحالاً متواصلاً إلى أمكنة وأزمنة يظل وقعها في نفسه، بل يتفقد بعض الأماكن ويرصد أيضاً ما طالها من تحولات مثل، مقهى سمير بالقصر الكبير الذي تحول إلى قيسارية.

لقاءات مع أشخاص

تأكيداً لمقولة رولان بارت الشهيرة «السفر لقاء» تبدو لنا نصوص أبي الخير الناصري حافلة باللقاءات؛ فعلى الرغم من تنوع أغراض السفر في كتاب «فتر وشبر» إلا أن ما يوحد نصوصه الرّحلية الستة هو لقاء كاتبها مع بعض من أصدقائه ومع كتاب وفاعلين ثقافيين في الأماكن والمدن التي زارها أو من توافدوا عليها إما للعمل أو السياحة، كان اللقاء مع بعضهم مرتباً ومخططاً له (محمد أملال، عبد الكريم الطبال، محمد الباغوري) في حين كان مع بعضهم الآخر مفاجأة من مفاجآت السفر الجميلة (إبراهيم الصغيري، مريم الناصري، عثمان الحمياني، عبد السلام المنصوري). وما زاد من قيمة هذه اللقاءات هو ما دار فيها من نقاشات هادئة في مواضيع شتّى، امتدت من المشاغل الثقافية إلى الهموم الاجتماعية والسياسية، تكشف عن الواقع وتعبر عن المأمول، تثمن الإيجابي وتنقد وتشجُب السلبي. وكان من ثمرات هذه اللقاءات أنها سمحت للكاتب بتقديم بورتريهات عن مجموعة من الشخصيات والفاعلين الثقافيين في الأماكن التي زارها (عبد الكريم الطبال، الشريف العسري) أو عمن رافقوه في السفر (محمد الباغوري وابنه حسام). وبالتالي كان السفر عند أبي الخير الناصري متعة متحققة في هذه اللقاءات.

لقاءات مع الذات

ثالثا: انسجاماً مع واحدة من دلالات السفر في اللغة العربية، والمتمثّلة في كون تسمية السفر سفراً جاءت من الإِسْفار لأنه يكشف عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فقد حفلت رحلات أبي الخير الناصري بمجموعة من المواقف والوضعيات، سمحت له بالحديث عن الكثير من جوانب شخصيته وسيرته الذاتية؛ إذ كشف أبو الخير الناصري غير ما مرة عن أذواقه وعمّا يحب من عادات (التجوال/ الجلوس في أماكن مخصوصة/ لقاء أشخاص صاروا علامات مميزة للأماكن) وبذلك يصير تحويل السفر إلى نص فرصة للبوح بعادات المسافر (الحرص على ضبط المواعيد، الاستيقاظ من النوم تبعا لحالاته بين الحل والترحال). وهو ما يسمح للنّص الرّحلي بالانفتاح على السيرة الذاتية للكاتب كالحديث عن تكوينه وما ساهم من قريب أو من بعيد في تكوينه واختياراته وأذواقه وتصوراته للكتابة والحياة؛ سواء من أساتذة، أو من توجيهات أصدقاء، أو مداومة اطلاع كتب لكتّاب بعينهم ومجلات عربية معروفة، أو الاستماع إلى برامج ثقافية في إذاعة طنجة الثقافية، كما تحدث عن خطواته الأولى في الكتابة والنشر، كما سلط الضوء على بعض كتبه وظروف تأليفها ورهاناتها.
هكذا جسّدت أسفار أبي الخير الناصري داخل المغرب في بعدها التواصلي لقاءات ثلاثية الأبعاد؛ لقاءات مع أماكن صارت لها مكانة خاصة في وجدان الكاتب، وكانت دافعاً قوياً قاد إلى مضاعفة فعل السفر من جهة، ولقاءات مع أشخاص مفعمة بحوارات في قضايا شتى وكان من ثمراتها تقديم بورتريهات عن بعضهم من جهة ثانية، وكانت من جهة أخرى لقاءات مع الذات بالكشف عن أذواقها وعاداتها وتكوينها لأن السفر في جوهره سفر في الذات المسافرة.