ذوو شهداء انتشلت جثثهم من خان يونس يروون لـ«القدس العربي» تفاصيل رحلة البحث بين روائح الموت

بهاء طباسي
حجم الخط
0

غزة – «القدس العربي»: في 27 مارس/ آذار الماضي، استقل أحمد عمار، 37 عاماً، مركبته الأجرة (توك توك) من منطقة مواصي خان يونس، واتجه إلى محيط مجمع ناصر الطبي، لتوصيل بعض النازحين من محيط المستشفى بعد اقتحامها من قبل جيش الاحتلال، وإجبار النازحين في المشفى والمنازل المحيطة به على مغادرته نحو جنوب غزة.
ولدى وصوله إلى محيط المجمع استهدفه قناص إسرائيلي من على سطح إحدى البنايات، فأصابه برصاصتين واحدة في البطن والأخرى في اليد، أسفرتا عن استشهاده على الفور، وقام جوند الاحتلال بدفن جثمانه في المقبرة الجماعية التي أنشأوها في ساحة المجمع، وعُثر عليها مؤخراً بعد انسحاب قوات الاحتلال من هناك في السابع من أبريل/ نيسان الجاري.
ومنذ تاريخ 27 مارس/ آذار يبحث علي عمار، 75 عاماً، وهو نازح من جورة العقاد غربي خان يونس إلى منطقة المواصي، عن جثمان ابنه دون جدوى. لكنه تمكن من التعرف على الجثمان، أمس، ضمن جثث المقبرة الجماعية المكتشفة في ساحة المجمع منذ 6 أيام مضت.
النازح السبعيني شعر بارتياح ضميره بعد العثور على جثة ابنه وإكرامه بالدفن. ويقول لـ «القدس العربي»: «تعرفت عليه من الإصابات الظاهرة في البطن واليد، بعدما حاولت الطواقم الطبية في مجمع ناصر إنقاذ الشهيد قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، إذ لجأ الأطباء لتخييط مكان الإصابة في البطن، ووضع جبيرة على الكسر الذي لحق بعظام اليد بعد الإصابة بالرصاصة الثانية».
ويضيف: «كان ابني يرتدي الملابس الطبية قبل دخوله إلى غرفة العمليات في مجمع ناصر، حيث لقي مصرعه، وقام جوند الاحتلال بدفنه في المقبرة الجماعية».
ويشير إلى أن «ابن عم أحمد كان برفقته أثناء الاستشهاد، واستشهد هو الآخر برصاص جيش الاحتلال، وتم دفنه في المقبرة ذاتها، حيث استطعنا أيضاً التعرف على جثمانه».

مقبرة جماعية

وفي 24 يناير/ كانون الثاني الماضي، وصل إلى فؤاد عبد العاطي نبأ استشهاد شقيقه علاء برصاص قوات الاحتلال ونقْله إلى مجمع ناصر، فحاول الشاب أن ينقل جثمان أخيه إلى المقبرة، لكن العمليات العسكرية للاحتلال في المنطقة منعته عن ذلك، نظراً لأن جيش الاحتلال كان يجتاح مدينة خان يونس ويقتل أي هدف متحرك.
دفن فؤاد شقيقه في مقبرة أقامها الغزاويون داخل مجمع ناصر، بعد أن كتب اسمه على كفن أبيض، واختار مكانًا يجاور شجرة نخيل، وحفر قبراً وغطى فتحته بباب خشبي بدلاً من البلاط الحجري، ثم وارى الجثمان الثرى، ووضع حجرين كشاهد للقبر.
وفي السابع من أبريل/ نيسان الماضي، بعد انسحاب قوات الاحتلال من خان يونس، عاد عبد العاطي لزيارة قبر أخيه تمهيداً لنقله إلى مقبرة المدينة، لكنه لم يجده، خصوصا وأن النخلة التي كان يميّز القبر بها اقتلعتها قوات الاحتلال. ويومياً يأتي عبد العاطي مع والدته نوال بحثًا عن جثة أخيه دون طائل، وهما الآن موجودين في محيط مجمع ناصر.

دفن عشوائي للشهداء

رائد صقر، قائد مهمة انتشال جثامين الشهداء في مستشفى ناصر، يوضح أن جيش الاحتلال نبش القبور التي حفرها الأهالي في ساحة المستشفى، واستخرج جثامين الشهداء بحثاً عمن سقطوا قتلى من الأسرى الإسرائيليين أثناء الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة، ثم أعاد دفن تلك الجثث فوق بعضها بشكل عشوائي وهمجي في مقبرة جماعية واحدة.
ويشير لـ «القدس العربي» إلى أنهم استخرجوا جثث 332 شهيداً من المقبرة الجماعية في ساحة مجمع ناصر الطبي بعد 6 أيام من العمل المتواصل هناك، حيث جرى دفن نساء وأطفال وشيوخ وشباب قُتل بعضهم في عمليات سابقة لجيش الاحتلال في خان يونس، وآخرون نُقذت إعدامات ميدانية بحقهم بعد اقتحام قوات الاحتلال للمشفى.
ويقدر كادر جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة عدد الشهداء في المقبرة الجماعية في ساحة المجمع بحوالي 400 شهيد، وفقًا للبلاغات التي تلقوها من الأهالي، موضحاً أنهم يحتاجون إلى عدة أيام من العمل المتواصل إلى حين إنهاء مهمة استخراج جثامين الشهداء بالكامل، نظرًا لضعف الإمكانات لديهم.
ويبين أن نسب التحلل بين الجثث متفاوتة، ما يؤكد نبش القبور من قبل جوند الاحتلال، وإضافة جثث حديثة تمت تصفيتها خلال الإعدامات الميدانية في المستشفى إلى أخرى قديمة قُتلت في عمليات عسكرية سابقة للاحتلال.
ويشير إلى أنهم وجدوا أكفاناً كتب عليها باللغة العبرية وأخرى لشهداء مقطوعي الرأس، بالإضافة إلى بعض الجثث مكبلة الأيدي والأرجل.

مدينة الموتى

ويصف عبد الله الأسطل، أحد العاملين في جهود الإنقاذ، الوضع داخل خان يونس بالـ «الكارثي»
ويؤكد لـ «القدس العربي» أن «ما حدث في المدينة الواقعة جنوبي قطاع غزة، أفظع مما حدث في شمال القطاع».
ويضيف: «عندما دخلنا إلى خان يونس لم نجد فيها أحياء، وكنا نشم رائحة الموت بقوة. رائحة تحلل الجثامين منتشرة في كل موقع داخل المدينة».
ويشير إلى أن أغلب الجثث المكتشفة تعود إلى نساء وأطفال.
وحتى كتابة هذا التقرير، تحدث كل خمس دقائق عملية انتشال لشهيد من مقابر جماعية دفن فيها جيش الاحتلال مئات الأحياء من النساء والأطفال والرجال بعد أن أعدمهم في مجمع ناصر ومحيطه، فيما تظهر على نطاق واسع عملية انتشال جثامين الشهداء، إذ تبدت جثث متحللة ومقطوعة الأطراف، وأخرى سُرقت أعضاؤها من قبل الاحتلال قبل دفنها.

عالم متخاذل

معتصم الأسطل، 35 عاماً، مواطن فلسطيني فقد أمه مطلع شهر مارس/ آذار الماضي، وتعرف على جثتها بين الجثث التي تم انتشالها من المقبرة الجماعية في ساحة المجمع، أمس الأربعاء، فيما أصيب بالصدمة بعد أن وجدها ميتة، إذ كان يأمل بأن يعثر عليها حية تُرزق، كونها امرأة طاعنة في السن «لا علاقة لها بالحرب الدائرة منذ أكثر من 6 أشهر على أرض قطاع غزة».
وبوجه متحسر وعينين مغرورقتين بالدموع يخاطب معتصم العالم المتحضر، الذي «صمت عن قتل الأبرياء»، فيقول لـ «القدس العربي»: «‏يا أيها العالم المنافق والصامت والمتخاذل. يا أمم متحدة. يا محكمة العدل الدولية، يا منظمة المؤتمر الإسلامي، يا دول عدم الانحياز. يا مجلس الأمن. يا حكام العرب، وصل عدد الذين انتشلوا من المقبرة الجماعية في مستشفى ناصر إلى الآن 283 جثة متحللة، كانت مقيدة بالسلاسل».
ويضيف: «هذه مقبرة واحدة من عشرات المقابر الجماعية في غزة، والكثير منها لم يكتشف بعد. أطباء ومرضى ونازحون وأطفال ونساء، كلهم أعدموا ودفنوا، لو اكتشفت هذه المقبرة في أوروبا أو أمريكا لقامت الدنيا ولم تقعد» .
ويتساءل: «هل دماؤنا نحن رخيصة إلى هذه الدرجة؟ أين أنتم. هل تسمعوننا؟ أم أنكم ترون وتتجاهلون؟ سنسألكم ونحاسبكم أمام الله».
أحمد عارف أحد شهود العيان في محيط مستشفى ناصر يشير إلى توافد الأهالي إلى محيط مستشفى ناصر الطبي في خان يونس، للتعرف على جثث أبنائهم التي تم انتشالها مؤخراً، فيما لا يزال البحث جاريًا عن مفقودين آخرين.
ويضيف لـ «القدس العربي» أن بعض الأهالي فشلوا في التعرف على الجثث متحللة بشكل كبير. شهداء مجهولون لم يتم التعرف عليهم حتى هذه اللحظة.
ويوضح أن جيش الاحتلال لجأ إلى دفن الجثث بطريقة عشوائية سرّعت من تحللها وطمس معالمها، فيما يؤكد أهالي المفقودين أن الاحتلال حاول إخفاء ما ارتكبه في حق أبنائهم في انتهاك واضح لكافة المواثيق والأعراف الدولية.
ونجح أهل الشهيد ياسر القاضي، البالغ من العمر 40 عاماً، في التعرف على قبره في ساحة مجمع ناصر الطبي، بعد أن وجدوا القبر مكتوباً على شاهده: «شهيد مجهول ناصح وطويل لابس رداء توتي».
وكان ياسر القاضي قد استُشهد برصاص قناصة الاحتلال في المجمع في 11 فبراير/ شباط الماضي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية