خنيفرة المغربية: قلاع تستحضر أمجادا تاريخية وتكشف أسرار الهوية الأمازيغية

عبد العزيز بنعبو
حجم الخط
0

الرباط ـ «القدس العربي»:  هي مدينة مغربية واقعة على ضفتي نهر أم الربيع في أحضان جبال الأطلس المتوسط، تعددت ألقابها بين «جوهرة الأطلس» و«مهد المقاومة» و«مقبرة الفرنسيين» إلا أنها احتفظت باسم واحد: خنيفرة؛ قيل إنه مستمد من راعي غنم عاش قديما، فحمل اسم خنفر وفق روايات قديمة، في إشارة أيضا لقدم المدينة ولقيمها الأصيلة الضاربة في عمق التاريخ، حيث المعالم التاريخية شاهدة على ذلك.

هذه المدينة تتميز أولاً بتاريخها؛ فهي عاصمة قبيلة زَيان الأمازيغية منذ القرن التاسع عشر. وكانت المدينة تشكل آنذاك رصيدا استراتيجيا في المحور التجاري الممتد من مكناس إلى مراكش. وفي نهاية القرن التاسع عشر، عُيّن موحا أوحمو الزياني، أحد وجهاء المنطقة الغيورين عليها، قائدا للمدينة من قبل السلطان مولاي الحسن الأول، فقام بتطويرها.
ومن أهم معالمها التاريخية قصبة (قلعة) موحى أوحمو الزياني، التي بناها السلطان المرابطي ابن تاشفين على أطراف أم الربيع، وقام السلطان العلوي مولاي إسماعيل بترميمها سنة 1688 في إطار بناء المحور الاستراتيجي المتجه من مكناس مرورا بأزرو ثم خنيفرة إلى مراكش. وثمة أيضا نصب تاريخي آخر يتمثل في قصبة ادخسان. كما تقع بالمدينة القنطرة العتيقة المولى إسماعيل التي أُنشئتْ بدورها سنة 1688. وقد تم تصنيف القصبة والقنطرة تراثا وطنيا من قبل وزارة الثقافة، تأكيدا للجسور الممتدة بين ماضي وحاضرها في الذاكرة الجماعية لمختلف الأجيال المتعاقبة لساكنة المدينة.
ومن ثم، فمدينة خنيفرة تعرف كيف تكشف عن أسرارها، سواء من خلال سجلها التاريخي الزاخر، أو من خلال تراثها وثقافتها الأمازيغية، حيث توجد عناصر جذب وتميز، تتمثل في قصباتها وجسرها وأسواقها ومركزها الحرفي بسجادها الزياني ومصنوعاتها من خشب الأرز، دون ثقافتها الشعبية وفرقها الموسيقية التي يتم إبرازها كل سنة خلال مهرجان فني يهدف إلى تعزيز الثقافة الأمازيغية من خلال الفرق الفلكلورية واستعراضات الفروسية والعروض الموسيقية واللقاءات الثقافية.
وخنيفرة أيضا الواقعة على بعد حوالي 170 كلم من مدينة فاس و300 كلم عن مراكش، متنفس طبيعي ومنتزه أخاذ وكنز بيئي: جبال، غابات، بحيرات، شلالات… ومن رحمها خرج أحد أهم أنهار المغرب: وادي أم الربيع الذي تتدفق من منبعه عشرات الجداول من الجبل لتشكل شلالات رائعة. كما تحظى المنطقة أيضًا بشعبية لدى صيادي أنواع من الأسماك النهرية.

أسد الاطلس
أو أسود بصيغة الجمع

على الرغم من أنها تفضّل الهدوء بعيدًا عن صخب الإعلام والأضواء، تأبى الأحداث التاريخية الجسام التي مرت بها، والشخصيات الشهيرة التي عبرتها، إلاّ أن تعيد مدينة خنيفرة المغربية إلى الواجهة من حين لآخر، من خلال مناسبات عدة إحياءً لهذه الأمجاد. بيد أن أن مناسبة اليوم التي أعادت المدينة من جديد إلى بقعة الضوء، هي على غير العادة، لا تتعلق بماض دارس، بل بحدث آني، أي أسد الأطلس الذي زُعِمَ أنه ظهر مؤخرا وهاجم فتاة وقطيع غنم، ليتضح أن الأمر مجرد تهويل لفرضيات وتخمينات، نفتها السلطات المختصة نفيا قاطعا بعد التقصي والتحري وتمشيط المنطقة.
وأسد الأطلس هو سليل تلك الأرض، مغربي أصيل ينتمي إلى جبال الأطلس المتوسط؛ فإذا كانت حديقة الحيوانات في العاصمة الرباط قد حصنته وحمته من الانقراض، فإن التاريخ يشهد أنه كان يصول ويجول متبخترا هنا في هذه البقاع.
وحكاية هذا الأسد في نسخته الغابوية، هي امتداد لحكايات أسود أخرى زأرت ببسالة على ذرى هذه الجبال السامقة، نذكر منها رمز المقاومة موحى أوحمو الزياني الذي أذاق المستعمر الفرنسي العلقم، وأسد الطرب الشعبي «رويشة» الذي رحل بعد أن بصم على مسيرة غنائية باذخة صارت بها الركبان، زد على ذلك علماء أفذاذ نظير أبي القاسم الزياني ومحمد أولحاج مؤسس الزاوية الدلائية.
أسود أطلس على تعددها واحدة، وشمت بزئيرها على مغربيتها وانتمائها لتربة مدينة هادئة، اسمها خنيفرة التي تطل من علو 826 متر فوق سطح البحر على سهول ومنتجعات «زيان» المترامية، ثاني مدن الجهة بعد بني ملال، إليها ينتمي المقاوم موحى أوحمو الزياني، الذي نكل بالمستعمر الفرنسي وألحق بجيشه هزيمة نكراء في معركة لهري سنة 1914 قرب وادي بوزقور الذي يقطع بمجرى مائه الدافق أكبر غابات الأرز بأفريقيا.

عراقة معالم

العبور إلى المدينة يمر من أحد هذه المعالم وهو جسر خنيفرة الذي يقع على نهر أم الربيع، يعود تاريخ بنائه إلى القرن السابع عشر الميلادي على عهد السلطان مولاي اسماعيل، وقد عمدت السلطات المختصة إلى ترميمه في مناسبات عدة، ثم قصبة موحى أوحمو الزياني التي لا تعرفها إلا القلة القليلة من ساكنة المدينة بله زوارها، صنفها ظهير 26 كانون الأول/ديسمبر من عام 1933 كمعلمة تاريخية، تبدو من فوق نهر أم الربيع أيقونة دارسة دالة على ما تبقى من تحصينات مجاهدي الأطلس ضد الغزاة.
أشار بعض المؤرخين إلى أن تشييد القصبة (القلعة) يعود إلى السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين، ثم رممت على عهد السلطان العلوي مولاي إسماعيل سنة 1688 في إطار سياسة تأمين الربط بين أهم المحاور الطرقية للقوافل التجارية إبان تلك الحقبة. للإشارة فقد كانت هذه المعالم موضوع زيارة ميدانية قام بها «مركز معابر للدراسات في التاريخ والتراث والثقافة والتنمية الجهوية» من أجل «رسم صورة مشرفة عن مختلف المكونات الثقافية والتراثية والحضارية والطبيعية لجهة بني ملال خنيفرة».
وقد لخصت هذه الزيارة ورقة علمية وافية، جالت تاريخيا في عدد من هذه المعالم، ومنها قلعة فازاز الأثرية القريبة من مدينة خنيفرة «التي تحدث عنها الإخباريون، موقع أثري يؤرخ لعقود مضت، مثلما يؤثث لذكريات أزمان وأقوام، تفاعلت مع المجال وطوَّعَته لفائدتها» وحسب البعثة فإن «هذا ما توثقه بقايا أسواره وبعض منشآته المعمارية الشاهدة على ذلك، إضافة إلى اللقى الخزفية المتناثرة على أديمها الدارس، والشاهدة على مراحل التطور الحضاري بالمنطقة» كما كانت «قلعة ادخسان التاريخية ضمن أجندة الجولة العلمية، وهي قلعة جدد بناءها السلطان العلوي المولى اسماعيل ويرجع تاريخها، حسب بعض المصادر الإخبارية للدولة المرابطية».
معلم آخر رائج بالحركة الدائمة هو سوق الدلالة في مدينة خنيفرة، حيث تتجلى عادات وطقوس بيع منسوجات تقليدية أبدعتها أنامل نسوة خنيفرة والمداشر المتاخمة، منها زرابي زيان وزرابي إمرابضن وغناسة وحنبل وغيرها. عموما تبقى هذه المعالم شاهدة على عراقة وأصالة هذه المدينة بل المنطقة برمتها، حاكية تاريخا تليدا لا يمكن اختزاله في كلمات.

سحر الطبيعة

تحتل مدينة خنيفرة مركزا مهما في المشهد السياحي المغربي، بل يمكن عدها رائدة السياحة الداخلية، معظم زوارها المغاربة يهيمون عشقا بمناظرها الخلابة، فيشدهم الحنين للعودة إليها من جديد، دليلهم في ذلك صوت رويشة الشجي، أو الشريفة أو مغني… وتموجات رقصة أحيدوس تحت إمرة المايسترو الراحل موحى والحسين أشيبان. من هنا، فلا غرو، أن كل زائر للمدينة والمناطق الريفية التابعة لترابها الإقليمي، وللمنابع والأنهر والجبال وأشجار الأرز، سيحس بفخر الانتماء، حيث لا مكان للغربة في قاموس الحميمية الأمازيغية المغربية، وفي منطقة جُبلت على الكرم الطائي والفرح رغم مكر الجغرافيا.
يعود ازدهار السياحة في هذه المدينة الهادئة إلى طبيعتها الجبليّة الغابوية، وانتشار المنتجعات الكبيرة وفنادقها المصنفة ذات الخدمات العالية. من بين منتجعاتها الذائعة الصيت منتجع أكلمام أزكزا الذي يحمل اسم بحيرة طبيعية مساحتها 40 هكتارا وعمقها 25 مترا، وتقع على ارتفاع 1500 متر عن سطح البحر، تترامى على ضفافها أشجار الأرز المعروفة، وقردة «المكاك» التي تنط بين فروعها مصدرة أصواتا مميزة، فتغدو جزءا من ذاكرة مكان زاده الانسان جمالا بائنا بفعل التهيئة السياحية.
بحيرة أخرى، هي ويوان، تتميز بتنوع بيولوجي واضح المعالم، محتلة مساحة مهمة في المنتزه الوطني لمدينة خنيفرة، حيث تعيش في مياهها الزرقاء أسماك كثيرة مثل الشبوط وترويتا، وقد صنفت ضمن لائحة «رامسار» للمواقع الرطبة ذات الأهمية العالمية. كما لا يمكن لأي زائر لخنيفرة أن ينسى زيارة شلالات أم الربيع، نيفادا المغرب، ليستحم في مياهها البلورية ويتمتع بلوحة، لوحات ربانية.
هكذا هي خنيفرة هبة الطبيعة وهبة الناس الذين جبلوا على الطيبة والكرم ومحبة الغريب.

جولة في المدينة العتيقة

يقترح الخبير في التاريخ والتراث الجهوي المغربي جواد التباع في دراسة منشورة بصحيفة «أنوار برس» جولة في المدينة العتيقة لخنيفرة، تبدأ من ساحة أزلو وسط المدينة، والسير بضع أمتار جنوبا للوصول إلى دار الباشا، وعلى بضع أمتار منها يمكن المسار الزائر معاينة بقايا قصبة موحى أوحمو الزياني، وعلى بعد أقل من خمسة أمتار جنوب القصبة يمر المسار عبر القنطرة الإسماعيلية كنموذج آخر للمنشآت المعمارية التي تمد الجسور بين الماضي والحاضر، وبين طرفي المدينة.
ومباشرة بعد عبور القنطرة (الجسر) يتراءى للزائر على بعد أقل من عشرة أمتار المسجد الأعظم المقابل للقصبة والدليل على تشبث الزيانيين وجيوش حامية المدينة بأهم ركائز تخطيط العمارة الإسلامية، ولا يمكن للمسار أن يكتسب صفة التكامل دون الانعطاف شمال المسجد للاطلاع على الخصائص الفنية لقصبة القائد أولعايدي كنموذج من طابقين يختلف تماما عن نموذج دار الباشا.
يستمر المسير بين دروب المدينة القديمة عبر حي الدباغين إلى دار الدباغ على الضفة اليمنى للنهر للاطلاع على طرق صناعة الجلد بجودة عالية وبوسائل بسيطة، وإلى جانبها درب الحدادة حيث ما زال الحدادون يعملون بطرق الأجداد، وعند نهاية الدرب يعاين الزائر واحدا من أقدم وأعرق أسواق الزربية التقليدية في المغرب.
يواصل الزائر خطواته في الدرب الثاني من المدينة العتيقة المعروف بـ«زنقة البرادعية» حيث يجد بقايا تجمع تيدار إزيان»المقر الإداري للتواصل والمستقر المؤقت لسلطات الحماية مع الزيانيين القادمين من القبائل البعيدة، وعلى طول الدرب يعاين السائر برادعية ما زالوا يمارسون حرفتهم كما ورثوها عن أسلافهم، وغير بعيد عنهم في الدرب الأفقي الأول يقع درب السكاكين حيث كان المغاربة اليهود يمارسون لحام الأواني وصياغة وإصلاح الحلي الفضية والذهبية.
ويواصل الزائر المسير نحو آخر الدرب للاطلاع على نموذج من الفنادق القديمة التي كانت تأوي النزلاء بدوابهم، ويمكن درب الخرازة القدام الثاني من الاطلاع على طرق عمل إسكافي المدينة، وفي الدرب الثالث يمكن معاينة جزء من تجارة الثوب القديمة بالمدينة وزيارة الزاوية التيجانية للوقوف على نموذج لمعمار الزوايا بالمدينة.
ومنها إلى قيسارية المدينة ودكاكينها التخصصية المشيدة بالطين بسقوف خشبية إلى زقاق وهران، القلب الاقتصادي النابض للمدينة، حيث يجد الزائر كل ما تشتهيه نفسه من مواد وسلع خاصة درب الخرازة الجداد حيث تزدهر تجارة المواد الجلدية والألبسة التقليدية المعاصرة، كما يمكنه معاينة آثار مدينة مزدهرة كالفنادق العتيقة والسينما وبقايا ضريح سيدي وعياط الذي أخذ أحد أبواب المدينة اسمه. وفي نهاية الزقاق يمكن معاينة مقر الحامية العسكرية الأولى للمدينة، ويقترح الباحث المغربي التباع نهاية المسار بقيسارية الذهب للاطلاع على ما تبقى من ملاح المدينة الذي يحدده قدماء سكان المدينة على طول الشارع الرابط بين مركز المدينة وهري عصور الذي استقر به مجموعة من اليهود قبل العودة لقضاء الليلة في أحد فنادق وسط المدينة استعدادا لإتمام المسار صباحا.
ولا تكتمل زيارة خنيفرة دون تذوق طبخها المميز الذي يعتمد بشكل أساسي على الحبوب وحليب الأغنام والماعز والعسل واللحوم. ولا شك في أن طجين لحم الضأن مع الخضر هو الأكثر استهلاكا من قبل سكان المنطقة، وكذلك الكسكس مع القديد (اللحم المتبّل والمجفف بالشمس) و«صيكوك» وهو مستحضر أساسه دقيق الكسكس يضاف إليه اللبن (الحليب المخمر). بالإضافة إلى أكلة «أحريش» التي ما تزال تشكل نموذجا غذائيا محليا، وهي طبق مصنوع من كرشة الغنم، ملفوف بالأمعاء على عصا من خشب البلوط، ومطبوخ على الجمر؛ فضلا عن «هربر» وهو نوع من الحساء المحضر من القمح الممزوج مع الحليب.

معركة الهري

هل يمكن زيارة خنيفرة دون المرور والتوقف عند موقع معركة الهري؟ المعركة التي أوقفت الزحف أو التوغل الفرنسي في المنطقة بعد أن أصبح الأطلس المتوسط هدفا للمستعمر وخاصة مدينة خنيفرة عام 1914 بهدف فتح الطريق بين الشمال والجنوب. وقد تحولت أرض الهري إلى مقبرة للفرنسيين الذي تكبدوا خسائر قدرت بـ 33 قتيلا من الضباط، و580 قتيلا من الجنود، و176 جريحا، كما غنم المقاومون 3 مدافع كبيرة، و10 مدافع رشاشة، وعددا كبيرا من البنادق.
وأنت تودع المكان، تتذكر ابتسامات الناس، رشفة كأس شاي بالنعناع، وافتراش زربية (سجاد) زيانية فوق ربوة أو عند منبع أم الربيع أو بجانب موقع معركة الهري، وأنغام إيناس إيناس للراحل رويشة، والنقرات المنتظمة على البنادر لفرقة أحيدوس وهي تتموج بين أشجار الأرز والبلوط، وأنواع الطعام الذي يأتيك تباعا دون طلب، فالكرماء لا ينتظرون إشارة كي يكرموا وفادة زائر أو عابر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية