حول «اليوم التالي» و«حل الدولتين»

حجم الخط
0

بصرف النظر عن الأفكار التي تطرح هنا وهناك حول «اليوم التالي» على انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، فلا شك أنه سيُظهِر قبل كل شيء حجم الكارثة التي حلت بتلك المساحة الصغيرة، قطاع غزة، وسكانها المنكوبين بعشرات آلاف القتلى وأضعافهم من الجرحى والمعطوبين، وحجم الدمار في المباني والبنى التحتية. بالمقابل سينكشف حجم الخسائر الحقيقية في صفوف قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي التي تبذل حكومة نتنياهو كل جهودها للتخفيف منها، تجنباً لتصاعد ردود الفعل في الرأي العام ضدها. قطاع غزة أصبح منذ الآن مكاناً غير قابل لعيش من سينجو من المقتلة من سكانها، ولا يعرف ما إذا كانت الدول المرشحة لتمويل وتنفيذ إعادة إعماره قادرة على ذلك، وما الفترة الزمنية التي يحتمل أن تستغرقها. أما الخسائر البشرية فهي لا تعوّض بطبيعة الحال.
مع ذلك لا بد أن يأتي ذلك اليوم الذي تبلغ فيه الضغوط الخارجية والداخلية على الحكومة الإسرائيلية حداً ترغم معه على وقف آلة قتلها والجلوس إلى طاولة مفاوضات للتوافق على شروط سياسية لحل ما مؤقت قبل نضوج شروط غير متوفرة حالياً لحل دائم.
اللافت أن المتحدثين عن «اليوم التالي» يقفزون عموماً إلى فكرة «حل الدولتين» باعتباره حلاً دائماً ينهي الصراع الذي ولد مع نشوء الكيان الإسرائيلي وتفاقم باطراد بفعل الدعم الذي تتلقاه دولة الاحتلال من أقوياء العالم ويدفعه إلى مزيد من التصلب في مواجهة حق تقرير المصير للفلسطينيين. وسبب هذا القفز، في رأيي، هو أن أي حل مؤقت لا بد أن يكون أحد طرفيه حركة حماس الموصوفة من قبل إسرائيل والدول الداعمة بأنها حركة إرهابية، ويترتب على أي تفاوض معها اعتراف ضمني بها كأحد ممثلي الشعب الفلسطيني، وربما الممثل السياسي الوحيد لقطاع غزة إذا أخذ كوحدة سياسية بذاته.
والحال أن التفاوض مع الحركة يجري طوال الوقت، بوساطة قطرية ـ مصرية، وإن كان محصوراً في موضوع الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لديها. وإذا كان «اليوم التالي» سيتضمن ترتيبات سياسية ترضي الحد الأدنى من مطالب الطرفين، فلا يمكن التوافق عليها بمعزل عن حركة حماس، بما في ذلك وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى لدى الطرفين المتحاربين، وطبيعة الحوكمة أو الجهة التي ستتولى إدارة الشؤون العامة في قطاع غزة بعد الحرب.

قطاع غزة أصبح منذ الآن مكاناً غير قابل لعيش من سينجو من المقتلة من سكانها، ولا يعرف ما إذا كانت الدول المرشحة لتمويل وتنفيذ إعادة إعماره قادرة على ذلك، وما الفترة الزمنية التي يحتمل أن تستغرقها

الأحلام المتطرفة لنتنياهو وحكومته في تجريف القطاع من سكانه، بعد قتل أكبر عدد ممكن منهم، وإرغامهم على النزوح إلى صحراء سيناء، لا تبدو واقعية بالنظر إلى الشروط الدولية القائمة والتحولات المهمة في الرأي العام العالمي على رغم الدعم المطلق الذي ما زالت إسرائيل تتمتع به. فطول أمد الحرب والفظاعات التي ترتكبها القوات الإسرائيلية على مرأى العالم، وعدم تحقيق النتائج المتناسبة مع الأهداف الخيالية (تدمير حركة حماس وتحرير الأسرى) ولا حتى الاقتراب من تلك الأهداف، هي عوامل غير مساعدة لإسرائيل على مواصلة حربها واستمرار الجهات الداعمة لها في التغطية السياسية عليها بزعم «حقها في الدفاع عن نفسها».
ولا تبدو الإدارة الأمريكية المنشغلة باستعداداتها لاستحقاق الانتخابات الرئاسية المقبلة في الخريف، و«الحرب الباردة» مع بكين وموسكو، جاهزة هي نفسها لليوم التالي في غزة، بمعنى أنها لا تملك تصورات مكتملة عن الصورة السياسية التي تريدها في القطاع بعد الحرب. فهي تطرح «أفكاراً» لا تجد صداها في الواقع السياسي، كاقتراح أن تتولى السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس إدارة شؤون القطاع بعد الحرب، الأمر الذي رفضته كل من السلطة نفسها وحماس وإسرائيل، كل لأسبابه الخاصة. السلطة الفلسطينية طرحت، بالمقابل، «حكومة تكنوقراط» غير منتمية سياسياً، وهو ما لن يلقى قبولاً لدى حركة حماس التي تعتبر نفسها السلطة الشرعية في قطاع غزة، وإن كانت على وعي من أنها لا يمكن أن تعود إلى السلطة بعد الحرب وكأن شيئاً لم يحدث. ولا نعرف ما قد يكون دائراً من نقاش داخلي داخل القيادة السياسية للحركة بشأن دورها في المرحلة التي ستلي انتهاء الحرب الدائرة. فزلزال سياسي بحجم هذه الحرب المدمرة لا بد أن يهز القناعات السياسية داخل الحركة ويدفعها إلى إجراء تغييرات كبيرة في فكرها وبرامجها وممارستها السياسية والعسكرية.
أما في إسرائيل فحكومة نتنياهو المتطرفة ليست لديها أي تصورات سياسية لما بعد الحرب. هذا ما نراه من تصريحات قادتها الذين لا يتحدثون إلا عن «مواصلة الحرب» بلا أي أفق سياسي غير تكرار وجوب تدمير حماس وتحرير الأسرى بلا مقابل! في حين أن حربها تدمر المباني وترفع أعداد القتلى المدنيين الفلسطينيين باطراد، بما في ذلك مقتل بعض الأسرى الإسرائيليين، في وقت تواجه فيه تهمة الإبادة الجماعية أمام محكمة الجنايات الدولية.
في مواجهة استحقاقات اليوم، وضبابية اليوم التالي الموصوفة أعلاه، تقفز بعض الدول إلى طرح فكرة «حل الدولتين» من خلال «تهديد» إسرائيل بالاعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطينية مستقلة. وإذا كان هذا الاعتراف المحتمل بذاته يشكل، إذا حدث، مكسباً سياسياً لا شك فيه، لكنه لن يتجاوز قيمته المعنوية ما لم يرتبط بضغط جدي على إسرائيل يرغمها على القبول به. والحال أن نتنياهو نفسه قد تنصل من هذا الاستحقاق ويطلق تصريحات يومية حول رفضه قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل، وهو ليس وحيداً في إسرائيل في هذا الرفض، بل تشاركه فيه معظم الطبقة السياسية.
الدولة الفلسطينية التي في تصور الإدارة الأمريكية، هي على أي حال «دولة» منزوعة السلاح، منقوصة السيادة، متعاونة أمنياً مع إسرائيل في «مكافحة التطرف» أي أنها لا تتجاوز نوعاً من الإدارة البلدية لشؤون السكان على جزء صغير من أرض فلسطين. حتى تحقيق «حل» من هذا النوع يحتاج إلى توافقات دولية وإقليمية في وقت تتصاعد فيه الصراعات في كلا الدائرتين.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية