«حزن النخيل» مجموعة الشاعر السعودي علي الدميني: تحليق العنقاء من رمال التشابه والاحتمالات

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

تماثلاً مع مفهوم الشاعر السعودي الراحل علي الدميني حول ماهيّة الشعر، ودأبِه على التجدّد في نصّه، والتجديد في دعمه لنصوص التخالف؛ فلا أحد حقاً يستطيع تعريفَ ماهيّة الشعر، بإطلاقٍ، ولا تحديدَ القصيدة بطولٍ أو بنيةٍ أو إيقاعٍ، ولا إدراكَ بيت الشعر حتى، بتركيبٍ أو معنى أو فهم لغوي. وما كنّا سنرى تطويراً من الهمهمة إلى الملحمةِ إلى القصيدة العمودية إلى التفعيلة الحرّة إلى قصيدة نثرٍ تعتمد النبضة والسطر والقطعة طولاً أو قصراً لا تهتم به؛ لو كان لأحد تحديدَ الشعر بتعريفٍ. وما كان سيتساقط أوراقَ خريفٍ، ويذوبُ لينصهرَ ويخرجَ في صور أخرى من لم يتميّز بالخضرة دائمةً في القلب، بشِعرٍ يمتدّ طليقاً، على مدى تاريخ «الزوالات والانبثاقات البشرية التي لا تزول»، من مثل بيت شعر امرئ القيس العابر للتاريخ: «مِكرٍّ مفرٍّ مُقْبلٍ مُدْبرٍ معاً… كجلمودِ صخرٍ حطّه السيل من علِ» في تجاوز وصف حصانه إلى ما هو أعمق ولا يُدرَك إلا بالإحساس الصوفي الكونيّ، وبالمكتشفات التي أوصلت البشرية إلى إثبات التشابك الكمومي، الذي هجس به هذا الشاعر، وامتدّ إلى هجس شعراء ما بعد الحداثة، على امتداد العالم. على مثال الشاعر السعودي علي الدميني الذي يتداخل في قصائد مجموعته الأخيرة «حزن النخيل» المنشورة بعد رحيله، بخصوصية مكانه، نبضُ إيقاعات ومعاني التشابك، حيث نقرأ في قصيدة المجموعة الأولى «أقوال حمدان»:
«ارفق بعينيك، لا غيمٌ ولا سحرُ… في هذه البيد، إلا ما يرى الشجرُ/ الحكاية ليستْ معلّقةَ المتنبي على باب بُصرى/ ولا ما رآه المعرّي يقيناً/ على باب أيوب/ أو ما تراءى «لدرويش» حين اكتسى جسدَ الموت ثم أنابْ./ ولذا قال «حمدان» في قلبه،/ هكذا سوف تأتي الحكايات، مادام هذا الجدار الرماديُّ، يحمل ضدّيه في لحظة واحدة».
تشكيل ما بعد الرحيل:
في «حزن النخيل» تتبدى مجموعة الشعر هذه كقصة حب بين شاعر مغرم بالانفتاحات والتساؤلات والصداقات، وبين زوجةٍ حبيبةٍ تركها لها بوصية نشرها، دون أن يضع عنواناً لها. وبعد سنةٍ من الحزن أكملَها حبّ أصدقائه، وحرصهم على إبراز تجربته الشعرية، تكاملَ الحبّ لنشر هذه المجموعة، بدعم أوساط ثقافية، زودتْها بأهم ما تناول بالقراءة والنقد والدراسة تجربةَ الدميني الشعرية وتطويره. وهذا تجلّى بأبعاد وجودية في مجموعته «خرز الوقت»، وفي هذه المجموعة، من أقلام شعراء ونقاد مهمين في التذوق والرصد بدأها الشاعر محمد العلي بمقال: «علي الدميني المخضّب بالكائنات»، مع توالي مقالات: «شعريةُ الاكتشاف للزمن وخلقُه لدى علي الدميني» للدكتور صالح زياد، «وعي الكتابة وانفتاح النص» لـ أ. د. عبد الحميد الحسامي، «اشتغال اللغة وعودة المعنى إلى معناه في ديوان خرز الوقت» لـلدكتورة آمنة بلعلَى، «من خرز الوقت إلى تراتيل الأمكنة لـلدكتور عبد العزيز المقالح، «المنذور» لفريد أبو سعدة، «المجال الحيوي للقصيدة» لـ أ. د. مصطفى الضبع، «شعرية التأمل الوجودي في خرز الوقت» للدكتور رضا عطية، «علي الدميني يستضيف الشعر والأصدقاء والطبيعة والفن في منزله» لطلال حرب، «مفهوم الشعر عند علي الدميني» للدكتورة أمل القثامية، «يباس مثقل بالخضرة» للدكتور علي جعفر العلاق. هنالك أيضاً تقديم للمجموعة من الدكتورة فوزية أبو خالد بعنوان «مَطلٌّ أول»، تضيف فيه عناصر سعي الأصدقاء إلى قصة الحب، وتضع رأيها النقدي فيما تتضمنه المجموعة من مميزات، إضافة إلى تتويج قصة الحب بالإهداء الذي قامت به مُعدّة المجموعة زوجته السيدة فوزية العيوني، وخصصته إلى: «أصدقاء علي في كل مكان وعبر الزمن، عليّ الغني بأصدقائه، والأغنياء به، الوفي لهم، المحتفي بنجاحاتهم، المشتعل بهم وبإبداعاتهم»، طالبة منهم أن يشفعوا لها تأخرها، ومهدية لهم «نيابة عنه آخر نخيله وقناديله، آخر قطرة من محبرته، وآخر ماء في عروقه/ آخر خطاه وأجنحته/ آخر صمته وعذب ضجيجه/ آلامه الأخيرة وآماله اللا أخيرة/ فليس لأحلام عليٍّ من آخِر».
بحزن نخلة وحيدة في الصحراء، لا تُخفي حزنَها في قصيدة «حزن النخيل» التي اختارتها زوجته عنواناً للمجموعة، وأسى هذه النخلة من عدم مماثلة الناس لتشابه الرمال بالموت، في قصائد الفقد والنسيان بخاصة، ومحاولتها لفت انتباههم للحياة في جميع قصائد التجديد، بسعف أجنحتها الذي يحاول التحليق عنقاء في الأزرق اللامتناهي؛ يخوض الشاعر علي الدميني تجربة تجديده لقصيدة التفعيلة التي يُعتَبر أحد معلّميها، بالحفاظ على جوهر خصوصيته الإيقاعية المميزة له فيها، ونقلها في ذات الوقت إلى آفاقِ تَمَازجٍ يُحْييها من روتين المعتاد المتشابه، ليس على صعيد الشكل المجرّد فحسب، وإنما بتأمّل عميق في المعنى الذي لا ينفصل عنه، ويتجلّى متشابكاً به.
ويفعل الدمينيُّ ذلك جلياً في فاتحة المجموعة الخماسية المقاطع المذكورة «أقوال حمدان»، حيث لا يذهب كما المتوقَّع إلى قصيدة النثر النجل، وإنما يعود بجرأة المَقْدرة إلى الأصل، فيستخدم القصيدة العمودية في المقطع الأول ببيتٍ واحدٍ من بحر البسيط: «مستفعلن فاعلن مستفعلن فَعِلن»، يتبعه مباشرة اثنا عشر سطراً بتفعيلة فاعلن، وجواز فَعِلن من قصيدة التفعيلة، ثم مقطعٌ ثانٍ بقصيدة تفعيلة فاعلن، بادئاً بجوازها فَعِلن بثمانية أسطر، فمقطعٌ ثالثٌ ببيت واحد من بحر البسيط العمودي. ثم مقطعٌ رابع بتفعيلة فاعلن، بتسعة عشر سطراً، ويعود إلى البدء العمودي بمقطع خامسٍ من ثلاثة أبيات، يتكرّر فيه بيتا بحر البسيط السابقين مع بيت جديد ثالث للبسيط يختم القصيدة بـ: «توقٌ طويلٌ لأعناق الضحى بزغتْ…. من ساعديه وقامت حوله الجُدُرُ».
وفي هذا التمازج التجديدي، الذي يوزّع فاتحاته العمودية أسطر تفعيلة في بعض القصائد، يترك الدميني لقصيدته المتصاهرة في داخله مع ما يدخلها من الخارج اليومي والثقافة، حرّيةَ تشكيل نفسها، مبعداً عنها بهذا قيود القافية المقصودة والإنشاءَ المسطّح؛ ومغْنِيها بأبعادٍ يرى فيها قارئُه ما يحيط به أبعد من حصر تسطيح البعدين، شكلاً ومضموناً، إلى الثلاثة والأربعة وربما إلى ما يدفع تساؤلات نفسه لرؤية المزيد من الأبعاد.
وفي هذا التلاقح المخصب للشكل المتمازج والمضمون الرؤيوي، يدرك الدميني، كما يبدو، ما يفعل مع التطوير الذي أصبح شبه ظاهرة لدى شعراء ما بعد الحداثة الكُثر المثقلين بهمِّ انسداد آفاق الشعر، ومحاولات كسر الجدار لإطلاقه، وذلك بمزج قصائدهم مع حركة الكتابة نفسها كشخصية أو قرين فيها. ويؤكد الدميني ذلك برصد حركة قصيدته، في قصيدة «قلق القصيدة» التي يبدأ المقطعُ الأولُ منها، بتفعيلة فاعلن مع جواز فَعِلُن، يتبعه المقطع الثاني، والثالث بتفعيلة متَفاعلن، مع ذكرها ككلمة لها معنى التفاعل في ذات تشكيلها تفعيلة بحر الكامل، التي تنتظم المقطع الثاني: «ودخلتُ في قلق القصيدة، مُثْقلً قلمي،/ وأوجاعي كتابْ./ لا الصّمت يغويني عن الذكرى، وإن أبقتْ،/ ولا يشفي الغيابْ./ مُتَفاعلن/ قلقي على قلقي/ فأيّ كتابةٍ تجلو استعاراتي/ وأيّ خَطاطةٍ تصف اشتياقي/ أخشى عليَّ من الجنون الحرِّ أحياناً وأخشى ما ألاقي».
ويتبع ذلك المقطعُ الثالث عن الحب الذي يرافق همّ الشعر، بتفعيلةٍ مختلفة، فالمقطع الرابع عن حاضر الشاعر، مع التساؤل بتفعيلة الكامل التي تتحول إلى تفعيلة أخرى بعد السطر الأول، عن القرينين الحبّ والشعر، هل بقيا كما هما أم تجدّدا أم يتطلبان التجديد. كما، «وأقول: هل بعد العشيّة من عرارٍ أيتها الصحراء/ يا زهو العشيق إذا اكتوى بالعشق/ من زمن الصبا/ أو/ هام عن كبرٍ بنجوى الحب/ أم أنّ القصيدةَ لم تزل في الغيبِ/ طفلاً لاهياً كاللعبة الأولى/ وزهراً باسماً كجبال أمسي؟».
تشابكات التجدّد
في الإلمام بما يمكن عن أحلام الدميني الموصوفة باللا آخر لها، في «حزن النخيل» فرحاً بالحياة ومحاولاتٍ معلّقةً بين اليأس والأمل بتجديدها، وصِباً مستعاداً بذاكرة الشيخ، وشيخاً يتساءل عما بقي، وعما سيبقى في وجودنا وفنائنا؛ تتوالى 19 قصيدةِ تفعيلةٍ صافية ومتمازجةٍ، تبدأ بـ «أقوال حمدان»، التي تُذَكِّر بكمومية «خرز الوقت». وتستمرّ متدفقةً في   قصيدة «الفتى» الغائرة في حزن المرأة الثلاثينية التي تربيه لينمو فتى: «كملاكٍ يقود صباها إلى غايةٍ/ وبكاءٍ يسيل على شجرة». وقصيدة «اشتعال» القصيرة بخمسة أسطر يجري فيها غياب ونفي الزمن بالحب، كما الشعر وعالم الجن الموازي، اللذان يسامران الصبي الشاعر. ثم «حزن النخيل»، التي تدمج الخاص بالعام، والأسطوري الديني الممثَّل بيوسف وموسى، باليومي المعاش في الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، بإهداءٍ وخطاب إلى الشاعر يوسف رزوقة: «أعرض عن الحب/ واذهب إلى كهف «موسى» فقد جاءنا اليوم، يغزو/ مدائننا/ وقلاع البلاد التي أسكنتنا طويلاً/ بدون اضطرار لرؤية أحفاده، حينما أوغروا في/ صدور العروبة رمح الفجيعة».
ثم «الحصون» التي لا يبليها الزمن في مقارنتها بالقصور التي تذروها رياح الفناء. ثم «الحصى وخطاي» التي يتحول فيها المكان إلى أطلالٍ، تحت خطى الشاعر الدامية بحصى الفقد، مع استعادة الطفولة والصبا بذاكرة الكهولة: «أين فرّ المكان عن الناس أو أين غابوا؟»/ أين قلبي الذي ملأتْه الصبايا بأغصانهنّ وهنّ يلوّحْنَ/ للريح ــــ إما دنا الليل ــــ خلف رذاذ الغيومْ؟/ أين ظلي الذي كان يهجس لي أنني/ قد خلقتُ من الشعر في قدحٍ تتقاطر لذّته من شفاه النساء؟». ثم قصيدة «خارج النسيان، التي تعالج ما يبقى بـ: «لا بد أن تنسى،/ فما شيءٌ سيبقى خارج النسيان إلا أنت:/ من حرف كُتِبتَ، ومن يمامٍ عابرٍ لليمّ قبل الصيف، أو/ سربٍ من القبلات أرسلها فؤادك للحبيبة وهي تسبح/ في منامتها الطويلة».
ثم «غداً،» عن الحياة في ظل الموت المخيِّم بمخالب كورونا، وما بعدها. ثم «لمعة العدل». و«نافذتان» المشكَّلةُ من مقطعين، بتفعيلتين مختلفتين، توحّدهما لغة الشاعر، وإيقاعاته المنسابة. ثم «نافذة» على الفقد والاشتياق والشعر الذي يداخل الحاضر بالذكرى ويشعل الجمال والحب بأسلوب قصيدة القطعة. ثم «تخوم» التي تثير تساؤلات التأمل، عن خوف الإنسان من المضي إلى أقصاها فـ: «لست أقبض في الكف شيئاً سوى الظن مشتعلاً/ كالعصافير واليتم والاشتباه».
ثم «منيرة الموصلي» عن الملاحقات والسجن، بين الفنانة التشكيلية التي رحلت عام 2019، والشاعر الرفيق المهدّد باحتمالات السجن، في متابعاتهما لمصير بعضيهما ومصير الوطن الحرّ الذي يحلمان به. ثم «لنا»، القصيدة القصيرة التي تشكل مقطعاً من قصيدة قديمة للشاعر، عن الحب: لي، ولها، ولنا وللآخرين. ثم «قلق القصيدة». ثم «فاكهة» التساؤل عمّا سيبقى منا بعد الموت، والإجابة الغارقة في الأسى: «لا تخف يا صديقي/ فلا شيء يبقى كما كان إلا الأثر/ خطوةٌ فوق سطح الرمال/ وحباتُ مسبحة من وعود السحاب/ وريشةُ طير على حافلة».
ثم «نشيج» مواجهة الموت بشك المعري وجاك دريدا. ثم «ولكنْ، «هذه آثار أقدامي على النهر». ثم «السيرة الأخيرة لجوادي»، كتحية لمدينة «سان خوزيه» في مهرجان الشعر العالمي بكوستاريكا، ووداع الشاعر لرمز الحرب، جواده، بتمجيد اتجاه السلام. ثم «ربما» التي تقفل المجموعة على النهاية المحاطة باحتمالات، ربما، وربما، وربما…

علي الدميني: «حزن النخيل»
دار يسطرون للنشر، جدة 2023
163 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية