جولة الضربة القاتلة تراوغ البرهان وحميدتي وجوع وبؤس ومعارك الأرض المحروقة من الخرطوم إلى دارفور

إبراهيم دوريش
حجم الخط
0

بعد شهرين على المواجهات بين الجيش السوداني والميليشيات شبه العسكرية، قوات الدعم السريع لا توجد إشارات عن نهاية الصراع على السلطة بين قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو، حميدتي الذي يحاول توسيع الحرب الأهلية ونقلها لمستويات جديدة وإشعال الغرب السوداني. ففي يوم الأربعاء قامت مجموعات تابعة له باختطاف وقتل حاكم ولاية غرب دارفور خميس أبكر بعدما أعطى مقابلة تلفزيونية انتقد فيها قوات الدعم السريع.
وفي الوقت نفسه فشلت الجهود الأمريكية-السعودية في تحقيق وقف إطلاق للنار أو إعلان هدنة بين الطرفين، فكلما تعهد فريقا الحرب بالتوقف عن القتال كلما انتهكا شروط الهدنة وعاد القتال إلى ما كان عليه وسط عجز دولي، وتحديدا من الولايات المتحدة في التعامل مع الأزمة التي اندلعت بسبب الطريقة التي أدارت فيها واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون والإقليميون ملف السودان بعد ثورة 2019 التي أطاحت بالحاكم الذي يدير السودان لمدة 30 عاما. وظنت واشنطن ومن معها أنهم بتعاملهم مع العسكريين الذين انتهزوا فرصة الاحتجاجات الشعبية وتخلصوا من البشير، فإنهم يتعاملون مع طرف يوثق بكلامه، مع أن الجميع كان يعرف أن القوات المسلحة والميليشيات التي خرجت من رحم الحرب الأهلية في دارفور بداية القرن الحالي وغيرت اسمها من الجنجويد إلى قوات الدعم السريع لا تهتم إلا بمصالحها. فقد سيطر حميدتي على مناجم الذهب وأقام مملكة تجارية هو وأشقاؤه وتحول في ليلة وضحاها للاعب رئيسي في السياسة السودانية ما بعد الثورة، وهو متهم بارتكاب جرائم حرب في دارفور وقواته متهمة بقتل وملاحقة المعتصمين أمام القيادة العامة بالخرطوم في حزيران/يونيو 2019 ما أسفر عن مقتل أكثر من مئة محتج وجرح الآلاف، ولا يزال ملف هذه الجريمة مفتوحا ولم تتحقق العدالة للضحايا.

ما بين الجنجويد والدعم السريع

لقد تعاون طرفا الصراع الحالي وبدعم من الأطراف الدولية والإقليمية على وأد التجربة الديمقراطية في السودان وانقلبا على الحكومة الانتقالية في تشرين الأول/أكتوبر 2021 ثم تقاتلا على السلطة في مقامرة رأى فيها حميدتي وحلفاؤه في الداخل والخارج أنه قادر على حكم السودان، تماما كما روع الغرب بمقاتليه الذين كانوا يعرفون بالجن/الشياطين الراكبين الجياد ويحملون مدفع جيم3. ففي ذلك الوقت كان شعاره هو «اقتل روع واطرد» وأدت سياسة الأرض المحروقة التي مارسها إلى مقتل أكثر من 300.000 شخص وتهجير الملايين وتدمير مجتمعات كاملة. وفي الشهادات التي نقلتها شبكة «سي أن أن» (16/6/2023) كشف الهاربون من الجحيم في غرب السودان عن حرق مقاتلي الدعم السريع لعشر بلدة وقرية واستهداف مراكز إيواء للاجئين في الجنينة بغرب السودان إلى جانب ابتزاز الفارين من الحرب باتجاه تشاد والدول الجارة للسودان وأخذ أموالهم وقتل من لا يدفع على نقاط التفتيش التي يقوم الدعم السريع بالإشراف عليها. وبات واضحا أن التأثير الذي حصل عليه حميدتي في الخرطوم قبل الحرب الأخيرة، حيث كان بمحل الرجل الثاني في النظام الانتقالي منحه مساحة للقيام بما لم تكن قوات الجنجويد تقوم به قبل عقدين من القتال في دار فور و«لم تكن الجنجويد عام 2003 قادرة على عمل ما فعلته قوات الدعم السريع عام 2023» حسب محللة سياسية في الخرطوم، فبعدما أثرى حميدتي نفسه وعزز موقفه خلال السنوات الأخيرة المضطربة أصبح في وضع يؤهله لعمل ما يريد. وزاد حميدتي من تأثيره عندما انقلب على سيده البشير الذي أطلق عليه يوما لقب «حمايتي» وتحول لشخصية تستقبل في أبو ظبي والرياض والقاهرة وموسكو، بل وحاولت شركات علاقات عامة تببيض صورته وبدأ قبل المواجهة مع الجيش بمغازلة القوى المدنية التي استبعدها الغرب أو لم يعطها الاهتمام الكافي لكي تكون قادرة على مواجهة الجيش. وعبر حميدتي قبل مواجهته مع البرهان عن ندمه للمشاركة في الانقلاب على الحكومة الانتقالية في حينه ووضع رئيسها في حينه عبد الله حمدوك تحت الإقامة الجبرية.
وتظهر شهادات «سي أن أن» أن حميدتي ومقاتليه عادوا إلى نفس استراتيجية الترويع وتم التأكد من شهادات الهاربين وصور الفيديو التي التقطت في الخرطوم وأماكن أخرى لرجال بزي الدعم السريع وهم يغتصبون نساء. وردت قوات الدعم السريع بأنها غير مسؤولة وأن الزي مزيف ولا علاقة له بمقاتليها. ولكن سكان الخرطوم الذين بقوا في منازلهم وأحيائهم تحدثوا عن ممارسات نهب واغتصاب وسجلت وحدة حكومية أكثر من 36 حالة اغتصاب. وذكرت صحيفة «الغارديان» (14/6/2023) أن الناجيات من جرائم الاغتصاب لا يحصلن على المساعدة الطبية المناسبة المطلوبة بعد 72 ساعة من ارتكاب الجريمة، مثل حبوب منع الحمل وحبوب لمنع انتشار أمراض معدية مثل أتش أي في وغيرها، ذلك أن الوحدات الطبية موجودة بمخزن بالخرطوم ولا يمكن الوصول إليها بسبب القتال المستمر. وتصور شهادات «سي أن أن» عمليات اغتصاب جماعية ارتكبها الدعم السريع، بما فيها عملية اختطاف لنساء عمر أكبرهن 56 عاما وأصغرهن 14 عاما، حيث نقلن إلى فندق بجنوب دارفور وتم الاعتداء الجنسي عليهن. والاغتصاب وحرق الممتلكات وقتل المدنيين وابتزازهم هي وسائل ارتكبتها الجنجويد تحت قيادة حميدتي، لكنها اليوم تجري على قاعدة أوسع. وقال المحلل في الشؤون السودانية اريك ريفز «لا أحد يداه ملوثتان بالدم أكثر من حميدتي».
وفي الوقت الذي تشير فيه الأرقام الرسمية إلى مقتل أكثر من 860 شخصا في المعارك إلا أن العنف الأهلي المندلع حاليا في دارفور يجعل الحصيلة أعلى، ولا أحد لديه الأرقام الدقيقة، حيث تقول مصادر إن العدد تخطى 2.000 قتيل وجرح الكثيرين، وشردت الحرب أكثر من مليوني شخص نزحوا من بيوتهم خارج الخرطوم إلى المدن الأخرى ومناطق دارفور، منهم نصف مليون عبروا الحدود إلى مصر وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان وتشاد، ومليون ونصف نازحين في وطنهم. وعاد اللاجئون الذين فروا إلى السودان بسبب الحروب الأهلية في بلدانهم من حيث أتوا، سواء إلى ارتيريا وإثيوبيا وغيرهما. وذكرت تقارير أن قوات الأمن الأريترية تختطف العائدين من السودان وترسلهم إلى معسكرات التجنيد.

لا عزاء للجوعى

ويبدو أن المجتمع الدولي قد حرف نظره عن الأزمة الإنسانية في السودان بعدما أجلت الولايات المتحدة رعاياها وتبعتها الدول الأخرى، وإذا كان هناك حديث فيتركز على العالقين عند حدود مصر التي باتت تشترط تأشيرات للسماح بدخول أراضيها أو في ميناء بورتسودان الذي ينتظر فيه أجانب وسودانيون الفرصة للخروج. والمخاوف من أن تزيد المواجهات في السودان أزمة اللاجئين التي باتت ورقة يرفعها قادة أوروبا للتخويف. ويفهم ما قامت به بروكسل من التعاون مع نظام قيس سعيد وامكانية منحه مليار يورو لمنع المهاجرين، حيث تحولت بلاده إلى معبر رئيسي بعد ليبيا للطامحين إلى عبور البحر المتوسط والوصول إلى جنوب أوروبا وبثمن باهظ، كما حدث قبل أيام مع كارثة السفينة التي غرقت أمام الشواطئ اليونانية وقتل أكثر من 80 شخصا وفقدان أثر الكثيرين، ومعظم من كانوا على متنها من اللاجئين السوريين. كل هذا رغم انتقادات للسياسة الأوروبية التي تنقل التعهدات إلى دول ديكتاتورية وميليشيات في ليبيا والسودان وكان حميدتي واحدا منهم، حيث تباهى في أحاديثه من ان أوروبا مضطرة لدعمه لأنها بحاجة إليه لمنع قوافل الهجرة من القرن الأفريقي باتجاه البحر المتوسط. وأنفق الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الماضية أكثر من 200 مليون دولار على السودان في هذا الموضوع. وفي ظل انشغال أوروبا بالمهاجرين وتأمين رعاياها تم تناسي العالقين الذين لا يجدون الكثير من الطعام والماء الصالح للشرب بسبب خوفهم من مغادرة منازلهم أو لعدم توفر المال لديهم أو لعدم وصول المواد الغذائية العالقة في ميناء بورتسودان الشريان الوحيد للسودان على البحر. واستمرار القتال الذي يستهدف البنى التحتية والحيوية، قد يقود لمجاعة وانهيار السودان بالكامل حيث يحاول حميدتي السيطرة على المناطق الحيوية من أجل تحقيق النصر. وفي هذا السياق حذر باحث في شؤون السودان، أليكس دي وال بمقال نشرته صحيفة «فايننشال تايمز» (7/6/2023) من انهيار السودان، لكنه أكد أن الوقت لم يفت على المجتمع الدولي لمنع حدوث هذا. وقال إن الجنرالين لم يستطيعا حتى الآن توجيه ضربة قاضية لبعضهما البعض، في وقت يموت فيه الناس بالخرطوم، وبشكل متزايد بمدن سودانية أخرى، من الجوع والعطش وضربات الشمس والأمراض في منازلهم وشققهم. ويكافح الأطباء والعاملون الصحيون لإبقاء المستشفيات مفتوحة لكنهم بحاجة إلى كهرباء وماء وإمدادات طبية ورواتب أيضا. وأشار دي وال إلى أن النموذج التقليدي للعمليات الإنسانية هو القوافل الغذائية ومحطات الطوارئ الطبية. وربما كان هذا مناسبا للأزمة التي تتكشف في المناطق الريفية بدارفور إلا أن المجاعة في الخرطوم تتطلب نهجا مختلفا وجذريا: أي توفير الأموال النقدية مباشرة إلى الناس. ويعتقد أن تحويل الأموال عبر الهواتف مجربة في كينيا التي لديها أفضل تقنية تحويل أموال في العالم وكذا شركات تحويل الأموال الصومالية التي تتمتع بخبرة في العمل حيث لا توجد حكومة عاملة في الصومال. واتجهت وكالات المعونة بشكل متزايد نحو النقد باعتباره الشكل الأكثر فعالية للمساعدة. ويعتقد دي وال أن الدبلوماسية المالية يمكن أن تساعد في حل الأزمة السياسية أيضا. وبالنسبة للجنرالات، ساحة المعركة ليست سوى جزء من المنافسة. الجزء الآخر الأكثر إستراتيجية هو المال. ويحتاج الجانبان إلى موارد مادية ضخمة لمواصلة الحرب. ويتطلب الحل بناء قطاع مصرفي مستقل كما حدث وبسرعة في اليمن وليبيا. وفي اجتماعات جدة لم يكن المتحاربون يمثلون السودانيين بل وأنفسهم، ولم يشارك أي منهما باسم حكومة السودان. وكان البلد بحاجة لخطة إنقاذ مالي قبل الحرب ولكن الأزمة الحالية زادت من صعوبته، فمؤسسات الدولة مغلقة والقطاع المصرفي لا يعمل بكامل قدراته.

عناصر خارجية

وكلما طال أمد الحرب كلما زادت فرصة التدخل الخارجي. ففي بداية المواجهات قيل أن مصر دعمت البرهان، حيث حاول حميدتي لعب هذه الورقة، فيما حصل هو على دعم الإمارات وروسيا وأمير الحرب حفتر. وكشف تقرير «سي أن أن» تورط شركة المرتزقة فاغنر في الحرب الحالية، حيث تخلت عن دعم البرهان الذي منحها تنازلات في مناجم الذهب مقابل الدعم العسكري والسياسي. وكشف التقرير عن مساعدات عسكرية من فاغنر تأتي من القاعدة العسكرية الروسية «حميميم» قرب اللاذقية في سوريا ومن بانغي عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى وعبر البر من خلال القواعد العسكرية في ليبيا. وكشف عن دعم حفتر لحميدتي عسكريا ولوجيستيا مع أن دعمه هذا سيغضب مصر التي دعمت البرهان. وفي الآونة الأخيرة زادت فاغنر من دعمها لقوات الدعم السريع، مع أن الأخيرة نفت علاقتها بالشركة، تماما كما نفت علاقتها بمقتل أبكر والجرائم المرتكبة ضد المدنيين. وبدورها نفت فاغنر عبر حسابها في تليغرام أي وجود لها في السودان ومنذ عامين تقريبا. وبعيدا عن هذا وفي غياب النهج الدولي الواضح وخاصة من أمريكا التي تركز على إطفاء الحرائق في أفريقيا والشرق الأوسط، من أجل التركيز على أوكرانيا، روسيا والصين، فإن هناك فرصة لدخول دول أخرى. وحتى هذا الوقت فشلت واشنطن بإنهاء المواجهات بين الجنرالين، وهي بحاجة للتعاون مع أطراف مؤثرة في السودان مثل الصين، مع أن دراسة نشرها موقع «كونغيرشين» (8/6/2023) دعا للتفريق بين الدور الصيني والروسي، فبجين المعنية بالاستثمارات والإقراض ليس للسودان بل ودول أفريقيا ترغب دائما بالاستقرار. وقبل انفصال جنوب السودان عام 2011 كانت الصين أكبر مقرض للخرطوم وبلغ حجم الصادرات الصينية قبل ذلك العام 6.2 مليار دولار لتنخفض إلى 1.3 مليار عام 2021 ذلك أن جنوب السودان أخذ حصة الأسد من الثروة النفطية. وخلافا لموقف الصين، فروسيا تريد تحقيق مصالحها بعيدا عن الدول الأخرى، وظلت المصدر للسلاح للسودان ودول أخرى إلى جانب رغبتها ببناء قاعدة عسكرية في بورتسودان، وهو موضوع كان مصدر قلق للولايات المتحدة، هذا إلى جانب دور فاغنر قبل سقوط البشير وبعده. ومن هنا، هناك فرصة لتعاون الولايات المتحدة وحلفائها مع الصين في أي مبادرة لوقف الأزمة الحالية. وأظهرت الدبلوماسية الصينية نشاطا في الفترة الأخيرة من محاولة تقديم خطة لوقف الحرب في أوكرانيا، سخر منها الغرب، تماما كما سخرت كييف من محاولات القادة الأفارقة القيام بوساطة. وعبرت بيجين عن رغبة بالمساهمة في حل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، ولكنها نجحت في تقريبها بين السعودية وإيران. وفي النهاية ستظل الحرب مستمرة بين الطرفين على أمل أن يوجه طرف الضربة القاتلة للآخر، وسط معاناة المدنيين ودمار بلد عدد سكانه 44 مليون نسمة أو يزيد ويقع في منطقة مضطربة تحيط به سبع دول تعاني من مستويات متباينة من الاضطرابات أو الظروف الاقتصادية. ولا يمكن والحالة هذه ترك البلد ينهار ويتحول إلى دولة فاشلة في قلب هذه المنطقة الإستراتيجية وتداخل المصالح الجيوسياسية الإقليمية والدولية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية