تقبيل الايادي حتى لا تمطر السماء حرية!

لست أدري ما الذي دفع بالرجل الذي تناقلت شبكات التواصل الاجتماعي صورته وهو يقبّل يد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الخميس في تونس إلى أن يقف ذلك الموقف البئيس التعيس، فيضع نفسه موضع المتذلل المتزلف الذي لا أثر في مسلكه لعزة نفس. مشهد غير مألوف في تونس، ولكنه ليس الأول من نوعه. فقد سبق قبل شهور لمواطن آخر أن ارتمى يقبل يد الرئيس المنصف المرزوقي أثناء زيارته لسوق الخضار في العاصمة. ولم يفعل المرزوقي آنذاك ما يدل على أنه تحرج من الحادثة أو انزعج منها أو أدرك شناعة انتهاكها لما استقرت عليه الثقافة الاجتماعية والسياسية في تونس منذ بداية دولة الاستقلال.
قد يجادل بعضهم بأن مسلك الرجل كان عفويا وأن حماسة الجمهور المعجب بأردوغان والراغب في الاقتراب منه وتحيته ربما تكون فعلت فعلها فيه فأتى هذا العمل من حيث لا يشعر. أي أن رد فعل الرجل ربما كان وليد اللحظة: سنحت له فرصة الدنوّ من أردوغان فخاف أن يبددها ولم يخطر بباله آنذاك سوى الانحناء وتقبيل اليد المباركة، شعورا منه بأن ذلك يضمن اقتناص اللحظة البارقة والإحاطة بعميق مغزاها. ويمكن إيجاز هذا الرأي بالقول بأن تقبيل الأيادي ربما يكون مجرد معادل شرقي لطلب التوقيع (الأوتوغراف) الذي يعبر به الجمهور في معظم البلدان عن إعجابهم بالمشاهير من الرياضيين والفنانين.
ولكن هذا رأي لا أساس له. أولا، لأن تقبيل الأيادي لا وجود له في الجمهوريات، ولا حتى في معظم الملكيات المعاصرة. ويحضرني هنا ما رواه السياسي المخضرم إدريس قيقة من أن الأمير المغربي مولاي رشيد طلب لقاء الرئيس بورقيبة، أثناء زيارة غير رسمية لتونس أوائل الثمانييات، وأنه انحنى يريد تقبيل يد الرئيس، فما كان من بورقيبة إلا أن سحب يده قائلا إن هذا بروتوكول لا تقره الأعراف الجمهورية.
ولكن الأمير قال له إني لم أرد فعل ذلك اعتبارا لمقامك الرئاسي بل إجلالا لشخصك الكريم، إذ كنت الصديق الصدوق لجدي محمد الخامس رحمه الله. ثانيا، إذا كان تقبيل الأيادي جرما في السياق الجمهوري، أفلا يكون كبيرة من الكبائر في السياق الثوري؟ أفلا يكون من أرذل الرذائل في بلاد افتتحت مسار الثورات الشعبية العربية المطالبة بالكرامة والحرية؟
تقبيل الأيادي (وما نحا نحوه من سلوكيات الذلة والمسكنة) عادة منكرة لا عهد للتونسيين بها. ولكن يبدو أن السياق الجديد قد أنشأ ظروفا موضوعية مانعة للحصانة الاجتماعية. ظروف موضوعية من الهشاشة العامة التي بدأت تنخر في الجسم الاجتماعي وفي صورته عن ذاته وعن قيمتها ومكانتها إزاء الآخرين. ظروف موضوعية من الرداءة الشاملة أفرزت حالات نفسية يصح فيها القول الشائع بأنه ‘لو أمطرت السماء حرية، لرفع العبيد الممطريات (المظلات(‘.
ذلك أنه ليس أسوأ من العبودية إلا استبطانها. أي أنه ليس أسوأ من وضع الاستعباد إلا استساغة العبد لدونيته وشعوره بالحاجة الدائمة إلى أن يستعبده سيده.
مسألة معروفة في التاريخ البشري المديد: رقيق آن أوان عتقهم فإذا بهم يرتعبون من رهان الحرية ويركنون إلى أمان التبعية. إلا أن أنكر العبوديات لعبودية أبناء الثورات: عبودية التبرع والتطوع عرضا بلا طلب!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول grf:

    وما بالك بالذين يقبلون الارجل ويزحفون زحفا اما الطواغيت.

  2. يقول يحيى:

    ‘‘‘ هناك من يناضلون من اجل التحرر من العبودية : وهناك من يناضلون بتحسين
    شــــروط العبودية ( مصطفى محمود )

إشترك في قائمتنا البريدية