تجربة في النقد الخلاّق !

حجم الخط
0

نادرا ما يرد اسم كتاب الناقدة الفرنسية جرمين بري عن البير كامو ضمن القائمة الطويلة والمهمة لما ترجمه الراحل جبرا ابراهيم جبرا الى العربية، ربما لاقتران اسمه بشكسبير الذي شغف به وقال انه يتنفس من رئتيه، او لأن كتاب الغصن الذهبي لجيمس فريزر الذي ترجمه كان لعقدين على الأقل المرجع الميثولوجي للشعر العربي الحديث وما شهدته بواكير هذا الشعر من استخدام للاسطورة، خصوصا لدى السيّاب.
وكما ان هناك مؤلفات تسطو على سواها حتى لدى المؤلف ذاته مثل زوربا لكازانتزاكي وهاملت لشكسبير والأرض اليباب لإليوت، فإن هناك بالمقابل ترجمات تمارس النفوذ ذاته على سواها للمترجم، وهذا ما نلاحظه مثلا في اقتران اسم الشاعرة والناقدة د. سلمى الخضراء الجيوسي برباعية الاسكندرية على الاقل من خلال الجزأين الأول والثاني وهما جوستين وبالثازار، رغم ان هناك كتابا بالغ الاهمية نادرا ما يذكر ترجمته د. سلمى لارشيبالد ماكليش بعنوان ‘الشعر والتجربة’، والذي ارى بلا تردد ان من فاته هذا الكتاب خسر شيئا مهما.
كتاب جرمين بري عن كامو ليس فقط من اهم ما كتب عن هذا الفيلسوف الأديب اضافة لما كتبه القس الايرلندي الفرد براين ودولوبيه، فالكتاب صدر بعد رحيل كامو المفاجىء بسبب حادث السير الذي أودى بحياته، وبعد فوزه بجائزة نوبل بعامين او أقل، وكانت بري قد التقت كامو مرارا، وتعترف انه كان يلزم الحياد التام ازاء ملاحظاتها على اعماله، كما تعترف ايضا بأن كامو الانسان آسر وله حضرة جاذبة قد تربك من يحاوره، والكتاب بانوراما نقدية كان الاستقراء المعمّق لا القراءة الأفقية هو اساس المقاربة الجمالية فيه وليس النقدية فقط بالمعنى الاكاديمي.
وبدءا من رواية الغريب التي كان بطلها مزيجا مركبا من كلمتي الشمس والبحر ‘ميرسول’ تتضح الهواجس العبثية لدى مؤلف شاب، متوسطي المزاج وهيليني الثقافة، فالبطل ميرسول يقتل انسانا لمجرد انه عانى من تساقط العرق على عينيه تحت مناخ حار ورطب على شاطىء البحر، لكن جريمته الأهم بنظر من حاكموه هي لامبالاته بموت امه. ولألبير كامو مجموعة مقالات مبكرة بعنوان وجها الحياة يقول في مقدمتها ان الكاتب لا يكتب في النهاية سوى كتاب واحد، هو ما يغذّي مراحل عمره. وسبق لكاتب آخر هو يونغ ان تقصى اعمال أرنست همنغواي منذ البواكير الى النهاية ليجد ان هناك نموا عضويا لشخوصه ورؤاه معا، لكن هذا ليس تكرارا او تنويعات على وتر واحد، انه إلحاح درامي على شجن مزمن، سماه تشيسيتوف الالحاح الرائع.
هاجسان جذريان لدى كامو هما الغربة وما تفرزه من احساس بالعدمية والتمرد، فالعدمية بالنسبة لكاتب ذي بوصلة اخلاقية ونزوع رواقي ليست مجانية، لهذا يكون التمرد بمثابة اعطاء معنى لعالم لا معنى له، وهذا ما عبّر عنه كامو في احد مقالاته حين عرف الرواية بانها الخلق مصححا، وقد اعيد انتاجه وفق رؤى انسانية خلاقة، لا تطيق الاقامة في عالم اشبه بفراغ سحيق.
* * * * *
لأن كامو كاتب اشكالي بامتياز فلسفي، تعددت التأويلات لأعماله ومنها ‘الطاعون’، فثمة من رأوا فيها المعادل الروائي لوباء الاحتلال، فأحداثها تدور في مدينة وهران الجزائرية، لكن ناقدا واحدا خرج عن هذا النطاق التأويلي للرواية هو الفرد اوبراين حين قال بأن اسماء الشخوص فرنسية وليس فيها اسم عربي واحد، وهذا دليل على ان اللاوعي لدى كامو مسكون بذلك الموروث الاستشراقي، ويضيف اوبراين ان جرثومة الطاعون تسللت من صفحات مخطوط الرواية لتصيب المؤلف ذاته.
حمل كامو على كاهله سبعين مليون اوروبي بين رجل وامرأة وطفل اقتلعوا او قتلوا او تم نفيهم خلال ربع قرن فقط في الفترة ما بين عام 1922 وعام 1947، وبالطبع قاسمه هذه الحمولة الباهظة كتّاب ومثقفون من مختلف انحاء القارة الجريحة ولم يكن ظهور تيارات فنية مضادة للسائد كالدادائية والسوريالية والمستقبلية الا التعبير الادق عن عدمية اشاعت مناخات مفعمة بالريبة والاحساس باللاجدوى بين حربين كونيتين..
ان مهمة جرمين بري تزداد عسرا وحذرا وهي تقترب من تأملات كامو في مقالاته المفعمة بروح الشعر بعنوان ‘اعراس’، والاصغاء الى الصمت السماوي الخالد بين اطلال تيبازه حيث ترتعش الأهداب وهي تنوء بالنور الذي يرشح احيانا من زهرة عذراء واحيانا من حجر طاعن في الصّمت.
* * * * * *
في كتابه بعنوان ‘العبث’ يقول كامو ان كل ما كتب من فلسفة ومنطق وأدب يبدو عديم القيمة ازاء سؤال وجودي حاسم هو : هل الحياة تستحق ان تٌعاش ؟ آلاف الصفحات كتبها كامو للاجابة عن هذا السؤال، فلكي تصبح الحياة جديرة بأن تعاش علينا ان نجترح معناها من العدم، فالبشر يفرزون اللابشري كما يقول عندما شاهد شخصا يتحدث في الهاتف ويحرك يديه لكن صوته لا يصل بسبب الجدران الزجاجية المحكمة.
الهذا تمنى كامو لو انه شجرة او قطّة مثلما تمنى تميم بن مقبل لو انه حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم ؟
لقد تمنى ذلك لكن لهدف آخر، هو أن يكون جزءا عضويا من عالم يرفضه ويحتج عليه.
* * * * * * *
تناغما مع هواجسه الأصيلة قام كامو بمسرحة روايات منها الأبالسة لديستويفسكي فهو ليس بعيدا عن ذلك الملكوت البارد الذي اصغى فيه الكاتب الروسي لرسائل من اعماق الأرض، لكن كتابه الأشهر وهو المتمرد يبقى بيت النشيد لا القصيد في نصوص لم يتدابر فيها الفلسفي المجرد مع الشعري المحسوس بالأصابع، فهو يعيد مقولة ديكارت الشهيرة انا افكر اذن انا موجود لتصبح انا اتمرد اذن انا كائن، فالاحتكام الى العقل وحده لا يكفي، ما دام للقلب حصته من وعي الألم وهو وعي مفارق بالضرورة للسّائد.
حين كتب اسطورة سيزيف اعاد انتاج وعقلنة تلك الاسطورة بحيث تتزل الدراما البشرية والدوران حتى الدوار بلا طائل.
وان كان بول فاليري قد قال بأن صخرة سيزيف ليست عبثية تماما فمن يتأبّطها صاعدا وهابطا الجبل سيصبح رياضيا بعضلات تثير الحسد.
ما كتبته جرمين بري الفرنسية الجنوبية عن كامو المتوسطي المضمّخ بشمس الجنوب يذكرني بعبارته الشهيرة التي اعلن فيها بوضوح عن كراهيته للصقيع الايديولوجي، قال : كلما ارتعشت القارة من حولي لفرط الشعور بالبرد والوحشة احسست ان في صدري شمسا لا تقهر!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية