بين «الزوجة النائحة» و«حائكة السلام» و«حافظة الذاكرة»: منازل المرأة في الأدب الأنكلوساكسوني

 عبد الواحد لؤلؤة
حجم الخط
0

يُطلق اسم الأدب تجوّزاً على الكتابات باللغة الأنكلوساكسونية (الإنكليزية القديمة) التي شاعت بين القرن السادس الميلادي إلى حدود الفتح النورماندي عام 1066م، حين أدخل وليم الفاتح لغته الفرنسية إلى الجزر البريطانية فاختلطت مع الأنكلوسكسونية التي بلغت ذروة تطورها في أعمال أب الشعر الانكليزي جيفري جوسر (1340-1400).
تشمل الكتابات باللغة الأنكلوساكسونية مقاطع شعرية وكتابات نثرية من الأمثال والحِكم، جرى تسجيلها بين القرنين التاسع والحادي عشر، وهو ما يُدعى باسم العصور المظلمة في بريطانيا. تتحدث تلك الكتابات عن البطل بيوولف ذي القدرات الخارقة في مصارعة الوحش كريندل الذي كان يهاجم قصر الملك في «بلاد الكيت» إلى الجنوب من الدانمارك، في كل ليلة ويخطف اثني عشر من رجاله ويغوص بهم في البحر حيث يفترسهم. ولم يستطع أحد من أبطال الدانمارك أن يتخلّص من هذا الوحش، حتى جاء بيوولف واستطاع أن يصارع الوحش ويخلع ذراعه الأيمن فيولّي الوحش هارباً إلى أعماق البحر. وفي الليلة الثانية تأتي أم كريندل لتنتقم لابنها. ولكن البطل بيوولف تغلّب عليها فهربت إلى أعماق البحر. وتقوم الاحتفالات والأفراح في بلاد الكيت وينصّبون البطل المنقذ ملكاً على بلادهم.
وتستمر هذه القصيدة طويلةً في الحديث عن بطولات الرجال، ولكن لا نجد سوى القليل من ذكر النساء في هذا المجتمع الذكوري دون منازع. وإذا ما ذُكرت المرأة بين أحاديث الرجال فلا يُذكر اسمها بل يقال: زوجة البطل فلان، أو إبنة البطل فلان، دون ذِكر الإسم. وحتى أم الوحش كريندل لا تُذكر إلا بأنها أم كريندل. وإذا ما ذُكرت النساء عرضياً فهن «حائكات السلام» أي النساء اللواتي يتزوجن من رجال القبيلة المنتصرة لغرض إحلال السلام بين القبيلتين المتحاربتين. وللنساء في ملحمة بيوولف وظيفة جانبية أخرى وهي حفظ ذاكرة القبيلة وبطولات رجالها. وهذا ما يتماشى مع طبيعة الشعر الأنكلوساكسوني الشفوي تراثيا.
وعن أحاديث النساء جرى تسجيل وقائع التاريخ الأنكلوساكسوني لاحقاً بين القرنين التاسع والحادي عشر، كما سبقت الإشارة إليه. ومن الطريف الإشارة إلى الملكة زوجة الملك هروثكار بأن من واجبها صنع السلام، مثل نساء القبيلة المغلوبة اللاتي يتزوجن من رجال القبيلة الغالبة لغرض «حياكة السلام». وثمة وظيفة جانبية أخرى للنساء في ملحمة بيوولف وهي وظيفة «الساقيات» فهن اللواتي يُقدّمن كؤوس الشراب للرجال في المجالس عند الاجتماعات في القصور وفي الاحتفالات. وثمة وصفٌ جميل للمرأة الملكة التي تدخل إلى قاعة الاحتفالات في القصر، بعد انتصار بيوولف على الوحش كريندل، وتقدِّم الشراب إلى الملك أوّلاً من بعده إلى البطل بيوولف.
وثمة صورة أخرى للمرأة في ملحمة بيوولف هي صورة «الزوجة النائحة» وهي صورة فيها من الإبداع في الوصف قدر ما في صورة البطل المنتصر، ولو على طرفي نقيض. ونقرأ عن قانون يمنع المرأة الأرملة من الزواج إلاّ بعد مضي إثني عشر شهراً، وبعدها لها حرية الاختيار. ومن الطرافة التي يصعب تصديقها أن بوسع الرجل أن «يسرق» زوجة غيره، إذا تكفّل بدفع «التعويضات»!!!.
والمجتمع الذكوري من خصائص العصور المظلمة، كما نجد في ملحمة بيوولف، وهنا يمكن وصف العصور بين القرن السادس والقرن الحادي عشر بأنه العصر الجاهلي الأوروبي، حيث يكون الرجل هو المسيطر في الدار كما في المجتمع بشكل عام. ولا يكون للمرأة في ملحمة بيوولف سوى أدوار ثانوية، ومنها دور»المحرِّضة» التي تدفع الرجال للقتال عن طريق ما تغدقه عليهم من ضروب المديح لشجاعتهم، وليس لهذا أهمية قليلة كما يتضح من مقاطع عديدة في ملحمة بيوولف. ولأن الرجال هم الذين يذهبون للحرب، ويتركون النساء وراءهم، يكون دور النساء دفن القتلى بعد حرق جثثهم والاحتفاظ بأسلحتهم، وهو ما يكوّن ذاكرة القبيلة والمجتمع. ومن الأمثلة على ذلك «مناحة الزوجة» التي تندب زوجها من قبيلة عدوِّها الذي ما لبث أن تركها. ويقدم بيوولف مثالا على ذلك في زواج الأميرة الدانماركية هيلدبيره من ملك «فريزي» لغرض إنهاء العداوة بين الشعبين، لكن الحرب مالبثت أن استعرت من جديد، فعادت الأميرة الدنماركية تندب أخاها وابنها إضافةً إلى زوجها. وفي هذا نوع من السخرية المُرة من جعل الإمرأة وسيلة غير ناجحة في حل المشاكل الخطيرة في مجتمع الجاهلية الأوروبي.
ولأن ملحمة بيوولف هي أكمل عمل أدبي وصل إلينا مكتوباً باللغة الأنكلوساكسونية، غدا من الطبيعي البحث عن صور المرأة في ذلك العالم، في بدايات العصور الوسطى المظلمة في أوروبا. ففي الأبيات 611-621 نقرأ وصفا للملكة ويلهثيو وهي تقوم بدور الساقية كأية امرأة أخرى من الساقيات ولو أنها زوجة الملك هروثكار. فتدخل إلى قاعة الاحتفالات في القصر، مُكلّلة بالحلي الذهبية، فتُحيي الرجال ثم تقدِّم الكأس أولاً إلى حامي مملكة الدانمارك الشرقية، متمنّية له أن ينعم بالشراب لأنه المحبوب من شعبه وهو الملك المنصور. ثم تدور سيدة القصر وتقدِّم الشراب إلى الكبير والصغير، وهي الملكة المضيافة، بعد أن قدّمت الشراب إلى الملك ومن بعد ه إلى بيوولف.
ومثل أية امرأة في المجتمع الأنكلوساكسوني تقوم الملكة بدور «المُحرِّضة» كما تفعل ويلهثيو في مديح بيوولف الذي قضى على الوحش كريندل وجلب السلام إلى المملكة، فتقول: «لقد جعلت القاصي والداني من الرجال يمدحونك إلى الأبد، على امتداد البحار ذات الرياح المحيطة بسواحل العالم. فلتكُن مباركاً ما عِشت. أتمنى لك الخير بهذه الكنوز البرّاقة».
ومن الأدوار المُميزة للمرأة في المجتمع الأنكلوساكسوني هو دور»حافظة الذاكرة». ولأن الرجال وحدهم هم الذين يذهبون للقتال، تبقى النساء وراءهم لندب الموتى ودفنهم، وهي مُهِمّة ثقيلة لأن على النساء الاحتفاظ بالأسلاب ومخلّفات أعزائهم القتلى. ونجد مثالا على ذلك في مناحة امرأة من «الكيت» أمام جثة بيوولف في المحرقة إذ تلتهمها النيران، وقد ربطت المرأة شعرها ورفعته عالياً فوق رأسها وهي تعبِّر عن خشيتها من الأيام القادمة من الرعب، ونجد ذلك في الأبيات 3148-3155 من تلك الملحمة الشعرية. وفي هذا دليل على أن المرأة حافظة الذاكرة تستحضر مخاوفها مما تتذكّره من الحروب السابقة، وتجد في الحرب التي خاضها بيوولف وقُتِل فيها شبيهاً بما حفظت ذاكرتُها من الحروب السابقة، وبذلك يكون تاريخ شعب بيوولف محفوظاً في ذاكرة هذه المرأة من شعب «كيت».
قد تبدو هذه الأدوار التي تقوم بها النساء في المجتمع الأنكلوساكسوني قليلة الأهمية بالنسبة للقارئ المعاصر، لكنها كانت ذات أهمية كبرى في زمان بيوولف وبدايات العصور المظلمة الأوروبية. فعلى الرغم من سيادة الثقافة الذكورية في تلك الأيام، بقي ذِكرُ النساء حيّاً في عدد من النصوص الأدبية مثل «مناحة الزوجة» وملحمة «بيوولف» الكبرى.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية