بيروت الماء

أصلُ إلى ذاكرةِ الماء وأتناولُ ملحاً لذيذاً كنقّارِ خشبٍ فقدَ منقارَهُ في علامة استفهام. أعيدُ ترتيبَ آلهةِ مغارة جعيتا. أتسلّقُ أسوارها وكأنّي أخالني روبن هود منشغلاً بالنرد، أو عروة بن الورد بطحينٍ نمرة أنقاض قرب حديقةِ باب نركال، وأضيفُ لسومرَ لوحاً، وعلى الأرجح كناسكٍ يستعين بنايات وحدته، وطاسةِ ذوق في مذاقِ فمه الضجر.
بسبب نقوشٍ مبعثرة تسيلُ من شمعٍ مبلّل بلعابِ ثعابين في كهفه الأدرد، أرسمُ تجاعيدَ بحرٍ يبكي ويتدحرجُ إلى المرفأ، بيده طفلٌ هامد اليدين، ومثقوب الكراسة وبفمه إنسانٌ مجهول الظهر، ومن معبدٍ قريب يعلو نشيدُ الأناشيد، أمام مذبحٍ لبقايا أشلاء لم تصب إلّا بخجل تأمّل كيف تموتُ أمام الشمس؟ بين أكمامِ الهواء، وتهشيم الدخان بضمّادة باميلا، تخفي كفراشة بين أصابعها ثلاثة ملائكة وترددُ سرَّ ليل ولادة الضوءِ، قبل نعاسِ الشمس في مرفأ بيروت، الذي ما فكّرَ بجديّة أنّه سيستشهدُ ويسيرُ بشكلٍ أحمر في الهواءِ الأسير بنكهةِ رثاءٍ فاسدة.
ربّما يبصرُ أبسو، ويصعدُ ليصيرَ قوس قزح، ولا ينزل كعنقاءٍ في أقداحِ الرملِ المكسورة بفكرة بختٍ ينوحُ قرب تمثالٍ لكسرةِ بقايا يوم، يسقطُ في حطبٍ تحت شمعةِ كاتدرائيّةٍ متروكة، كما في سيناريو قلقٍ، يتسلّقُ صفحاتِ مجلّة أزياء في كلامٍ قصير الظلام، يرتدي كمامةَ أخطارٍ مقبلة.
وتتدحرجُ الليلةَ تحت الأنقاضِ. فيرتّبُ الموتَ ثلجا لذكرى متأخّرة في سطرٍ واحد، ويعجنها الصلصال بتعجّبٍ، فتنهض ببساطة فجرٍ يغسلُ بلمسةِ آلهةٍ جسدها بقوسِ قزح طازج. وبياض ضوءٍ بثوبِ الماءِ، فتنهضُ بيروت بحرارةٍ وتفتحُ النوافذَ. تقفُ برباطة جاش وتغسلُ فمَها بالوردِ وصلصالِها بالماءِ، وتنسجُ ثوباً من شمعِ فصحٍ للهواء.
……………
الليلةَ تحتَ الأشلاءِ قلقُ الانقاضِ من ذاكرة أجساد الموتى، والموت يحفرُ لجثثهم المغمورة بعلامة تعحّب، في الطينِ مذاودٌ تتسلّقُ الأرضَ نزولا على سبيلِ الهواء، وبزاويةِ نظرِ الشمس في الماءِ الذي لا يسمعُ جدّا التراب. يعجنُ ذاكرة تمشي بشكلٍ أزرق في هيكل رمادٍ مكسور، يسخنُ في شجرةِ الأرز وفي رعشةِ الكلس الغامضِ، لأبصارٍ تتدلّى في جعيتا من مزمارِ وقتٍ يغفو كثيراً في عيد ميلاد جسدٍ. يعزفُ في منفاخ الصلصال. الماءُ الذي لم يصحب المرفأ لانشغالهِ في تفريغ سيقانِ الضجيح بشكلٍ أنيق، ولم يتذكّر فعلا أنّه أنشغلَ بالتحديقِ إلى أجسادٍ تطيرُ ولا ترجع سريعاً إلى التراب. وكأنّما العنقاءُ أيضا لم تعدْ إلى بيروت كعادتها تلك الليلة، وانشغلت بريافةِ ثوب الدخان عارياً.
…………………
ذاكرة جعيتا تصلُ إلى نبضي، فأتسلّقُ أسوارَ النمرود، وكمرايا استنسخُ بعضي وأرشُّ شارعَ الموكب في بابل بأخطاء الطينِ المالح، أضجرُ من مخلوقاتٍ طويلة باردة من تهميش دخانٍ لتراب، يهربُ في ليلةٍ باذخة النبيذِ والظلام، وتعزفُ في روشة بيروت تدوينةَ الجمالِ في شارع الحمرا، فتملأُ الماءَ في طحين حرائق نينوى قبل لوحٍ سومري، ينصتُ إلى ألم من عازفِ نخلة لم يكتملْ برحيّها في الخامسة عصرا، وأذكرُ أنّي تعوّدتُ أن أحتسي ياسَ ضجيجي مع أنثى تنسلُّ إليَّ في عتمةِ الليل. وتخافُ الضوءَ شحيحا، وأذكر كذلك يا بيروت كثيراً، بحثتُ عن الفينيق في جونيه وجبيل والدورة وزحلة والأشرفية وطرابلس وتنورين وحرديني وبعلبك وغابة الأرز براسي الأصلع الفخم المثير، العصي على الغروب، وكنتُ بلا انقطاعٍ ومهيباً أقيم عيدَ ميلاد نصٍّ لم أكمله في جعيتا، فملأته بصلصالِ البحر وبنقوشٍ صفراء وسائل أزرق، يرشُّ صالونَ الليل بشهوةِ أجسادٍ عصيّة على التأويل، وورد ينجبُ ظلامَ عيون تبكي. وتبحثُ عن موتٍ أليف.

٭ كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية