بعد الضربات الإيرانية: الأردن بين خسائر مؤكدة ومكاسب مؤجلة

بسام البدارين
حجم الخط
0

عمان ـ «القدس العربي»: «الخسائر مؤكدة.. والمكاسب افتراضية أو مؤجلة». تلك العبارة تختصر إلى حد ما مضمون ومنطوق النقاشات التي غرق بها الأردنيون وهم يحاولون الإجابة عن سؤال الخطوة التالية على المستوى الاستراتيجي بعد المشاركة النشطة والفعالة في إسقاط عدد كبير من المسيرات والمقذوفات الإيرانية التي حاولت العبور لضرب إسرائيل فجر الاثنين.
طبعاً، لم يعد سراً أن حسابات الخسائر والمكاسب تبدو ملغزة أكثر مما ينبغي في إطار قراءة الباحث الإسلامي الدكتور رامي العياصرة، الذي يوافق على الاستنتاج القائل بوجود حسابات مصالح من حقها الشرعي أن تبرز في أولويات الدولة.
لكن قناعة العياصرة وآخرين كثر مؤكدة بأن المصلحة الوطنية العليا الحاسمة والمحسومة تكمن بعد الآن في مراجعة استراتيجية العلاقة مع الكيان الإسرائيلي وكلفتها، لا بل في الفراق والطلاق مع الارتباطات بهذا الكيان.
عملياً، كان السياسي المخضرم طاهر المصري أول المحذرين، عبر «القدس العربي» مما سمّاه بالانخراط في البرنامج الأمريكي الذي يستهدف إيران، وعلى أساس القناعة بأن إيران دولة إقليمية كبيرة وجارة مؤثرة ومهمة.
يبرز وسط النخب في عمان الصوت القائل إن الأردن «ليس مضطراً للنوم في فراش واحد مع الإيرانيين». لكن ذلك لا يعني إعلان العداء لطهران والتموقع ضدها وضد مصالحها، وإن كان لا يعني أيضاً بأن الفراق مع إسرائيل التي خلطت كل أوراق الأمن القومي الأردني بجريمتها ضد أهل غزة، خطوة غير صحيحة.

الأردن بين خيارين صعبين

بمعنى أو بآخر، ليلة الشظايا المشهودة في عمان وبقية المدن أصبحت شاهداً وإن كان بالمعنى الاستراتيجي العميق المؤجل، على حالة التمحور بين محورين، وهي الحالة التي بقي الأردن طوال الوقت يلعب بقواعد اشتباك تتجنبها تحت عناوين تدوير الزوايا.
تلك اللعبة على الأرجح سياسياً انتهت، وبدأ فصل جديد في تأزيم العلاقة وتوترها مع الإيرانيين، مع ان أحداً في معسكر محور المقاومة برمته لا يستطيع توجيه اللوم لعمان لأنها قررت القيام بواجبها الأمني في التصدي لأجسام عسكرية طارئة، حرصاً على أمن الأردنيين ونقاء الأجواء.
رغم كل ذلك، يستمر الجدل والنقاش تحت عنوان كلفة التمحور، والاعتقاد سائد مبكراً الآن بأن القواعد التي رسخها رئيس الوزراء الحالي الدكتور بشر الخصاونة قبل أكثر من عام، إما تبدلت أو في إطارها للتبدل مع الإيرانيين.
قبل عام وعدة أسابيع، سئل الخصاونة عن علاقات بلاده بطهران، ويذكر المراقبون إجابته الدبلوماسية المحنكة عندما نفى بعبارة صريحة ومباشرة وجود أي أدلة على رغبة أطراف إيرانية في تنفيذ عمليات تؤذي الأردن، لا بل قال الخصاونة أيضاً شيئاً لم يطبق إطلاقاً لاحقاً عن حرص حكومته على علاقات أفضل مع الجمهورية الإيرانية الجارة. مرحلة اللعب مع إيران وإسرائيل معاً يبدو أنها قد انتهت أو أصبحت صعبة ومعقدة بعد ليلة الشظايا الشهيرة، التي تصدت فيها الدفاعات الجوية الأردنية لما عبر في الأردن من صواريخ ومسيرات.

هل يمكنه «اللعب» مع إسرائيل وإيران معاً؟

لكن ذلك لا يعني بالضرورة ـ في رأي العياصرة وغيره ـ أكثر من رصد أدلة ملموسة على تكيفات سياسة الأردن الخارجية والأمنية.
ولا يعني أيضاً بقاء البيض الأمني والسياسي في سلة شراكة نقضها الإسرائيليون بكل اللهجات واللغات مع تل أبيب، وإن كان لا يعني في الوقت ذاته تجميد أصول وجذور العلاقة المتأزمة جداً مع حكومة تل أبيب اليمينية، ولا توسيع إطار العلاقة والتفاهمات أو انتقالها إلى آفاق تصالحية مع حكومة طهران.
خارطة المكاسب المفترضة حتى الآن بعد دور الأردن النشط في الدفاع عن أرضه وسمائه ضمن حكم الجغرافيا، تشمل شريحتين أو صنفين من المكاسب، برأي المحللين والمتابعين: الأولى سريعة وعميقة وأساسية، والأخرى آجلة وقد لا تشكل استثماراً حقيقياً في التكيف مع يمين إسرائيل.

مكاسب وخسائر مؤجلة

المكسب الأول هو إظهار قدرة عملياتية بعد التحالف مع الشركاء وباحتراف واضح على حماية أجواء الأردن من اقتحامات الصواريخ والمسيرات، بصرف النظر عن هويتها بعد الآن مستقبلاً. وفي الانعكاس مكسب آخر لا يقل قيمة، يتمثل في أن عمان اليوم بعد ليلة الشظايا والأجسام الطائرة، هي في موقع متقدم من أولويات الدفاع الأمريكية. وقد يعني ذلك لاحقاً تعزيز تقنيات الدفاع الجوي الأردنية كما لم يحصل من قبل وبلهجة ملموسة أكثر يواجه فيها الأمريكيون وليس غيرهم فاتورة الارتباط باليمين الإسرائيلي.
الفكرة هنا هي ما كان قد التقطه مبكراً في نقاش مع «القدس العربي» الخبير الدكتور أنور الخفش، عندما اشار إلى أن القواعد العسكرية الأمريكية في الأراضي الأردنية تتضمن حماية الأردن أيضاً ونظامه من أطماع مجانين اليمين الإسرائيلي وخرائطه.
في جدلية الدور والوظيفة، كسبت عمان ـ في رأي مسؤوليها ـ كثيراً بعدما تآمر عليها رموز في يمين تل أبيب، وبعدما ظهر تكتيكياً وتقنياً أن من يضمن دوراً إيجابياً للأردن عندما تهاجم إيران أو أطراف في محور المقاومة إسرائيل، هي غرفة العمليات الأمريكية وليست تلك التراثيات التي يعبث بأوراقها الإسرائيليون بعنوان «شراكة مترنحة مع الأردن».
ثمة من يتصور اليوم أن الأردن سجل عدة أهداف في سلة اليمين الإسرائيلي بعد الاحتفالية التي تضخمت قصداً عبر بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية عن دور الأردن في التصدي لهجمات إيران.
بين تلك الأهداف صمت محتمل لأصوات الثنائي بن غفير وسموتريتش بعد الآن عن التحرش بالأردن، وحصراً وقف حالة التراجع في دور الأردن بالقدس والمسجد الأقصى والوصاية. وبين الأهداف لفت النظر إلى ضرورة أن يعود الكيان العميق في تل أبيب إلى الانتباه لأهمية إحياء وإنعاش الشراكة مع بلد يتمتع بجغرافية مؤثرة جداً في أمن إسرائيل.
وبين المكاسب افتراضياً أيضاً، نظرة مختلفة لملف الأغوار ولخبرة الأردن وموقفه ضد العدوان في غزة، وحسم جدل اليمين بخصوص التمحور الأردني والسيناريوهات البديلة. ثمة مكاسب جيوسياسية بالتأكيد، لكنها افتراضية حتى الآن وتنطوي على قدر من المغامرة والمجازفة لسببين: الأول أن اليمين الإسرائيلي أطماعه بشرق الأردن جذرية وعميقة، وهو في موقع يؤهله لعدم الالتفات.

سببان… ونتنياهو

والآخر أن كل المعادلات التي صاغتها عمان في السياق بحرفية وحذر وانسجام مع تفكيرها السياسي، يمكن أن يطيح بها بكل بساطة الرئيس دونالد ترامب إذا ما قفز على البيت الأبيض مجدداً بعد عدة أشهر.
المكاسب الأردنية ستبقى «مؤجلة» إلى أن يرحل بنيامين نتنياهو وطاقمه البلطجي وتتوقف معركة غزة.
في المقابل، الخسائر مع محور المقاومة مؤكدة، لذا فإن التنابز مع الجمهورية الإيرانية قد يستهدف ما تبقى من مصالح أردنية في العراق وسوريا المجاورتين، خلافاً لأن التموقع الأردني قد يجذب أكثر عصابات المخدرات السورية النشطة، وميليشيات أخرى قد يغريها العمل ضد الأردن بعد الآن خلافاً لأن اليمين الإسرائيلي لعوب ومؤهل لخذلان المملكة في أي وقت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية