بدأ باتصال الموهبة الغربية الأوروبية بالموهبة الشرقية في الأندلس: الجذور البعيدة للشعر الانكليزي

عبد الواحد لؤلؤة
حجم الخط
0

لقد تحدثتُ كثيراً عن دور الشعر العربي في تطور بدايات الشعر الغنائي الأوروبي، الذي ظهر في أواخر القرن الثاني عشر في منطقة بروفانس في الجنوب الغربي من فرنسا الحالية، والشمال الغربي من إسبانيا في إقليم الباسك، الذي يسميه الأندلسيون أرض الباشكنز. كان ذلك الشعر الغنائي جديدًا على أوروبا القروسطية التي لم تعرف شعراً سوى باللغة اللاتينية، لمن يعرفها، لكن هذا الشعر الجديد جاء بلغة عامية منسلخة عن اللاتينية هي اللغة الأوكسيتانية، تتناول موضوعات في الحب الدنيوي وتصور موقفاً نحو المرأة لا ترضى عنه الكنيسة المسيطرة على الثقافة في العصور الوسطى. كان الأمير كيوم التاسع أول من تناول موضوعات الحب الدنيوي وكتب فيه قصائد نعرف منها إحدى عشرة قصيدة، وقد تبعه في ذلك عدد من الشعراء يكتبون بلغة بروفانس، ويدورون بقصائدهم على القلاع والقصور ينشدون تلك القصائد بمصاحبة آلة موسيقية تشبه القيثار أو العود، وصار هؤلاء الشعراء الجوالون يُسمون: التروبادور.
إضافة إلى الموقف الجديد من المرأة، ومفهوم الحب الجديد على أوروبا القروسطية، ظهرت القافية في تلك القصائد، وهو ما لم يكن معروفا في التراث الكلاسي الإغريقي اللاتيني. وقد أثبتت الدراسات من بدايات القرن السابع عشر في أوروبا، وبعدد من اللغات، أن هذا التطور الجديد قد جاء بفعل التقارب الشديد بين عرب الأندلس وبين أهل البلاد الذين يتكلمون اللغتين العربية و«لطينية» الأندلس. وقد تبع الأمير كيوم الشاعر عدد من الشعراء التروبادور بلغوا حوالي 400 في أواخر القرن الرابع عشر.
وفي عام 1209 زحف نحو الجنوب البروفنسي بابا باريس إنوسنت الثالث ليقضي على ذلك الإقليم الوثني! لكن الدافع الحقيقي كان الاستيلاء على ثروات الإقليم. فتفرق الشعراء التروبادور شرقاً إلى البلاد الجرمانية وإلى الجنوب الشرقي حيث وجدوا ملاذا في صقليا وعند مليكها الإمبراطور فريدريك الثاني الذي كان يحب الشعر والتروبادور بشكل خاص. كما هرب بعض التروبادور إلى الشمال الغربي من فرنسا في منطقه بريتاني ومن هناك انتقل بعضهم إلى بريطانيا برعاية الكونتيسة إليانور، حفيدة التروبادور الأول كيوم التاسع والتي تزوجت من هنري الثاني ملك بريطانيا عام1154 وحملت إلى بلاطها عدداً من التروبادور الفرنسيين مما كان له أثر كبير في الإختلاط والتأثير في الشعر الإنكليزي.

التروبادور
والشعر الانكليزي

تظهر بدايات تأثير الشعراء التروبادور في الشعر الانكليزي من حيث ظهور القافية والموقف من الحب والمرأة في شعر جيفري جوسر (1340-1400) الذي يُعد الأب للشعراء الإنكليز جميعا. فثمة أمثلة كثيرة على هذا الموقف الجديد من الحب والمرأة في قصيدة «ترويلس وكريسيدا» مثلا. وقد نأخذ مثالاً من العمل الشعري الكبير «حكايات كانتربري» ففي «حكاية صاحب الأطيان» نقرأ الآتي:
«ولكي يبعث مزيدا من السعادة في حياتيهما/ بمحض إرادته أقسم لها قسم الفارس/ أنه طوال حياته، نهاراً وليلاً،/ لن يمسك بيده زمام السيادة/ خلاف إرادتها، ولن يبدي لها غيرة/ بل سيُطيعها ويتبع مشيئتها في كل شيء/ وكما يجب على كل مُحب تجاه حبيبته/ سيحتفظ بمظهر السيادة/ لكي لا يؤثر غيابُها على منزلته».
ألا يذكرنا هذا الموقف من الخضوع للمحبوبة بموقف العاشق الخاضع للمحبوبة عند الشاعر التروبادور، ومن قبله موقف الشاعر العاشق تجاه المعشوقة في شعر الغزل العربي التراثي؟ ولكن الموهبة الفردية هنا لا تتنازل عن مفهوم الفروسية القروسطية بمِسحتها الإنكليزية. ومثالا آخر من جوسر: قصيدة غزل تخاطب المحبوبة روزاموند وهو تحريف بارع لاسم روزا مُندي الصفة القروسطية لمريم العذراء، «وردة العالم» ومثلت هذه القصيدة موقف العاشق البروفانسي من الحب والمرأة ومن قبله موقف مشابه في الموشحات الأندلسية ومِهادها التراثي، كما تمثل القصيدة الغنائية هذه الشعر العربي في نظام قوافيه ويذكر ان بالشعر البروفنسي ومن قبله نظام الموشح بقوافيه المنضبطة أ-ب-أ-ب-ب -ج-ب-ج مكررةً في المقاطع الثلاثة وهي في مجموعها تلخيص لنمط «الحب البلاطي» الجديد على الشعر الانكيزي.
وهذا ما نقرأ في قصيدة روزا مُندي بعنوان «إلى روزاموند»:
«سيدتي أنت محجة الجمال جميعا/ على امتداد أرجاء الارض/ لأنك تتوهجين كالبلور الرائق/ و بحمرة الياقوت يتكور خداك/ وبهما تنعمين بالفرح والمرح/ وإذ أ راكِ في سهرة ترقصين/ تصيرين مرهماً لجراحي/ ولو أنك لا تبدين من حُبك لي أي دليل/ ومع أني أسفح من الدموع مايملأ حوضا/ آمل ألا يتلف ذلك الحزن فؤادي/ فصوتك الناعم الذي به تهمسين/ يجعل الفكر مني يطفح بالفرح والسعادة/ فأمضي حاملاً حبي برفق ولين/ وأقول لنفسي تحت وطأة حب غير مستجاب/ يكفيني أنني أحبك يا روزا مند/ ولو أنك لا تُبدين من حبك لي أي دليل/ ما من سمكةٍ تقلبت في مرق التوابل/ كما أتقلب أنا مغلفا بالحب/ وما أكثر ما تصورتُ نفسي/ أنني ثاني عاشق حقيقي بعد ترستام/ فحُبي قد لا يخف أواره ولا يتضاءل/ لأنني احترق بلذةٍ حبيبة/ إفعلي ما تشائين فسأبقي عبدالك/ ولو أنك لا تبدين من حُبك لي أي دليل».

شعر الحب

إذا كان شعر الحب عند شاعر انكليزي فائق الموهبة مثل جيفري وسر يمثل أصداء من شعر التروبادور، بما في ذلك موقف يميل إلى شيء من السخرية من الحب نفسه، كما وجدنا في بعض غنائيات التروبادور الآول، فالشاعر هنا «انكليزي» جداً في سخريته إذ قلب العاشق المتقلب في نيران الحب إلى سمكة مغلفة بالطحين مثلا أو بالبطاطا، ويتقلب بمرقة حارة إلى جانب ما فيها من التوابل المحرقة. وهذه ذروة السخرية بطابعها الانكليزي التي لا يستسيغها إلا الانكليزي الذي تعود أكل السمك المطبوخ بمرق التوابل… ربما. ولكنها محاولة جريئة للابتعاد عما لدى الآخرين وتقديمه في إطار انكليزي في شعر جوسر وعي ذكي بتراث الشعر البروفينسي يطوعه الشاعر لموهبته الفردية فيقلب العاشق إلى سمكة. لكن من جاء بعده مثل سير توماس وايات (1503-1542) وإيرل أوف سري (1517-1547) نقلا حرفياً تراث الغنائية الإيطالية كما وجداها عند بتراركا (1304-1374). وكان هذا النقل إعجاباً مفرطاً بما لدى شعراء إيطاليا من غنائيات حب، فكانت الترجمات الأولى خشبية وحرفية عسيرة الهضم، ولكنه دليل عجاب بما لدى الآخرين. وبعد هذا الثنائي جاء سير فيليب سيدني (1554-1586) الذي صار ينظم غنائيات حب تبتعد في أسلوبها قليلا عن الغنائيات الإيطالية لكنها تبقى في شكلها وقوافيها غنائية إيطالية، بمعنى أن شعراء القرن السادس عشر لم يستطيعوا الابتعاد كثيراً عن المؤثرات الخارجية التي تعود، لدى التدقيق، إلى شعراء التروبادور وجذورهم الأبعد في الموشح والزجل المتصلة بتراث الشعر العربي المشرقي. يترجم وايات الغنائية رقم 91 من بتراركا ترجمة حرفية تحافظ على نظام القوافي كما في الأصل الإيطالي:
«الحب الدائم الذي يرسو في فكري،/ وفي فؤادي يقيم مسكنه/ في وجهي تندفع علائمه/ وفيه ينصب خيامه ناشرا رايته./ والتي تعلمني أن أحب و أتعذب / وتريد لسري ودليل حبي/ أن يحكمه العقل والخجل والاحترام/ لا يعجبها مني اندفاع ذلك الحب./ فاذا به يهرب إلى غابة القلب،/ تاركاً انتصاره في ألم وبكاء/ و هناك يختفي ولا يعود يبين/ ماذا بوسعي أن أفعل، عندما يعتري سيدي الخوف/ سوى أن أعيش في الميدان معه وأموت؟/ خيرةٌ هي الحياه التي تنتهي بإخلاص».
هذا باختصار هو المِهاد كثير التلاوين الذي قام عليه الشعر الانكليزي الذي بلغ ذروته في التطور في شعر شكسبير الذي كتب154 غنائية حب تتناوله من زوايا شتى. وقد كان هذا التطور قد وصل إلى انكترا متاخراً عن أوروبا بأكثر من قرنين من الزمان. لكننا نجد الحب أكثر نضوجاً، كما نجد الخضوع للمحبوب قد تحول إلى ثقه بالنفس تضارع التفاخر والتعالي على المألوف في شعر الحب البلاطي، الذي طوره شعراء التروبادور.

مظاهر الطبيعة وجمالها

وما يزال ابتداء قصيدة الغزل في الإنكليزية بالإشارة إلى مظاهر الطبيعة وجمالها يذكرنا بخصائص الغزل البروفنسية والأندلسية من قبلها. لكن الإشارة هنا تعالج الظاهرة وجمالها معالجةً «فلسفية» إذا جاز القول. تشكل الغنائية الإيطالية ونظامها الذي طور شكل الموشح ونظام قوافيه ما زال في غنائية شكسبير صدى لغنائية بتراركا. لكنه طور ذلك النظام القائم على ثمانية من الأبيات هي الموضوع الرئيس وتنتهي بنقطة، وبعدها السداسية من أبيات تفسر أو تناقض ما ورد في الثمانية بقوافي تختلف عن قوافي الثمانية ونظامها معاً. لكن شكسبير جعل غنائيته ثلاث رباعيات مختلفة القوافي تنتهي بمزدوجة بقوافي مختلفة عن قوافي الرباعيات الثلاث. وشكل الخاتمة يشبه الخرجة في الموشح الأندلسي وتكون تلخيصا للمعاني أو تعليقاً عليها أو حكمةً سائرةً من إبداع الشاعر. نجد هذا في غنائية شكسبير رقم 18 التي يخاطب فيها المحبوب بلغة يمكن أن تكون موجهة إلى المحبوبة مما أثار اضطراباً عند المفسرين وكتبة النقد. لكن الغنائية هذه تبدأ بالاحتفال بالطبيعه: أبيومِ ربيع أشبهك؟
وبعد شكسبير تطور الشعر الإنكليزي كما تطور الشعر في اللغات الأوروبية الأخرى من حيث الموقف من الحب والمرأة ومن حيث شكل القصيدة. والتطور أمر طبيعي ومنتظر. لكن تطور الشعر الغنائي في اللغات الأوروبية بدأ باتصال الموهبة الغربية الأوروبية في جنوب غرب فرنسا بالموهبة الشرقية في الأندلس وتراثها العربي العريق.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية