بايدن ونتنياهو موقفان لهدفٍ واحد

حجم الخط
0

تناقلت وسائل الإعلام المختلفة مقالات وتحليلات وتصريحات عن تغييرٍ ملموسٍ، ولكنه ليس جوهريا، في الموقف الأمريكي تجاه الحرب العدوانية في غزة، يوازيه «تنازل إسرائيلي» تمثل بعدد من المعطيات، ومقابله تماسك موقف المقاومة وثباتها على محدداتٍ ثلاثة في مفاوضات صفقة تبادل الأسرى.
جاءت هذه «الزحزحة» السياسية في المواقف، عقب حدثين مهمين في المنطقة؛ أولهما مجزرة قوات الاحتلال ضد قافلة «المطبخ المركزي العالمي»، وثانيهما الغارة التصعيدية غير المسبوقة على القنصلية الإيرانية بدمشق، وما تبع ذلك من تصريحات صدرت عن كثيرٍ من الدول المنددة بهذين الحدثين، وما أردف ذلك من مخاوف وقلق الإسرائيليين والأمريكيين، على حدٍ سواء، من الرد الإيراني الذي حمل رسائل عديدة للأطراف كافة، الفاعلة والمعنية بالمنطقة.
إن هذا التغيير الهلامي في الموقف الأمريكي يأتي في ظل تعاظم غضب الشارع الأمريكي، الذي يقترب من الاستحقاق الانتخابي، وخشية بايدن وحزبه الديمقراطي من خسارة الانتخابات؛ لاسيما بعد الإنذارين الأخيرين الصادرين عن ولايتين متأرجحتين ميشيغان وويستنسن؛ اللتين قد تحسمان الانتخابات لصالح ترامب. كذلك يأتي هذا التغيير بعد مطالبة 64 من النواب الديمقراطيين بإعادة النظر بالسياسة البايدنيّة إزاء الحرب المستمرة، التي دخلت شهرها السابع، بما ينذر باتساع رقعتها، وتهديد استقرار وأمن المنطقة برمتها، خاصة بعد انتهاء مرحلة «الصبر الإستراتيجي» الإيرانية، ودخول المنطقة في منعطفٍ جديد. أما نتائج هذه المطالبات، وهذا الغضب الجماهيري الأمريكي، فقد تراوحت بين المطالبة بوقف المساعدات العسكرية لدولة الاحتلال، أو وضع شروط مكبلةً لقادة الكيان. وقد ابتعد سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي إلى حد تهديد طفلهم المدلل بضرورة «تغيير المسارات المتعلقة بالحرب، وإلا سيتبع ذلك تغيير في السياسة الأمريكية». إلى جانب هذا الوضع الداخلي الأمريكي، كان هناك تنامي غضب حلفاء وأصدقاء واشنطن وابتعادهم عن مواقفها الأخيرة الداعمة لاستمرار الحرب، وأيضا اتساع الهوّة بين هذه الدول و»إسرائيل» بسبب تزايد أعداد الضحايا من المدنيين، وارتكاب قوات الاحتلال المجازر بشكل علني، وقيام أكثر من جهة إعلامية ومسؤولة دولية تعرية النزعة الانتقامية العدوانية والعنصرية لدولة الاحتلال؛ الأمر الذي أحرج المجتمع الدولي قاطبةً، حتى إن البعض وضع «إسرائيل» في دائرة الاتهام والإدانة، مطالبين بإجراء تحقيقات مستقلة بما يجري على الأرض من انتهاكات للقانون الدولي الإنساني. ومن جهة ثانية وبالبعد الإستراتيجي، تخشى الإدارة الأمريكية على مستقبل الكيان بعد اتساع العزلة الدوليّة لكلتيهما، وبعد عدم قدرة قوات الاحتلال على إحراز تقدم في تحقيق أهداف حربهم في قطاع غزة؛ نتيجة لصمود المقاومة وإفشال مخطط التهجير القسري للسكان الغزيّين. ولعل التصريحات الصادرة عن مصادر استخباراتية أمريكية بالإشادة بفاعلية المقاومة، وقدرتها على مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، واستطاعتها الاحتفاظ بإمكاناتها العسكرية، وتكتيكاتها الناجحة في المناورة والتحكم بالميدان؛ تعبير عن قلق ومخاوف هذه المصادر على أمن ومستقبل دولة الاحتلال الذي بات اليوم على المحك، لذلك أصبح الخطاب الأمريكي يعطي أولويّة للوضع الإنساني في غزة، أكثر من القضاء على حماس، الذي كان أولويّة مشتركة مع دولة الكيان. وكذلك تغيّر الدور الأمريكي من شريكٍ إلى جانب «إسرائيل»، إلى وسيطٍ في مفاوضات صفقة تبادل الأسرى التي لم تفض إلى اتفاقٍ بعد.

تخشى الإدارة الأمريكية على مستقبل الكيان بعد اتساع العزلة الدوليّة لكلتيهما، وعدم قدرة قوات الاحتلال على إحراز تقدم في تحقيق أهداف حربهم في قطاع غزة

أما في الجانب الإسرائيلي فإن «الزحزحة» في مواقف نتنياهو تكمن في الإعلان عن فتح معبر إيريز، والسماح بزيادة حجم المساعدات التي تدخل إلى غزة، والتي ستصل إلى 500 شاحنة يومياً بناءً على الطلب الأمريكي؛ وهذا لم يُنفّذ على الأرض بعد، وبقي مجرد إعلان، كذلك عودة وفد نتنياهو إلى مفاوضات صفقة التبادل وبمزيدٍ من الصلاحيات، وعودة الحديث عن أولوية إطلاق سراح الأسرى، كذلك تخبط ملحوظ في المواقف من عملية رفح. كل هذا يأتي إذعاناً من نتنياهو لواشنطن، التي يرى فيها داعماً له في مأزقه الأخير مع إيران؛ وهذا ما حصل عليه فعلياً من إدارة بايدن، عندما شاركت الولايات المتحدة مع بريطانيا وفرنسا، بالدفاع عن «إسرائيل» ضد الرد الانتقامي الإيراني بالتصدي لعشرات المسيرات والصواريخ التي انطلقت من إيران، وإدانة قادة الدول السبع للهجوم الإيراني. هذه «الزحزحة» تأتي أيضا بعد سلسلة من التطورات في الداخل الإسرائيلي، أولها، موقف اليهود الحريديم برفضهم التجنيد في الجيش؛ الأمر الذي أحدث جدلاً واسعاً في الأوساط الإسرائيلية، واتخذ أبعاداً خطيرةً، خاصةً بعد تهديد حاخامهم بمغادرتهم البلاد. وثانيها، تفاقم الغضب في الشارع الإسرائيلي؛ الذي تجاوز المطالبة بعقد صفقة تبادل الأسرى إلى المطالبة بإسقاط نتنياهو وحكومته، وإجراء انتخابات؛ بعد انكشاف دور نتنياهو بالمراوغة والمناورة في قضية الرهائن، ومسؤوليته المباشرة عن تعطيل إبرام صفقة التبادل. ثالثها، الدور البارز لحلفاء الأمس لنتنياهو بتأجيج هذه الدعوات، وبالتشارك مع المعارضة. رابعها وأهمها، ضغط الميدان من خلال العمليات النوعية المركبة التي تمت في منطقة الزنة وحي الأمل، الذي شكل دافعاً رئيسياً في اتساع الحراك الشعبي في الداخل الإسرائيلي، وقدم أيضاً حافزاً قوياً للمفاوض المقاوم في جولة المفاوضات الجديدة، وبالمقابل شكّل عاملاً ضاغطاً على المفاوض الإسرائيلي.
وفي السياق ذاته، وفي البعد الاستراتيجي، يفرض هذا الوضع الميداني العسكري للمقاومة حضوراً استثنائياً، أحدث توازناً جديداً؛ سيدفع قادة الاحتلال والمجتمع الإسرائيلي إلى تغييرٍ في رؤيتهم للواقع الفلسطيني في ظل هذه المقاومة الأسطورية التي أضعفت نتنياهو ومجلسه الحربي، «وعكازته» من أحزاب المتدينين المتطرفين، وتدفعهم إلى التراجع عن أهداف الحرب التي كانوا قد أعلنوها، وكذلك سقوط حلم نتنياهو بتحقيق «النصر المطلق» على المقاومة والشعب الفلسطيني، وإحداث تغيير حقيقي أمني وعسكري وسلطوي في غزة. وما الانسحابات الأخيرة لقوات الاحتلال من خان يونس إلا تعبير عن هذا الفشل، ووصول القادة العسكريون إلى قناعةٍ بأن لا جدوى من بقاء هذه الأعداد الهائلة من الجنود تحت مرمى نار المقاومة هناك. ولربما كان هذا ضمن خطّةٍ أمريكية إسرائيلية مشتركة لاجتياح رفح، كما جاء في تصريحات بلينكن وزير الخارجية الأمريكي عندما قال: « قدّمنا وسائل بديلة وأكثر نجاعةً لتحقيق ما تطلب إسرائيل».
في النهاية، أياً كانت المواقف أو المتغيرات فإن الثابت الوحيد هو صمود المقاومة وبسالتها في الميدان، وتمسكها بأهدافها في مفاوضات صفقة تبادل الأسرى .
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية