الموقفان الغائبان في الخطاب العربي في الأمم المتحدة حول مجازر غزة

من متابعة خطابات الوفود العربية جميعها، سواء في مجلس الأمن أو الجمعية العامة، وجدت أنها تتميز بالعقلانية والهدوء والسرد التاريخي والمحاججة المنطقية حول العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. ويتطرق المتحدثون إلى أعداد الضحايا مركزين، كغيرهم، على أعداد النساء والأطفال، ويعوجون على المظلومية التاريخية التي لحقت بالفلسطينيين منذ نكبة 1948، وحرمانهم من حقوقهم في الحرية وتقرير المصير والدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. يعلنون تضامنهم مع الأشقاء الفلسطينيين، ثم يكيلون الكثير من الأوصاف للجرائم التي ترتكبها «إسرائيل»، أو كيان الاحتلال أو الاحتلال الإسرائيلي أو القوة القائمة على الاحتلال. السفير الفلسطيني رياض منصور، يلقي كلماته بنوع من الحرقة والتأثر العميقين، وتذكير المحتل بصلابة الشعب الفلسطيني وصموده، وأنه لن يختفي عن الأرض، وأن الاحتلال هو الذي سينتهي إلى مزبلة التاريخ ثم تغلبه العاطفة في كثير من الأحيان فيتهدج صوته وتغالبه الدموع، ويؤثر على الحاضرين خاصة سفيرة مالطا رقيقة القلب، على عكس سفيرة بريطانيا التي أرى عيني بلفور في نظراتها. خطاب المندوب الجزائري يتسم بالقوة والصلابة، وكثيرا ما يوجه كلامه بطريقة غير مباشرة للمندوبة الأمريكية، مؤكدا أن من يستخدم الفيتو إنما يريد للمقتلة أن تستمر، وللتجويع أن يفتك، وللصواريخ أن تنهمر. ولم يشذ عن القاعدة هذه بشكل عام، إلا خطاب وزيرة الدولة الإماراتية ريم الهاشمي، يوم 24 أكتوبر التي وصفت هجمات السابع من أكتوبر بأنها «بربرية وشنيعة»، لكن خطاب الوداع الذي ألقته لانا زكي نسيبة، سفيرة الإمارات العربية، في مجلس الأمن بتاريخ 29 ديسمبر، قبل انتهاء ولايتها بيومين، كان جيدا وشاملا ومختلفا. أحسست أن أصولها الفلسطينية المنحدرة من عائلة مقدسية عريقة، تغلبت على موقف بلدها المطبع مع الكيان الصهيوني، فجاء خطابها مرافعة قانونية ممتازة، ضد ما يجري في غزة، خاصة أنها قادت وفدا من مجلس الأمن وزارت معبر رفح على الحدود المصرية.

الشعوب التي تخضع للاحتلال الأجنبي والاضطهاد الخارجي والاستعمار من حقها الشرعي والقانوني والأخلاقي والعرفي، أن تقاوم بالطرق المتاحة

نواقص الخطاب العربي

فكرتان أساسيتان غابتا عن الخطاب العربي، بما فيه خطاب المندوب الفلسطيني، ولا أعتقد أن ذلك سهوا: سرد المجازر بالأرقام التي تعرض لها قطاع غزة منذ عام 2006 وحق الفلسطينيين في المقاومة المدعوم من القانون الدولي، كيف للذاكرة الفلسطينية والعربية، ألا تتذكر ما جرى للقطاع منذ عام 2006. ودعني أراجع باختصار تلك الحروب تذكيراً وليس تقريعاً:
– عملية غيوم الخريف في بيت حانون في نوفمبر 2006 بعد أسر الجندي جلعاد شاليط. سقط فيها 82 شخصا وجرح 250 مدنيا من بينهم 18 شخصا من عائلة العثامنة، وقتل فيها إسرائيلي واحد. كما جاء في تقرير ديزموند توتو لمجلس حقوق الإنسان.
– عملية الرصاص المصبوب بين 27 ديسمبر 2008 و 18 يناير 2009 وقتل فيها 1417 مدنيا وقد وثق تقرير غولدستون جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في تلك العملية. وقتل فيها 10 جنود إسرائيليين و3 مدنيين.
– عملية عامود السحاب – من 14- 22 نوفمبر 2012 وقتل فيها 155 فلسطينيا منهم 27 قاصرا و14 امرأة و8 مسنين. وقتل فيها إسرائيليان وامرأة واحدة.
– عملية الجرف الصامد، التي ابتدأت رسميا بين7 يوليو و26 أغسطس وقتل فيها 2101 وجرح أكثر من 11.180 بينما قتل فيها 70 إسرائيليا منهم 67 جنديا وثلاثة مدنيين وعامل تايلندي.
– مسيرات العودة 2018- 2019 بدأت المسيرات بطريقة سلمية حضارية قرب السياج الفاصل، لكن الكيان الصهيوني رد عليها برصاص القناصة. وأشار تقرير سانتياغو كانتون، أن القوات الصهيونية قتلت 189 فلسطينيا من بينهم 35 طفلا و3 مسعفين وصحافيين وكانوا يرتدون إشارات الإسعاف والصحافة، كما جرح 6000 متظاهر أعزل بالرصاص الحي، من بينهم 122 بترت أطرافهم.
– معركة حارس الأسوار/ سيف القدس 1-21 مايو 2021 حيث استشهد 200 فلسطيني ودمر 32 برجا سكنيا ومقرا لوسائل إعلام عالمية، بينما قتل 13 إسرائيليا. أنشأ مجلس حقوق الإنسان بعدها فريق تحقيق مستقلا لمراقبة أوضاع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل برئاسة نافي بيلاي المفوضة السامية السابقة لحقوق الإنسان.
كل تلك المجازر لم تخطر على بال الخطباء، لوضع ما يجري في غزة في إطاره الصحيح وخلفيته القانونية ونتائجه الحتمية. فكيف لشعب يحاصر منذ عام 2006 ويتعرض لغزوات ومداهمات واقتحامات وحروب ومجازر وقنص وتدمير، أن يظل صامتا، وإذا تحرك اتهم بالإرهاب. أي منطق وأي قانون وأي فتوى تبرر هذه الهبة العالمية لما جرى يوم 7 أكتوبر وإلغاء كل شيء قبله وكأنها بداية التاريخ. وعندما ذكر الأمين العام أنطونيو غوتيريتش، في كلمته يوم 24 أكتوبر، أن ما حدث يوم 7 أكتوبر «لم يأت من فراغ»، فقد الكيان صوابه وطالبوه بالاستقالة واتهموا المنظمة الدولية كلها بأنها تبرر الإرهاب. السبب الوحيد أنهم لا يعتبرون الضحايا متساوين في إنسانيتهم، فمقتل طفل إسرائيلي أهم من مقتل ألف طفل فلسطيني وإطلاق قذيفة بدائية واحدة على الكيان لا تقتل أحدا ولا تدمر بناية، أهم ألف مرة من تدمير 32 برجا سكنيا في غزة. فقط مسموح للعالم، من وجهة نظر هذا الكيان والمطبلين له، أن يتضامن فقط مع 1200 قتلوا يوم 7 أكتوبر معظمهم بنيران صديقة، وممنوع عليه أن يلتفت إلى نحو 150 ألفا من الفلسطينيين سقطوا منذ السابع من أكتوبر بين شهيد وجريح ومفقود. هؤلاء فقط أرقام.
المقاومة والقانون الدولي
إن الشعوب التي تخضع للاحتلال الأجنبي والاضطهاد الخارجي والاستعمار من حقها الشرعي والقانوني والأخلاقي والعرفي، أن تقاوم بالطرق المتاحة. وهذا نصت عليه قرارات عديدة للجمعية العامة، وسارت على طريق المقاومة كل الدول الخاضعة للاستعمار. لم يتطرق أي متكلم كيف تكونت المقاومة، ولماذا نشأت ولماذا قوي عودها ولماذا اضطرت أن تدافع عن نفسها وأن تخترع مقذوفاتها البدائية وأن تطورها، ولماذا حفرت الأنفاق ودافعت عن نفسها وعن شعبها. اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 1415 عام 1960 وقد يكون أهم قرار في تاريخها، الذي يدعو إلى حق جميع الشعوب والكيانات الخاضعة للاستعمار وقوى الهيمنة الأجنبية في لاستقلال وتقرير المصير. ثم اعتمدت الجمعية العامة عدة قرارات تشرعن نضال شعب ناميبيا ضد احتلال دولة الأبرتهايد جنوب افريقيا في سنوات 1971 و1972. وقد نقل النص تقريبا بشكل حرفي في القرار 3236 بتاريخ 22 نوفمبر 1974 حول حقوق الشعب الفلسطيني، التي نص عليها هذا القرار. ينص القرار في نقطتيه الخامسة والسادسة: «وتعترف كذلك بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل، وفقاً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه». «وتناشد جميع الدول والمنظمات الدولية أن تمد بدعمها الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه، وفقاً للميثاق». وقد اعتمدت الجمعية العامة بتاريخ 4 ديسمبر 1986 قرارا تاريخيا حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، مستندا إلى قرار 1514 لعام 1960 أشار في الديباجة إلى قرارات تتعلق بناميبيا وجنوب افريقيا وفلسطين، وأدان في نقطته السابعة عشرة حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف، ويؤكد في نقطته الثانية: «على شرعية كفاح الشعوب من أجل استقلالها وسلامة أراضيها ووحدتها الوطنية، والتحرر من السيطرة الاستعمارية والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح». وهذا نص صريح لا لبس فيه ربط بين نضال فلسطين وناميبيا وجنوب افريقيا.
فلماذا لم يجرؤ مسؤول عربي واحد في الدفاع عن المقاومة الشرعية وحقها في مقاومة الاحتلال بالطرق المناسبة التي نص عليها القانون الدولي؟
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية