الكوميديا العراقية في رمضان ما بين التسفيه والمتعة والنقد

مروان ياسين الدليمي
حجم الخط
0

إذا ما عدنا إلى مراحل نشوء وتطور المسرح منذ أن اكتملت عناصره الفنية بجهود الإغريق قبل الميلاد، سنجد بأن العروض التراجيدية والكوميدية على حد سواء، تنهض على تقنية المفارقة، التي عادة ما تنشأ نتيجة الأخطاء التي تقع فيها الشخصية، وما يميز خطاب التراجيديا الجاد، أنه يوصل رسالته اعتمادا على حبكة درامية تعمل على تفجير مشاعر الحزن والأسى لدى المتلقي، على العكس من الكوميديا التي تعتمد السخرية والهزل، إلاَّ أن ارتباط الكوميديا بالضحك والهزل والسخرية لا ينتزع منها دوافع الجدية، بالتالي فإن الحزن والضحك في الفن الدرامي وجهان لعملة واحدة، لها صلة وثيقة بإيقاظ الوعي الإنساني والأحاسيس الجمالية لدى المتلقين.

صعوبة الكوميديا

العروض الفنية الكوميدية دائما ما كانت الأكثر استقطابا للجمهور مقارنة بالعروض التراجيدية، لأنها تبعث في داخله مشاعر البهجة، وهذا الشعور الذي يسري بين المتلقين، ليس من السهولة الوصول إليه وتحقيقه، وغالبا ما يكون من حيث تقنية الأداء أكثر صعوبة على الممثلين من العروض التراجيدية، والأهم في هذا أن مجال الكوميديا يبقى الأسرع تأثيرا في إيصال رسائل العمل الفني إلى المتلقين. وإذا ما اتسمت الكوميديا في أنها تستند على السخرية في مواجهة المثالب والنقائص التي تُرتكب في المجتمع، فمن المؤكد أن بنيتها الدراماتورجية لا تهدف في رسالتها الانتقاص أو الإساءة، إنما تتمحور أهدافها في إشاعة فكرة احتفاء الإنسان بقدرته على تجاوز الأخطاء واستمرار شغفه بالحياة رغم استحالة التوافق التام في كافة ما يواجهه من ظروف. وهذا ما يتجلى في مجمل النصوص النقدية الساخرة للكاتب اليوناني أريستوفانيس (446 ـ 386 ق.م) التي كتبها قبل الميلاد بعشرات السنين، كذلك في عروض كوميديا ديلارتي الإيطالية التي ازدهرت خلال الفترة ما بين القرن السادس عشر والثامن عشر، وفي نصوص الفرنسي موليير (1662 ـ 1673 م) وإلى يومنا هذا بقيت الكوميديا مقترنة بإثارة مشاعر المرح والضحك والسخرية ضد المظاهر الخاطئة في المجتمع وفي أوساط السلطة.

الأحزاب والكوميديا

وإذا ما توقفنا أمام العروض العراقية الكوميدية التي تستحق المشاهدة في الإنتاج التلفزيوني وحاولنا تحديد المساحة التي شكلتها كما ونوعا ضمن دائرة اهتمام المتلقين على مدى العقود الخمسة الماضية، ستعقد الدهشة ألسنتنا نظرا لندرتها، في مقابل ذلك هناك رصيد كبير من الأعمال الهابطة في مستواها الفني، ويمكن تأشير بداية هذا الانحدار منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، ثم تصاعد الخط البياني لهذا النمط من الإنتاج السطحي في شكله ومحتواه خلال السنين التي أعقبت العام 2003 على وجه خاص، وأسباب ذلك تعود إلى غياب الرقابة على الأعمال الفنية، من بعد أن أصبحت مسؤولية الموافقة على إنتاج المسلسلات وتقديمها على الشاشة منحصرة في إدارة القنوات الفضائية العراقية، وأي مراقب للمشهد الإعلامي في العراق يعرف جيدا أن الأحزاب هي أصبحت تموَّل القنوات الفضائية، وبناء على ما أفرزته هذه الأحزاب من أخلاقيات أشاعت سلوكيات التسقيط والفساد والتزوير والتضليل في كافة مفاصل الحياة، لذا لن يكون في أجندة هذه القنوات أن تضطلع بدور تنويري، بقدر ما تحولت برامجها إلى وسائل لتخدير المتلقين وتزييف وعيهم، وسيكون أمرا طبيعيا في خططها الإنتاجية أن تشجع الأعمال الكوميدية الساذجة والرخيصة التي تلتقي مع توجهاتها، هذا إضافة إلى دعم وتشجيع الأعمال الكوميدية التي تتخلى عن وظيفتها النقدية للظواهر المجتمعية السلبية، وحتى لو اقتربت منها، فإنها ستنحرف برسالتها، لتتناولها بشكل سطحي، بمعنى أن الكوميديا لا تنبع من مواقف الشخصيات وتناقضاتها، بل تدور حول الانتقاص من شكلها وهيئتها وطريقة مشيتها أو السخرية من أصولهما القروية، وهذا النوع من الكوميديا غالبا ما يشيع في الأزمنة التي تشهد فيها المجتمعات انحرافا في الوعي والقيم، نتيجة خضوعها لأنظمة سياسية ينحسر فيها هامش الحرية، عندها يصبح من الصعب على الكوميديا أن تزدهر، ولتحل بدلا عنها العروض القائمة على المفارقات اللامنطقية في تناول الموضوعات والشخصيات سواء في الأفعال أو الألفاظ، كما هو الحال في الكوميديا الرمضانية «أبجد هوّس» التي تعرض هذه الأيام على شاشة إحدى القنوات العراقية والتي يجسد شخصياتها الرئيسة أشهر نجوم الكوميديا في العراق في مقدمتهم إياد راضي، آلاء حسين، زهير محمد رشيد، سعد خليفة، حيث يتم تقديم صور اختزالية ليست واقعية، عن شخصيات اجتماعية تمارس وظائف حيوية في الحياة، مثل شخصية المدرس والعامل البسيط، لتبدو أمامنا مجردة من ملامحها الواقعية، عبر رسمها بطريقة مشوهة، قائمة على المبالغة المفرطة في ردود أفعالها بشكل يتعارض مع طبيعتها الإنسانية في الواقع، حتى بدت متخلفة في وعيها وسلوكها، ومنفصلة عن الواقع الحياتي ومتغيراته. فكان من الطبيعي أن يتعرض المسلسل إلى نقد عنيف من قبل الجمهور على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ما يعني أن أي محاولة للانتقاص من وعي الجمهور لن تنطلي عليه، وأن الجمهور على اختلاف مستوياته الثقافية والاجتماعية لديه معايير واضحة يستند إليها في فرز وتقييم ما يُحسب على فن الكوميديا وما يشذ بعيدا عنها، دون أن تخدعه نجومية الممثلين المشاركين في العمل.

البدايات الجميلة للكوميديا

مسلسل «أبجد هوّس» ابتداء بالنص، ليس إلاَّ محاولة غير ناضجة، لاستغلال قصة نجاح مسلسل عراقي قديم أيام كان البث التلفزيوني بالأبيض والأسود، حمل عنوان «تحت موس الحلاق» تم إنتاجه في نهاية ستينات القرن الماضي، بعد أن كان قد مضى سنوات معدودة على بداية البث التلفزيوني العراقي عام 1956 وكان ذلك في أواخر العهد الملكي، وقد أدى الشخصيات الرئيسة للمسلسل آنذاك كل من «سليم البصري، حمودي الحارثي، راسم الجميلي، سمير القاضي، سهام السبتي. وعلى الرغم من بساطة الإمكانات المادية والتقنية في تلك الفترة الزمنية من عمر الإنتاج التلفزيوني، إضافة إلى تواضع الخبرة التقنية في الكتابة الكوميدية للتلفزيون، إلاّ أن جميع مشاهد مسلسل «تحت موس الحلاق» بنسخته الأولى الأصلية ما زالت تمتلك سحرها المؤثر على وجدان الجمهور عندما تعرض مقاطع منها في مناسبات معينة على الفضائيات، أو تُشاهد في مواقع التواصل الاجتماعي، ويكفي أن نشير إلى مشهد «قاعة الدرس» في النسخة الأصلية الذي تم استنساخه ولكن بشكل مشوّه في مسلسل «أبجد هوّس» إنتاج 2024 حيث توفر المشهد بنسخته الأصلية على العناصر الدرامية التي ينبغي حضورها حتى تتحقق كوميديا الموقف، وهذا ما يشير إليه الدكتور محمد عناني في كتابه «فن الكوميديا» فيقول إن «العلاقات التي تتعرض للتشويه في الكتابة والمعالجة الدرامية، لا يتصل التشويه فيها بجوهر المشاعر البشرية، ولكن بأشكال السلوك في مجتمع بعينه وزمان بعينه حسبما تحدد التقاليد وحسبما يقضي العرف السائد». وعلى الضد من ذلك جرى في مسلسل «أبجد هوّس» تشويه المشاعر البشرية للشخصيات، بقصد انتزاع ضحك الجمهور عليها بشكل قسري ومفتعل، عبر بناء علاقات بعيدة عن المنطق والواقع بين الشخصيات.

تسطيح الشخوص

ما يؤشر على الكثير مما يتم إنتاجه من الأعمال التلفزيونية الكوميدية في العراق خلال العقدين الماضيين سقوطها في دائرة من سوء الفهم لفن الكوميديا، إلى الحد الذي لم ينج من ذلك إلاّ عدد محدود من الأعمال التي تمكنت من أن تترك أثرا مهما، كما هي سلسلة أعمال «قط أحمر» للمؤلف والممثل المجتهد أحمد وحيد، فقد استوعب وحيد في نتاجه الكوميدي فكرة أن الكوميديا تعتمد بالأساس على إمكانية جمع المتناقضات في حياة المجتمع في لحظة زمكانية محددة وتعريتها بطريقة ساخرة، والتأكيد على أن الإنسان في الحياة ينزع إلى الاحتفاء بالفرح، رغم ما يواجهه من ظروف ينعدم فيها الانسجام والتوافق. والمسألة التي ينبغي الإشارة إليها حول ما ينتج من كوميديا تلفزيونية في العراق أن الكثير منها على مستوى الكتابة يفتقر إلى العمق في بناء الشخصيات والقضايا المطروحة، كما لو أنه يتم التعامل مع الكوميديا باعتبارها أقل شأنا من التراجيديا لأنها مرتبطة بالضحك والهزل ولا علاقة تجمعها مع الجدية كما هو الحال في التراجيديا، وإذا ما استعدنا بما قدمه الممثل والمؤلف الراحل يوسف العاني (1927– 2016) من كوميديا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، كما في السهرة التلفزيونية «عبود يغني» على سبيل المثال، سنقف أمام نموذج لنتاج فني تحقق فيه الميزانين، عندما أفلح في أن يجمع في تركيبة واحدة رؤيته النقدية الساخرة مع تدفق مشاعر البهجة والحزن والضحك والهزل، ليستحيل العمل الفني في محصلته النهائية إلى تجربة جمالية ووجدانية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية