الفيلم البولندي «الحدود الخضراء»: اللاجئون رصاص حي في عقيدة العنصريين

مروان ياسين الدليمي
حجم الخط
0

هناك حيز مهم من الإنتاج السينمائي الغربي، الأوروبي على وجه خاص، بقي مهتما بالقضايا الإنسانية، مبتعدا بذلك عن نمطية الإنتاج الهوليوودي المقولب على تكريس مفردات الحركة والعنف المفرط والجنس، واستمرار ماكنة الإنتاج السينمائي الأوروبي في ترصين هذا الخيار، ما هو إلاَّ تأكيد على خصوصية العلاقة التي تجمع السينما مع الواقع، والفيلم البولندي «الحدود الخضراء» إنتاج 2023 للمخرجة آغنيشكا هولاند يمثل نموذجا لهذه النوعية من الأفلام، التي تحاول أن تبقي هذا الفن ميدانا إبداعيا، متسما بحيوية البحث عن الصراعات الوجودية التي تواجه الإنسان والمجتمعات، مثلما هي قصة هذا الفيلم الذي يتناول مأساة أفراد عائلة سورية وامرأة أفغانية شاء القدر أن يكونوا أشبه برهائن حرب قذرة بين حرس حدود دولتي بولندا وبيلاروسيا، فلا يستطيعون دخول بولندا، ولا العودة إلى بيلاروسيا التي جاءوا منها.

أربعة فصول وخاتمة

بدا أسلوب الفيلم واقعيا في تناوله لقضية اللاجئين غير الشرعيين، وحمل خطابه الفني قدرا كبيرا من إشارات الدفاع عنهم، كما أظهر السيناريو أن المجتمع البولندي لم يخل من أصوات جريئة ترفض وتقاوم الأساليب الوحشية التي يتم ممارستها بحق اللاجئين من قبل حرس الحدود، ولن تتردد في المخاطرة بسلامتها من أجل إنقاذهم والدفاع عنهم. ولأجل أن يكون واقعيا في تصوير هذه القضية بجوانبها المركبة والمعقدة، جاء خيار تقسيم الفيلم إلى أربعة فصول وخاتمة كما في التراجيديا الإغريقية، حيث تجري الفصول الأربعة في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2021 أما الخاتمة فتجري أحداثها في 26 شباط/فبراير 2022. يتناول الفصل الأول مأزق أفراد عائلة سورية وامرأة أفغانية وهم يحاولون بشكل غير شرعي عبور الحدود البيلاروسية إلى بولندا، وما يتعرضون له من ابتزاز وظروف لا إنسانية وتعامل وحشي من قبل حرس الحدود، وقد جاءت التجربة بكل مرارتها معبأة بصور على قدر كبير من الواقعية، والفضل في ذلك يعود إلى مشاركة ممثِلَين سورييِن، جلال الطويل ومحمد آل رشّي، في ضخ السيناريو بتفاصيل مهمة من وحي سيرتهما الذاتية، حيث سبق لهما بعد العام 2011 أن هربا من بلدهما نتيجة ملاحقتهما من قبل النظام الحاكم، وخاضا في ما بعد تجربة البحث عن بلد آمن يوفر لهما حياة كريمة. وفي حديث لمخرجة الفيلم مع الصحافة أشارت هولاند إلى أنها كانت حريصة على أن تستثمر تجربتهما في صقل حكاية الفيلم، مضيفة بهذا السياق: «أردت أن أُظهر الحقيقة الإنسانية والأخلاقية، بحيث يمكننا عندما نتعرَّف تدريجياً على هؤلاء الأشخاص، أن ندخل معهم إلى دوائر الجحيم المختلفة، لأن هذا هو الجزء الأول من الفيلم. والأطفال اللاجئون في فيلمنا هم أطفال سوريون وصلوا أخيراً إلى تركيا بعد ست عمليات صدّ وإعادة، وهم الآن مواطنون أتراك آمنون وسعداء». والفصل الثاني من الفيلم جاء تحت عنوان «حرس الحدود» إذ توقف عند حارس حدود بولندي (توماس فلوسوك) يجد نفسه في مأزق أخلاقي بعد أن يرى ما يتعرض له اللاجئون من ظلم، والفصل الثالث كان محوره «الناشطون» من المدنيين البولنديين، أما الفصل الرابع فقد تمركز حول «يوليا» الطبيبة النفسية (مايا أوستاسزيفسكا) التي تقرر المخاطرة بحياتها والذهاب إلى المنطقة الحدودية البولندية البيلاروسية لمساندة اللاجئين، وقد عززت شخصيتها فكرة التعاطف تجاه اللاجئين، مقابل إظهار القسوة الشديدة التي يمارسها حرس الحدود على الجانبين البيلاروسي والبولندي، أمَّا الخاتمة فقد جاءت تحت عنوان «الحدود البولندية الأوكرانية 26 فبراير 2022» وهو اليوم الذي تدفقت فيه قوافل اللاجئين الأوكرانيين على الحدود البولندية، وفُتحت أمامهم كل الأبواب لاستقبالهم بعد أن اشتعلت نيران الحرب الروسية الأوكرانية.

ما بين الروائي
والوثائقي

ضمن هذه الحبكة التي تهدف في قصدياتها إلى كشف الحقيقة وتعرية المعايير المزدوجة، توقف السيناريو عند تفاصيل تتعلق بحياة الشخصيات المحورية (العائلة السورية المؤلفة من الجد والأبن وزوجته وأطفاله الثلاثة إلى جانب المرأة الأفغانية) ثم بقية شخصيات الفيلم، من بينهم حرس حدود ومواطنون عنصريون، إضافة إلى سكان محليين أظهروا تعاطفا مع اللاجئين، لكنهم بدوا عاجزين أمام صرامة الواقع وحساسيته نتيجة للصراع السياسي الدائر داخل المجتمع البولندي، إذ يرى كثير من البولنديين أن بيلاروسيا في محاولة منها لدعم بوتين تحاول الضغط على الاتحاد الأوروبي عن طريق فسح المجال لتدفق قوافل اللاجئين غير الشرعيين عبر الحدود المشتركة مع بولندا.
إن استيعاب موضوعة الفيلم وطرحها بشكل واقعي عبر السيناريو، ليست قضية سهلة من الناحية الفنية، طالما هناك عشرات التقارير التلفزيونية الميدانية التي توغلت في معسكرات اللاجئين ورافقتهم في رحلة اجتياز الحدود بكل صعوباتها، فما الذي يمكن أن يضيفه الفيلم الروائي إلى الحقيقة الواقعية التي تتضمنها التقارير والأفلام الوثائقية إذا ما اقترب من قضية اللاجئين؟ من هنا تبدو صعوبة المهمة بالشكل الذي يصبح الفيلم الروائي في موقع أقرب إلى تزييف الحقائق والأحداث وتزويقها لصالح المحاكاة التخيلية الدرامية، ولهذا ابتعدت المخرجة في أسلوبها وهي تتعامل مع واقع ملموس، عن أي لمحة قد تبدو معالجتها الفنية لصالح تغليب البنية التخيلية، حتى بدا شكل الفيلم في عدد من مشاهده، أقرب إلى أسلوب الفيلم الوثائقي في ما يتعلق بحركة الكاميرا والإضاءة وإدارة التصوير خاصة في مشاهد حركة اللاجئين وتنقلهم داخل الغابة.

نقد لاذع

أهمية البنية الجمالية لهذا الفيلم في أنه لم يكن مباشرا في نقده اللاذع للعنصرية، وقد تم التعبير عن ذلك عبر منطقية أفعال الشخصيات، فحرس الحدود لكلا البلدين تصدر عنهم عبارات مبتذلة ضد اللاجئين وبلدانهم، وحتى بكاء الأطفال لم يترك لديهم أية مشاعر شفقة تجاههم. بل إن القائد البولندي يوصي جنوده بأن يتخلصوا من جثث موتاهم برميها إلى الحدود البيلاروسية وأن يمحوا أي أثر لها، كما يحقدون عليهم لأنهم يحملون أجهزة موبايل iPhone باهظة الثمن. ومن المشاهد المعبأة بالكراهية واللإنسانية مشهد المرأة الحامل التي يتم رميها من فوق الأسلاك الشائكة التي تفصل بين البلدين للتخلص منها، ومشهد موت الطفل السوري بعد أن يغرق في بركة وحل، وتعجز المرأة الأفغانية والطبيبة البولندية عن إنقاذه.
السياق السردي للفيلم يفضي بالمتلقي إلى أن يتراكم لديه إحساس حاد بالحقائق المرعبة التي يواجهها اللاجئون الفارون من أوطانهم، بدءا بالرحلة المضنية مشيا على الأقدام حيث يكابدون مخاطر جمة، مرورا بالمواقف العنصرية التي تحاصرهم، وانتهاء بسقوطهم ضحية للصراعات السياسية بين البلدان التي يمرون بها، هذا إضافة إلى ما يعرضه من طبيعة العلاقات المتأزمة داخل المجتمع البولندي.
يختتم الفيلم بالحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت مطلع العام 2022 ليكشف عن ازدواجية المعايير التي تعاملت بها السلطة البولندية مع ملف اللاجئين، وذلك عندما استقبلت حدودها بكل ترحاب آلاف الأوكرانيين، على النقيض من تعاملها العنصري مع اللاجئين القادمين من الشرق.

الوجه الآخر لأوروبا

تشير التقارير الصحافية إلى أن الفيلم عند عرضه في شهر أيلول/سبتمبر 2023 قوبل بموجة عارمة من الغضب، طالت المخرجة وطاقم الممثلين، وهذا يعود إلى أنه كان جريئا في نقده لمؤسسات السلطة البولندية إزاء تعاملها مع قضية اللاجئين، بعد أن أصبحوا لعبة يتقاذفها حرس الحدود بين البلدين، وليسقطوا في ظروف بائسة لا يحسدون عليها، منهم من يموت قتلا ومنهم من يختفي في ظروف غامضة، ومنهم من يتيه في أرض مجهولة ولا أحد يعرف عنه شيئا. وقد تلقت المخرجة هولاند هجوماً عنيفاً من قبل وزير العدل البولندي الأسبق زبيغنيو زيوبرو، الذي وصف الفيلم بأنه «دعاية نازية» بينما دعا أندريه دودا، الرئيس المعيّن من قبل حزب القانون والعدالة إلى مقاطعة الفيلم، ونتيجة لما تعرضت له من هجوم عبر الصحافة والإعلام البولندي كان ردها: «مثلما أن هناك وجهين لأوروبا، هناك أيضاً وجهان لبولندا. أحدهما قائم على مبدأ من أجل حريتنا وحريتكم، وهو تقليد الانفتاح والضيافة وحقوق الإنسان والثقافة الرفيعة، لكن هناك وجها للقمع والقومية والعنصرية والمذابح، ومن الواضح أن حكومتنا تتعاطف مع هذا الأخير، ولهذا السبب صدمهم فيلمي بشدة، ومع ذلك، فإنني أقدّر وجه بولندا، حيث تجمعت أعداد كبيرة من اللاجئين على الحدود الأوكرانية في شباط/فبراير 2022 وكان هناك تضامن ورحمة، وهذا الاحترام المسيحي الأساسي للآخرين، بغض النظر عما إذا كان هذا الاحترام متجذراً في الإيمان أو الأخلاق العلمانية».
الفيلم ورغم أنه جاء باللونين الأسود والأبيض إلاَّ أن رؤيته لمواقف الشخصيات وردود أفعالها كانت بعيدة عن الوقوع في نمطية هذا التضاد الحاد في تصنيف المواقف وردود الأفعال، بل تحركت في إطار نظرة موضوعية للطبيعة الإنسانية بتدرجات ألوان المشاعر البشرية.
يُذكر أن الفيلم عُرِض في عدد من المهرجانات الدولية وحظي بتفاعل كبير، ونال جائزة في مهرجان البندقية لعام 2023.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية