الكانتونات الثقافية

حجم الخط
0

عام 1987 م أصدرت مجلة «الموقف الأدبي» عددا ثلاثيا عن القصة القصيرة في سوريا. وهي «مجلة أدبية شهرية يصدرها اتحاد الكتاب العرب بدمشق» كما جاء في تعريفها على الغلاف. واتحاد الكتاب العرب منظمة رسمية، كما يصفه المعارضون، أو مستقلة كما يصف نفسه. صدر من هذه المجلة عدد ثلاثي يضم الأعداد/ 197-198-199 – أيلول – تشرين أول– تشرين ثاني – 1987 – السنة 17/. بتعداد صفحات بلغ 467 صفحة من القطع الكبير. وسمي هذا العدد «عدد ممتاز عن القصة القصيرة في سوريا». ضم هذا العدد 54 قصة لعدد مماثل من الكتاب.
بعد مدة وجيزة 1989أصدرت مجلة دراسات اشتراكية، التي عرّفت نفسها بأنها «فصلية ثقافية» العددين « 6 – 7- 1989» عن القصة القصيرة في سوريا أيضاً. وهذه المجلة كانت تصدر عن الحزب الشيوعي السوري، جناح يوسف فيصل. وبالتالي كانت شبه مسموح بتداولها، لكنها لا تباع في المكتبات، لأنها غير مرخصة، بل توزع على أعضاء الحزب والأصدقاء والمعارف. ضم العدد 29 قصة نشرت على 356 صفحة من القطع الصغير. وقد كانت مجلة ناجحة عندما كان الراحل ظهير عبد الصمد رئيس تحريرها. لكن في ذروة نجاحها صدر قرار من قيادة الحزب، الذي تتبع له، بقصم ظهرها، وذلك باستبدال رئيس التحرير ظهير عبد الصمد بشخص آخر، حولها إلى منشور سياسي لا قيمة له.
عندما تسمع أن عددين كبيرين عن القصة القصيرة في سوريا صدرا في وقت متقارب، تتوقع أن ترى تكرراً لنفس أسماء الكتاب، لكن مع اختيارات قصصية مختلفة، وهامش تغيير في الأسماء لا يتعدى 10 أو 20 في المائة. لكن المفاجئ أن أسماء كتاب القصة في العددين مختلفة بشكل شبه تام، وكأن كل عدد يتحدث عن بلد مختلف. يوجد فقط اسمان مشتركان هما وليد معماري وصلاح دهني. أما بقية الأسماء فهي مختلفة. لا شيء مشترك سوى هذين الاسمين. فأي العددين يتحدث عن القصة القصيرة في سورياً؟
من الواضح أن كل طرف، حسب التوصيف السوري الشائع، لتوصيف هذه الحالة «جاب جماعته» وقال هؤلاء كتاب القصة القصيرة في سوريا. وكان يمكن للطرفين أن يتواضعا قليلاً. فلو كتبا أنهما يصدران «مختارات من القصة القصيرة السورية» لكان ذلك أكثر منطقية. لكن الطرفين قررا أن يصادرا سوريا ثقافياً، فصار لدينا في عالم القصة القصيرة سوريتان، واحدة تخص المؤسسة شبه الرسمية «اتحاد الكتاب العرب» والثانية تخص الحزب شبه الرسمي «جناح يوسف فيصل».
وبالطبع يمكنك أن تتوقع أن كل طرف لا يعترف بالآخر، فكتاب اليسار يصمون كتاب الاتحاد بالتقليدية، وأنهم عجائز محنطون تجاوزهم الزمن، ومن العيب أن نطلق عليهم اسم «كتاب». وفي نفس الوقت كتاب الاتحاد يسخرون من هؤلاء الصبيان، الذين يعبثون بالكلمات، ولا يعرفون أبسط قواعد اللغة. وإذن فلغة الحوار والتواصل مقطوعة بشكل تام بين الطرفين. وكل طرف ينكر وجود الآخر. والأمر اللافت أن الطرفين تجاهلا أهم قاص سوري في القرن العشرين أعني زكريا تامر فاستبعداه من العددين!
كل طرف صادر اسم سوريا، واعتبر الآخرين غير موجودين. فلم يشر ولو إشارة بسيطة إلى أن هناك من يكتب القصة لم نستطع التواصل معه أو لم نستطع الوصول لتجربته. وبالطبع هذه الانقسامات لا تنتهي. فهناك كتاب القصة المحسوبين على التيار القومي السوري، وهناك أيضاً كتاب القصة المحسوبين على التيار الإسلامي أمثال محمد المجذوب ومحمد الحسناوي وغيرهم. وهؤلاء تم استبعادهم من العددين. وربما لو أتيح للمذكورين إصدار دراسات تخص القصة القصيرة في سوريا لفعلا مثل ما فعل السابقون.. كل طرف سيجلب جماعته ويصدر بهم عدداً «عن القصة القصيرة في سوريا» عندها يكون لدينا نسخ إضافية من سوريا، لأن كل الأطراف لا ترضى أقل من مصادرة اسم سوريا كاملاً. وكأن سوريا ملك شخصي لطرف واحد!!
وفي ملاحظة خارج سياق المقال «الكانتونات الثقافية» أُشير إلى أن القاص والروائي الراحل فاضل السباعي، الذي ملأ الدنيا صراخاً عن مظلوميته وتهميشه من قبل المؤسسات الثقافية الرسمية، كان أحد كتاب افتتاحية العدد الثلاثي الصادر عن اتحاد الكتاب العرب، والتي كتبها ثلاثة كتاب أولهم علي عقلة عرسان رئيس الاتحاد، وثانيهم عبد الله أبو هيف نائب الرئيس، وثالثهم المهمش فاضل السباعي. كما إن العدد ضم قصة له! فعن أي تهميش كان يتحدث الراحل؟!
هذه طريقة عمل «الكانتونات الثقافية» في سوريا. كل حزب يشكل مجموعة ثقافية مرتبطة به، ينصبها ممثلة للبلد، ويتصرف على أنه لا يوجد خارج حدود هذه المجموعة أي ثقافة. فالقاص المتميز في هذه المجموعة هو أهم قاص في سوريا. وشاعر المجموعة هو فحل شعراء سوريا.. وهكذا دواليك.
منذ زمن ليس بالبعيد توفي كاتب مسرحي سوري معارض، قضى عقداً من حياته سجينا سياسيا. في حفل التأبين الذي دعا إليه أصدقاء الراحل على أحد برامج التواصل الاجتماعي كان المشاركون في تأبينه إما من طائفته أو من حزبه فقط لا غير. فتساءلت بيني وبين نفسي ألم يكن للراحل أصدقاء من لون آخر؟ ألم يكن له صديق خارج الحزب والطائفة؟!
وفي نفس سياق «الكنتنة» الثقافية أبدى أحد الكتاب السياسيين رأياً مفاده أنه لا يوجد مفكرون في تاريخ سورية الحديث سوى ياسين الحافظ وإلياس مرقص. وكاد أن يضم نفسه للقائمة. لكن يبدو أنه خجل فتراجع في آخر لحظة. وبسهولة يمكنك أن تعرف أن الكاتبين المذكورين يعتبران مقربين أو منظرين للحزب الذي ينتمي إليه المتحدث (حقيقة لا أعلم الصيغة الحقيقية التي تربط إلياس مرقص وياسين الحافظ بذلك الحزب).
إن «الكانتونات» تنشأ في العقل قبل أن تُنصب المتاريس في الشوارع. وقديماً قيل أول الحرب كلام.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية