الفيلم الفنلندي «الأوراق المتساقطة»: التغريب في هيكلة ما هو تقليدي

 مروان ياسين الدليمي
حجم الخط
0

ينحاز المخرج آكي كوريسماكي في فيلمه «الأوراق المتساقطة» إنتاج 2023 إلى خيار البساطة في كل تفصيل من العمل، مؤكدا قدرته على خلق بنية واقعية مفعمة بثراء المشاعر الدفينة، واضعا مسار شخصياته المتأزمة في غليان درامي مكتوم، ليكشف حطامهم الداخلي وهم يعيشون عزلة موحشة، فرضت عليهم إحساسا بالكآبة، وشعورا متفاقما بالوحدة، خاضعين لإيقاع مكرر ورتيب في رحلة ذهابهم وإيابهم الروتينية ما بين العمل والأمكنة التي يسكنونها، حتى بدت الحياة من حولهم خالية من مظاهر البهجة والتفاؤل. ولكي تتغلب شخصياته الرئيسة على وحشة أيامها ويأسها وحرمانها العاطفي، تلجأ إلى إدمان الكحول والسجائر وسماع موسيقى البلوز الحزينة، التي يتردد صداها في مواضع كثيرة من مسار الأحداث. الفيلم نال جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان بنسخته الأخيرة، وجائزة النقاد في مهرجان برلين.
ويسرد الفيلم قصة رجل وامرأة في العاصمة الفنلندية هلسنكي تعتصرهما الوحدة، فيحاول كل واحد منهما العثور على الحب من بين أنقاض حياتهما، الحكاية تدور تفاصيلها في الوقت الراهن، وطيلة زمن الفيلم تهيمن أخبار الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا عبر المذياع وليس عبر أجهزة التلفاز! وهنا  تكمن واحدة من المفارقات التي تعمَّدها المخرج لإحداث يقظة في وعي المتلقي، لكي يطرح تساؤلات أساسية على نفسه، فمن المفترض أن الأحداث تدور في عام 2023 لكن انطباعًا قويا يؤكد لنا من خلال بعض المفردات في داخل إطار الصورة، بأننا في سبعينات أو ثمانينات القرن الماضي، حيث لا توجد شاشات تلفزيونية واسعة ولا أجهزة موبايل، وكأن المخرج أراد أن يوصل معلومة بأن مدينة هلسنكي من حيث الزمن تعيش عزلة عن العالم، ولم تدخل القرن الواحد والعشرين بعد مثلما هي شخصيات الفيلم التي تعيش عزلة موحشة، وأنها ما زالت قابعة في منتصف القرن العشرين.
هذه المفارقة تطالعنا في مشاهد معينة، توزعت على طول زمن الفيلم، مثل مشهد انتظار الشخصية الرئيسة أنسا (ألما بويستي) أمام بوابة دار العرض السينمائية وخلفها تظهر لوحة لملصقات أفلام سينمائية يعود تاريخ إنتاجها إلى منتصف القرن الماضي، أو في نوعية ملابس أنسا وطراز معاطفها القديمة، أو في تصاميم المقاعد والأثاث في بيتها، أو في الأغاني والقطع الموسيقية التي تبثها محطات الإذاعة عبر أجهزة الراديو، أو التي تعزف في حانة كاريوكي حيث تقضي الشخصيات لياليها بعد العمل.
هذا المنحى التغريبي في الرؤية، حسب مفهوم برتولد بريخت للتغريب، يحمل بين إشاراته الرمزية حنينا إلى ماض بعيد من قبل المخرج، إذ سبق له أن تناول تلك الفترات الزمنية، في أفلامه التي عالج فيها واقع الطبقة العاملة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي مثل «ظلال في الجنة» (1986) و«آرييل»(1988) و«فتاة مصنع الثقاب» (1990) وأسلوبه القائم على التغريب يعكس نبرة التمرد في حسه النقدي، وروح الدعابة المفقودة في بيئة جافة وباردة.

بساطة السرد

البساطة تتجلى في معظم أفلام كوريسماكي، معبرا من خلالها عن أبعاد إنسانية، ورمزية ثرية في دلالاتها. هذه الخاصية في سرد الموضوعات، تسفر عن حذاقة شخصيته الفنية في إيصال رسائله، من دون أن يتعكز على البذخ في ما يظهره من مفردات بصرية.
فرادة كوريسماكي كمخرج، تكمن في ما يمتلكه من تقنية، تجعله قادرا على إيهام المتلقي في خلق عالم واقعي سلِس، يحمل بصمته الشخصية، بدءاً بالمكان والمشهد وحركة الكاميرا وزوايا التصوير ومساقط الإضاءة وانتهاء في ضبط وتقنين أدوات الممثلين بالشكل الذي تشرق منهم العفوية، كما لو أنهم شخصيات واقعية في فيلم تسجيلي وليس فيلما روائيا.
الوصول إلى أسلوب «مينيماليّ» في تأثيث المكان وإدارة التصوير لتحقيق الرؤى الفنية المؤثرة والمدهشة والبسيطة في آن، تعد خاصية استثنائية يمتلكها أصحاب الموهبة الفذة ممن يتسمون بعمق الوعي والمعرفة، مثل كوريسماكي، فهي تفرض تحديات صعبة، تستوجب حضور مخيلة ملهمة تحلّق في مدار الابتكار رغم الحضور القوي للواقعية، واللافت في هذا الفيلم أن المخرج بلمساته الساحرة ببساطتها، أعاد صياغة ما يبدو تقليديا في العناصر الدرامية، ليضع المتلقي في موقع المتأمل. فصناعة فيلم ناضج في لغته السينمائية، يستحوذ على انتباه الجمهور، لا يحتاج إلى إمكانيات مادية ضخمة ولا إلى تعقيد في الحبكة الدرامية أو في أسلوب السرد، فالمهم أن يكون المخرج عارفا بما يريد أن يقوله بشكل مختزل دون اللجوء إلى ثرثرة شكلانية.

حكاية الفيلم

يسرد الفيلم قصة تقليدية رومانسية شخصياتها الرئيسية هولابا (جوسي فاتانين) عامل فقير تخطى العقد الثالث من عمره، لم يعد لديه أي أمل بمستقبل أفضل، وليست لديه ثقة أنه سيصل إلى سن الخمسين من عمره، يبدو وحيدا، غارقا في دائرة من اليأس والاكتئاب والحرمان العاطفي، ليست لديه عائلة أو أصدقاء يخففون عنه كآبته، بمن فيهم زميله في السكن الجماعي الذي يضم لاجئين، العامل الخمسيني الثرثار ووتاري (جان هيتيانين) الذي يحلم أن يكون مطربا رغم تقدمه في السن وافتقاره للصوت والموهبة. ولكي يتخلص هولابا من دوامة التفكير بأحواله، يجد في احتساء الكحول سلوته الوحيدة حتى أثناء العمل، ولمَّا يكتشف رؤساؤه ذلك يحذرونه، لكنه لا يرتدع، فيطردونه من العمل، ليغادر غير آسف على فعلته، باحثا عن عمل في مكان آخر.
أنسا هي الشخصية المحورية الثانية، امرأة ثلاثينية تعيش وحيدة في شقتها التي ورثتها عن جدتها، يكاد الصمت أن يكون لغتها، فهي لا تتحدث في الفيلم سوى جمل معدودة، هي أيضا تطرد من عملها في السوبر ماركت، بعد أن أخذت شطيرة منتهية الصلاحية قبل أن يتم رميها في حاوية النفايات، لتبدأ العمل في مطعم صغير وبأجر أسبوعي.
اعتاد هولابا أن يذهب مع زميله في السكن ووتاري إلى حانة كاريوكي، وفي إحدى الليالي تلتقي عيون أنسا وهولابا، فيتبادلان النظرات. وفي يوم آخر يلتقيها صدفة أمام باب المطعم الذي تعمل فيه، بينما كانت تتابع مشهد اعتقال مالكه من قبل الشرطة بتهمة بيع المخدرات، ولسوء حظها كان ذلك في اليوم الذي ينبغي أن تستلم فيه أجرتها الأسبوعية، فيتغلب هولابا على خجله ويقترب منها ويدعوها لاحتساء القهوة، ثم يذهبان معا إلى السينما، من دون أن يتعرف على اسمها أو عنوان سكنها، ولما يغادران صالة العرض بعد انتهاء الفيلم، يقفان عند بوابة دار العرض قبل أن يودعا بعضهما فتكتب على ورقة صغيرة تقتطعها من دفتر ملاحظاتها رقم تلفونها الأرضي وتسلمه إياها حتى يتصل بها، وتظهر خلفهما لوحة إعلانات الأفلام ويظهر فيها ملصق لفيلم «لقاء موجز» إنتاج (1945) للمخرج ديفيد لين، الذي يتحدث عن دراما رومانسية تدور بين امرأة تنتظر حبيبها كل يوم خميس في محطة القطار.
بعد عودة هولابا إلى مبيته، يكتشف فقدانه للورقة التي فيها رقم الهاتف، فتنقطع بينهما سبل الاتصال والتواصل، ويخبر صديقه كيف وقع في حب أنسا في الموعد الأول، قائلاً إنه كان على وشك الزواج من الفتاة التي لا يعرف حتى اسمها. فلم يكن لديه من حيلة سوى أن يذهب يوميا ويقف أمام دار العرض السينمائية، على أمل تأتي بحثا عنه في نفس المكان، ومن جهتها هي أيضا، كانت تنتظر بفارغ الصبر مكالمة هاتفية منه، وتقف يائسة أمام النافذة وشعورا بالغضب يعتريها لأنه تخلف عن الاتصال بها. فما كان منها سوى أن تذهب كل يوم وتقف أمام باب دار العرض السينمائي على أمل أن يظهر أمامها. وعندما يتحقق لقاءهما ثانية، تسلمه ورقة فيها عنوان بيتها بعد أن دعته لزيارتها حتى يتناولا العشاء معا، فيحرص هذه المرة على أن لا تضيع منه الورقة، فيدحسها في جيب قمصلته.
لما حضر إلى بيتها، أخبرها عن قراره بالارتباط بها، فأبدت موافقتها، لكنها اشترطت عليه التوقف عن شرب الكحول، ولأنه يجد نفسه عاجزا عن تنفيذ هذا الشرط يغادر منزعجا. لكنه بعد تأمل وتفكير عندما اختلى بنفسه، قرر الانتصار لمشاعر الحب التي لطالما افتقدها في حياته الخاوية، فيرمي قناني الكحول في سلة المهملات، متخذا قرار التخلى نهائيا عن الادمان، فيتصل بها ويتفقان على اللقاء. لكن سوء الحظ الذي لازمه طوال حياته لعب دوره أيضا، فبينما كان متأنقا وهو متجه إلى بيتها، يصدمه قطار، فيرقد في المستشفى غائبا عن الوعي. تبقى أنسا تنتظره عدة أيام، وهي في حيرة من أمرها، تتساءل مع نفسها عن سبب غيابه، ثم تلتقي بزميله في السكن ويخبرها عن الحادث، فتذهب لزيارته. تجده راقدا على السرير وحيدا، في صالة تخلو من أي مريض آخر غيره، وبدا مبنى المستشفى على شكل قبو واسع تحت الأرض، يحتوي على ممرات ودهاليز، وكأنه ملجأ حربي للوقاية من ضربة نووية. تحرص أنسا أثناء زياراتها له يوميا، على أن تقرأ له المجلات والكلمات المتقاطعة وتتحدث إليه بكل ما يخطر في بالها، رغم أنه فاقد للوعي، ولما يصحو من الغيبوبة، ويستعيد قدرته على السير مستعينا بعكازتين يغادر المستشفى برفقتها ومعها كلب كانت قد عثرت عليه ضائعا في أحد شوارع المدينة، فأشفقت عليه وأخذته إلى بيتها لتعتني به.

واقعية سياسية

الواقعية السياسية، التي سبق أن كانت حاضرة في معظم أفلام كوريسماكي، نجدها أيضا في هذا الشريط من خلال شخصية متشرد يظهر في بداية الفيلم وهو يبحث عن الأطعمة المنتهية الصلاحية، التي كانت أنسا ترميها في حاوية النفيات قبل طردها من العمل، كذلك نجدها في أخبار الحرب الدموية الأوكرانية الروسية التي تبثها محطات الإذاعة، أيضا في الإشارة إلى تشارلي تشابلن، وذلك عندما يسأل هولابا في المشهد الأخير عن اسم الكلب الذي كان برفقة حبيبته أنسا، فتجيبه بأن أسمه شابلن، ومن الواضح أنها بمثابة تلويحة احتفاء لشابلن، الذي سبق أن تناول في عدد من أفلامه الصامتة، الأحلام البسيطة لشخصيات مسحوقة تعيش في قاع المجتمع.
رغم شيوع الحزن والحرمان على شخصيات الفيلم، إلاَّ أن المخرج حقق الميزانسين باسلوبه، وأمسك خيوط اللعبة بمهارة رفيعة، متنقلا ما بين دفء مشاعرهم الكامنة تحت صقيع أيامهم، وشفافية اللمسة الكوميدية المبثوثة في مفارقات المواقف التي واجهتهم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية