«قوافي مشرقية» وخمسة رسَّامين عراقيين: تأسيس نظرة جديدة في الحراك التشكيلي

مروان ياسين الدليمي
حجم الخط
0

يبقى فن الرسم نشاطا إبداعيا فرديا بامتياز، حتى عندما يلتقي مجموعة من الفنانين في معرض مشترك وتحت عنوان واحد، فالنتاج الفني يمثل أحد مظاهر التعبير عن مكونات الوعي بملامحه الذاتية المشروطة بجملة عوامل مرتبطة بسياقات اجتماعية وثقافية عامة تحيط بتجربة الفنان، ومن جانب آخر فإن الهاجس الملازم لشخصية المبدع المنتج دائما ما يدفعه إلى أن يتوغل في ذاته مع أية موضوعة يتواجه فيها مع الواقع، قاصدا بذلك البحث عن مساحة خاصة يلوذ بها، ومن خلالها يعرض رؤيته للأشياء التي يتفاعل معها في الواقع سواء كانت مرئية أو لا مرئية. وإذا ما حاولنا الوصول إلى الضرورات التي تفرض نفسها لتلتقي في لحظة ما رؤى مختلفة تمثل خيارات فردية لمجموعة فنانين، سنخرج بلاشك بنتائج مفتوحة على قناعات لا حصر لها، بالتالي فإن هذه المحصلة اللامحدودة من الصياغات التي تموضِعُ اللقاءات المشتركة، تتسق مع الحرية التي تمنحها التجربة الفنية لكل فنان عند تمثله لأية فكرة يشتغل عليها في إطار التجربة الجماعية.
وإذا ما قرأنا تجربة المعرض المشترك «قوافي مشرقية « الذي أقيم في مركز الأطرقجي في العاصمة العراقية بغداد في 27 نيسان (ابريل) 2024 والذي ساهم فيه خمسة رسامين عراقيين من مدينة الموصل (خليف محمود، رائد فرحان، حازم صالح العبدلي، حكم الكاتب، ومحمد ذنون) سنصل إلى أن هناك قَدْرَا من التفاهم بين المشاركين، رغم اختلاف أساليبهم وانتماءهم من الناحية العمرية إلى أجيال مختلفة، لكنهم يلتقون في حساسيتهم العالية إزاء فن الرسم وتعلقهم الشديد بفكرة أن يكون الفنان متمردا على نفسه، بمعنى أن لا يبقى نتاجه أسير ما أنجزه في تجاربه السابقة.
السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: ما المنظور الجمالي أو الفكرة التي جمعت الأسماء الخمسة في هذا اللقاء؟ وإجابة على ذلك يوضح لنا الرسام حازم صالح العبدلي «المنظور الجمالي حاضر دائما وأبدا حتى في أدنى الأعمال الفنية وأكثرها نشازا في المدارس الفنية المتعارف عليها، لكن مسألة الاتفاق على فكرة أو توجه فني معين تم تناوله من قبل المشتركين الخمسة. فلا أظن أن ذلك كان واضحا في العرض، وأنا شخصيا أتمنى إذا كانت هناك عروض لاحقة أن يتم الالتفات إلى هذه المسألة لأهميتها الشديدة في تأسيس وجهة نظر في الحراك التشكيلي، وهذا ليس معناه أن تبتلع المجموعة الفرد، ولكن أن تدعمه بالاتفاق على أطر معينة تكون نافعة في التأصيل لقيم جمالية اكثر رصانة».

تناغم مع الرواد

كل واحد من الرسامين الخمسة يمتلك مرجعيته الثقافية وأدواته الخاصة التي تشكلت فاعليتها عبر فصول من البحث والإنتاج مر بها، وما يجمعهم يتمثل بدراستهم الأكاديمية للفن التشكيلي، وانتماءهم إلى مدينة الموصل شمال العراق بما تختزنه بيئتها الاجتماعية من تنوّع في مكوناتها من حيث الأعراق والأديان والثقافات، وقد تبلورت عن هذه العوامل سمات خاصة بها وسمت السياق الفني المنجز في إطار الرسم، وقد ساعد على تكوينه أصالة التجربة لدى الرسامين الرواد، يأتي في مقدمتهم نجيب يونس، ومن ثم أسماء كبيرة أخرى أمثال ضِرار القدّو وستار الشيخ. وقد أشار إلى هذه الفكرة الرّسام رائد فرحان، قائلا «اللبنة الأولى التي جمعتنا هي مدينة الموصل بتراثها الثَّر بعيدا عن طبيعة الأسلوب، بالإضافة إلى أننا اعتمدنا ان يكون المشاركين من أجيال مختلفة آخذين بالاعتبار المستوى الفني والأدائي واستمرارية التواصل في المشهد التشكيلي». ويعبر الرسام حكم الكاتب الذي ينتمي إلى جيل جديد من التشكيليين الشباب فيضيف بهذا السياق «من دواعي سروري أن شارك الدكتور خليف محمود والأستاذ القدير رائد فرحان والفنان حازم صالح كونهم جميعاً ينتمون إلى جيل متواتر لجيل الرواد، منهم فائق حسن وجواد سليم وآخرون، فهم درسوا وتعلموا على أيديهم، فكانوا امتدادا لتلك الرحلة الغائرة بالأصالة والاحتراف، وأنا محظوظ جدا لمعاصرتهم ومشاركتهم بمعرض يجمعنا، باعتبارنا قد استلهمنا الفن من خلالهم وتدربنا بصرياً على أعمالهم، أمَّا زميلي محمد ذنون فكلانا ننتمي لجيل واحد، بذلك نكون قد حققنا في هذا المعرض نسيجاً متناغما ومتناسقاً».

البحث عن مساحة حضور

إن معرض «قوافي مشرقية» باعتباره فعالية مشتركة لنخبة متميزة من الرسامين، يعيد إلى المشهد الفني والثقافي إطارا من التفكير يمتلك خصوصيته، بتفعيله آليات التحاور والجدل بين تجارب مختلفة وعند نقطة التقاء واحدة مجسدة في عنوان المعرض، رغم علامات التمايز والتفارق واللاتشابه بين مسارات كل واحد من المشاركين، وهذا ما يشير إليه الرسام حازم صالح العبدلي «مسألة الخصوصية عالقة ومتجذرة بين أصحاب التخصص حتى لو لم يلتقوا زمانا ومكانا، لكن هنا تضاف مسألة كوننا نشأنا في نفس المدينة، وأستطيع القول إن هذا العنوان سيضل نقطة انطلاق لصالح أي توجه فني، ورغم أنه لم يكن هناك منهج معين أو اتجاه واضح في تناول ثيمة أو موضوعات معينة، لكن بما أننا نحيا في ذات الفضاء فيقينا ستكون هناك بعض الظلال لقواسم تكاد تكون مشتركة وتصلح لتأسيس وجهة نظر».
أما الرسام رائد فرحان فقد أضاف إلى هذه الفكرة معلقا بأن «الحركة التشكيلية ومنذ بدايات التأسيس دأبت على البحث عن هوية محلية، ومنذ العقود الأولى تشكلت تجمعات فنية بعضها واكب التجارب العالمية والبعض الآخر بحث عن الذات إزاء التحولات الثقافية العالمية، بغض النظر عن طبيعة الأساليب أو التقنيات». ثم يضيف فرحان «ولأجل إحياء هذه الظاهرة الثقافية، كانت انطلاقة معرضنا بحثا عن حضور للتشكيل الموصلي في باحة التشكيل العراقي».

مشرقية الموصل

إن جماعية التجربة في جوهرها ومآلاتها تبعث على تحفيز تقنيات الاختلاف والتفرد والنظر إليها من زوايا مختلفة، وحول ذلك يوضح الرسام حكم الكاتب «إن القاسم المشترك الذي يجمعنا يتمثل بالحياة والبيئة التي انطلقنا من خلالها، فما يجمعنا هموم مشتركة وانتماء مشترك وهدف سامي متفقون عليه ضمنيا، يتمحور بتأكيد اسم مدينة الموصل في المشهد التشكيلي، وقد اخترنا العنوان (قوافي مشرقية)على اعتبار الموصل قافيتنا، وكانت مشرقية بتاريخها وعمقها الحضاري، وأنا هنا أتحدث بصيغة الجمع لأننا وإن أخذ كل واحد منا أسلوباً مغايراً عن قرينه الآخر لكننا في المحصلة النهائية ننتمي إلى جذر واحد».
فكرة المجموعة في هذا المعرض تحمل بين سطورها توقا إلى تخصيب المشهد الفني بسخونة الحوارات الجماعية، والتي قد تفضي إلى نتائج تفتح الأبواب أمام أسئلة مؤجلة، علَّها تأخذ المناخ الفني العام إلى أن يصحو على إجابات فنية جديدة، وهذا ما عبَّر عنه رائد فرحان «ربما يمثل المعرض انطلاقة نحو التجديد وصولا إلى استمرار البحث عن الذات في خضم كم هائل من التجارب المحلية والعالمية، وما آلت إليه التجربة الشخصية لكل واحد منا بعيدا عن العمر أو الجيل الذي ننتمي إليه. ومن المنطقي أن كل واحد منا يعمل وفق توجهه الفكري والجمالي وأسلوبه التقني».
ولاشك في أن العاصمة بغداد تمثل بؤرة الفاعلية التشكيلية، حيث ينضوي في حيوية حياتها الثقافية تاريخ طويل لتجارب وأسماء كبيرة، وتبقى هذه المدينة الفرصة الثمينة التي لا يمكن الاستغناء عنها في تأكيد الحضور الذاتي لأي تجربة، وبناء على ذلك يقول الفنان خليف محمود «من هنا كانت القناعة لدى الفنانين الخمسة في أن يضعوا مشروعهم المشترك أمام ذائقة وحساسية جمهور العاصمة» ويضيف حَكم الكاتب «ألحّت علينا فكرة أن نعرض أعمالنا أمام جمهور العاصمة بغداد، وربما نسي البعض دور الفنان الموصلي، خاصة مع تلك المساهمات الخجولة التي سبقت معرضنا، لكننا بهذه الانتقالة النوعية، وضعنا حجر أساس جديد، وربما فتحنا بوابة مشرقة للعلاقة مع المشهد التشكيلي العراقي تبدأ من قلب مدينة الموصل لتمتد إلى فؤاد العاصمة النابض بالثقافة والفن، فنحن لم نذهب إليهم وإنما تكاملنا معهم».

اللوحة مرآة لِما يحدث

قد يوحي عنوان المعرض أن لدى الفنانين الخمسة نزعة تدفعهم لإعادة النظر بالماضي، أو محاولة لاستعادته والاحتفاء به، وعلى الرغم من أن حكم الكاتب يتفق مع فكرة أن الماضي يلعب دوراً جوهرياً في الحياة، لكنه يؤكد بأن «الماضي لم يكن المفردة التي عملنا عليها، وأعمالي مثلا كانت نوعاً ما مستقبلية استشرفت فيها القادم من الأيام، فقد عملت على رمي الرمح إلى الأمام لأصيب جوهر البعد الذي أرسمه لمستقبلي كفنان يشتغل على الترميز والسيمولوجيا، وطبيعة تفكيري يمضي بي إلى أن أحاول مسك الماضي بيد بينما أمد الأخرى أمامي كي لا يفلت مني شيء من الحاضر». أما الفنان حازم العبدلي فيعبر عن وجهة نظره إزاء العلاقة مع الماضي قائلا «أنا أقف بالضد من التمسك بالماضي بأسلوب مَرَضي، واعتبر ذلك منهجية غير مجدية، فلكل فرد منا وتحت ضغط المتغيرات الحياتية المعقدة التي نعيشها أصبح لديه مواضي متعددة، وليس ماض مفردا، وهذا ما يلقي بظلال ثقيلة على الفكرة وعلى مسطح اللوحة، حينها سوف نصطدم بافتقاد قسم من أصحاب الاختصاص إلى الخيال، واتسام أعمالهم بالسطحية مع الترميز والدلالات، وقديما قيل اللوحة مرآة لِما يحدث، أما عنوان المعرض فهو يشير بشكل أو آخر إلى الحاضنة المدينة، رغم أنني وجدته طويلا أكثر مما ينبغي». ويختتم خليف الحديث بتأكيده على أنه حتى في تعامله مع مفردات قد تكون لها صلة بالماضي إلاّ أنه من الناحية التقنية حرص على تشبيك الواقعية بالتجريد في أسلوبه، لأن ما يقصده في اللوحة أن تكون الفكرة الإنسانية هي البؤرة التي ينبغي أن ينشغل بها المتلقي في المحصلة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية