الفنان التشكيلي العراقي عماد منصور: هيكلةُ العلاقة التقليدية بين العمل النحتي والمتلقي

مروان ياسين الدليمي
حجم الخط
0

مهما نضجت تجربة الفنان ومر بتحولات أسلوبية، فإن أولى المهام التي ينبغي أن يضعها في مقدمة أولياته: العمل على خلق حضور فني مؤثر قائم على فعل المغامرة والتجديد، فالدخول إلى أتون التجربة انطلاقا من الاستجابة الواعية لحافز التجريب، يضع المبدع في منطقة من الاشتغال يكون فيها في حالة مواجهة خفية ومعلنة مع الوعي، بقصد إعادة النظر بما تم إنجازه، وصولا إلى اكتشاف تدفقات جديدة قد تبدو غامضة أو يصعب تفسيرها، لكن في محصلتها النهائية تضع المتلقي في حالة تأمل وتساؤل، والفنان التشكيلي العراقي عماد منصور المقيم في باريس، شكل حضوره تمثيلا لفكرة الرحيل المستمر عن كل ما هو مألوف، سواء في سيرته الشخصية الواقعية أو في تنوع الحقول الفنية والأفكار التي يتفاعل معها، وتبقى فكرة الإنسان المهموم بقضية الرحيل سابقة على غيرها، وهذا ما يبدو واضحا في العديد من أعماله النحتية.
يتضح جليا العمق الإنساني المخبوء في منحوتاته، والتي تشي بموقفه التمردي الصريح، ضد ما يواجهه الإنسان من إشكالية تتعلق بانتمائه إلى زمكانية متوحشة، فلايجد أمامه سوى خيار الرحيل، عله يعثر على إنسانيته المغيبة في مكان وزمان آخر حتى لو كان ذلك في نقطة قصية، فلا غرابة عندما يتكرر وجه أو نصف جسد يحملان نفس الملامح في عدد من القطع النحتية، على اعتبار أن المحنة بقسوتها وأوجاعها تجمع البشر، وأن الملامح الشخصية مهما اختلفت فلن تفرقهم، وبهذا التكرار يزج  حواس المتلقي في حالة يقظة بصرية وإيقاعية، خاصة وأنه يولي اهتماما كبيرا في تحديد الفضاء الذي يتعالق مع منحوتاته، واضعا في حساباته تحقيق حالة إرباك وخلخة في معايير العرض، وذلك عندما يخرج إلى فضاءات مفتوحة بعيدا عن الحيز الضيق المتاح في الصالات المغلقة.
فموضوعة المهاجرين من العالم الثالث إلى بلدان القارة الأوروبية، تمثل محورا مركزيا  في عدد من أعماله النحتية المفاهيمية، التي سبق أن عرضها في فضاء مفتوح داخل كنيسة قديمة في فرنسا، وأماكن أخرى من العالم، متوخيا من وراء ذلك أن يمنح هذا الإنسان المقهور، فرصة لا يمتلكها في الواقع، وذلك بإيصال ما يحتبس في داخله من مشاعر الخوف والضياع، مع كل خطوة يحاول فيها اجتياز الحدود بين البلدان بقدمين عاريتين بحثا عن الجنة المفقودة .

التغاير والاختلاف

من حيث الشكل وطريقة العرض ينزاح فن النحت عند منصور إلى منطقتي الفن المفاهيمي والتركيبي،على اعتبار أن الفنان وهو يجنح بخياله في هاتين المنطقتين من الاشتغال الفني، يضع مسألة التأكيد على الفكرة وإيصالها إلى المتلقي في أولوية مقاصده من العمل، قبل التفكير بالجانب الشكلي، وإذا ما حاولنا إيجاد دوافع هذا التغاير والاختلاف لدى منصور، سنصل إلى أن ذلك يعود إلى تجربته الذاتية، باعتباره قد خرج هاربا من العراق في منتصف ثمانينات القرن الماضي، فاجتاز الحدود العراقية السورية مشيا على الأقدام في رحلة محفوفة بالمخاطر، ولم يذق طعم الاستقرار إلاَّ بعد أن حطَّت به رحلتي الهرب واللجوء بعدد من البلدان، منها تركيا واليونان وألمانيا والمغرب وفرنسا.
كان من الطبيعي أن تنعكس تجربة الهروب والبحث عن ملاذ آمن إلى خزين من الصور والايحاءات الفنية، لكنه في الوقت نفسه كان مشغولا في تجاوز أطر الحداثة التي باتت تقليدية في معالجة ما يطرحه من خطاب إلى المتلقي، وكان لانفتاحه على فنون مختلفة ودراستها أكاديميا في بغداد وفرنسا مثل المسرح والسينما والرقص أثر كبير في أن تتعمق لديه فكرة البحث عن طرق وأساليب مختلفة عما هو سائد ومتدوال في تعبيرات الحداثة، وقد أفضى سعيه في البحث عن مواجهات مع المفاهيم والقوالب الفنية الرائجة إلى أن يجد ضالته في معطيات الفن المفاهيمي.

أولوية السؤال

عماد منصور نحات مهموم بالأفكار التي تتعلق بحياة الإنسان ومصيره والبيئة التي يعيش فيها، فكان سعيه كبيرا من أجل أن يلفت الانتباه إلى المسافة الفاصلة ما بين هذه الأفكار بكل حمولتها الثقيلة، وبين جمهور معاصر غارق طوال الوقت بمؤثرات الميديا والتقنيات الرقمية في وسائط التواصل الاجتماعي، إلى الحد الذي لم تعد تحضر أمامه الموضوعات المهمة المرتبطة بمصيره وحياته في هذا الكون، ويرى منصور بأن الفن إلى جانب تحقيق الدهشة الجمالية في كل تجربة، تقع على عاتقه مسؤولية إعادة ترتيب القضايا من حيث أسبقية أهميتها لحياة البشر، كما لو أنه يعيد طرح السؤال القديم الجديد: «ما جدوى الوصول إلى اللامألوف في العمل الفني إذا لم تكن هناك قضية يتم التوصل إليها عبر التأمل وإعادة قراءة ما كنا قد خبرناه في الحياة؟». والإجابة على مثل هذا التساؤل نجدها في المخاض الإبداعي الذي قدمه على مدى أكثر من ثلاثين عاما، حيث تتوفر في نتاجه الفني معايير قائمة على التخلي من هيمنة المنظومة الحداثية المنضبطة بقوانينها الصارمة، والعمل على تفكيك العلاقة التقليدية مع المتلقي، وإعادة صياغتها من جديد لتكون على درجة من التماس والتواصل، كما لو أن العمل النحتي في عملية التلقي المباشرة يسعى لخلق معطيات جديدة.

استدراج المتلقي

إن منصور مع ما يطرحه من قضايا تتقاطع مع عصره، واقترابه في الأسلوب من فنون ما بعد الحداثة، لا يعني انبهاره بما يراه من نتاج في الثقافة الغربية التي عايشها عن قرب سنين طويلة، بقدر ما يعكس مدى إدراكه بأهمية الوعي بالسبل والأدوات غير التقليدية التي ينبغي أن يخاطب بها جمهوره، خاصة عندما يكون متعالقا مع غرائبية وفجائعية ما يكشفه الواقع من أحداث تسحق الإنسان والبيئة معا. فتجربته تعكس مسار التحولات التي يشهدها النحت المفاهيمي، حيث يُنظر من خلاله إلى الفن على أنه نشاط فعال ومكثف للدلالة في أبسط تعبيراتها، مستمدا بذلك قوته النظرية من البنيوية، طالما يستخدم وظيفة الإشارة لدعم وجهة النظر الفنية، فعندما يسرد منصور موضوعة تلوث البيئة في عمل نحتي مفاهميمي، نجده يرغم المتلقي على أن يواجه خطورة الموضوع، فيستدرجه للدخول إلى غرفة الصقت على جدرانها العشرات من قناني الماء البلاستيكية الفارغة، وقد طليت الجدران والعلب باللون الأصفر الفاقع، وسيصادف أثناء تجواله في أرجاء الغرفة أجسادا بشرية عارية، لها ملامح متشابهة، ولكي تُحقِق الصدمة البصرية يقظة في وعي المتلقي، عَمد إلى أن تكون بطونهم معبأة بمواد مختلفة (ساعات يدوية، ماكنات حلاقة، سكاكين، مقادح غازية، وأشياء أخرى كثيرة) كما لو أن بطن الإنسان بمثابة عينة تكشف خطورة ما تتعرض له البيئة من تلوث، بالتالي تدميرها لصحة الإنسان. مثل هذا العمل يضفي على تجربة منصور قيمة احتجاجية نقدية، وإشارة واضحة بأن الأعمال المفاهيمية المعاصرة غالبًا ما تتبنى فكرة نقد عمل المؤسسات الحكومية والأنظمة السياسية، والتسلسلات الهرمية الاجتماعية والثقافية، وتصرعلى مشاركة الجمهور في تشكيل التجربة.
تشير السيرة الذاتية للنحات عماد منصور على أنه من مواليد بغداد عام 1964 حاصل على دبلوم إخراج سينمائي من معهد الفنون الجميلة، وشهادة البكالوريوس من كلية الفنون الجميلة في بغداد، غادر العراق عام 1986 متوجهاً إلى دمشق، فعمل في مجال المسرح خلال سنوات الثمانينيات. ثم انتقل في بداية التسعينيات إلى اليونان وعمل في مجال السيراميك وصناعة الطين، ليستقر بعد ذلك في العاصمة الفرنسية باريس، فنال شهادة الماجستير في الفنون السينمائية عام 1998 ودبلوم في الفنون المسرحية والسينوغرافيا في معهد جاك لوكوك العالمي عام 2002.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية