الغنوشي والنقد الذاتي: الفريضة الغائبة

عام 1989 نشر الكاتب المصري المعروف فهمي هويدي في مجلة ‘المجلة’ اللندنية مقالا تطرق فيه بموضوعية لافتة إلى أخطاء الحركات الإسلامية ونقائصها في مجالات فهم المقاصد، والأخذ بالأسباب وصحة التعامل مع الشعوب والحكام. وكانت طرافة المقال أن الأستاذ هويدي لم يأت فيه بشيء من عنده، وإنما اكتفى بالاقتباس الأمين من ورقة كان قد قدمها زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في إحدى الندوات. وختم الأستاذ هويدي قائلا ما معناه: إن هذا قول شاف يغني عن أي إضافة.
وعندما أتى الأستاذ الغنوشي عامئذ لأمريكا وطاف بجامعاتها، دارت بيننا حوارات معمقة، فكان أن ذكرت له هذا المقال الذي تبنى فيه الأستاذ هويدي كل مقولاته النقدية، فاهتم لذلك ولكنه قال إنه لا علم له بالمقال. فلم أعلق، ولكني استغربت كيف أن أيا من أتباعه الكثر في أمريكا وأوروبا لم يلفت انتباهه لمقال يهمه شخصيا. واستغربت أكثر كيف أن الأباعد مثلي يهتمون بقراءة ما كان آنذاك، ولا يزال حتى اليوم، نصا نادرا في النقد الذاتي العلني بقلم الغنوشي، بينما لا يهتم بذلك أبناء حركة النهضة أنفسهم!
الآن أرى من الضرورة القصوى إعادة التنبيه لهذا المقال. فلعل القوم يرجعون إليه أو إلى الورقة الأصلية. ذلك أنه إذا كان النقد الذاتي مطلوبا قبل ربع قرن، عندما كانت حركات ‘الإسلام السياسي’ مضطهدة مشردة، فإنه قد صار الآن أوكد وأوجب بعد أن أصبحت هذه الحركات تمارس السلطة في تونس ومصر، أي بعد أن صارت أخطاؤها ونقائصها لا تضرها لوحدها، بل تضر شعوبها معها. ولهذا فقد لفت نظري المقال المطول الذي نشره د. محمد نجيب القروي أخيرا بعنوان: ‘حركة النهضة في مفترق الطرق’، إذ رغم أن د. القروي مقرب من رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي، ورغم تزامن نشر المقال مع رواج أخبار (سرعان ما كذّبت) عن قرب خروج الجبالي من النهضة وإنشائه حزبا جديدا، فإنه يجوز تصنيف هذا المقال في خانة النقد الذاتي (ولو من موقع الانشقاق أو المعارضة).
يتطرق مقال د. القروي إلى ‘انحراف جزء’ من قيادة النهضة بحزبها ‘من مشروع حضاري مجتمعي إلى مشروع سلطة’، ثم يطرح هذه الأسئلة المركزية: ‘هل سيتمكن الشيخ راشد الغنوشي والقيادة الحالية من إدراك حجم الضرر الذي لحق بالبلاد أولا وعلاقات المواطنين ببعضهم، ثم بالحركة وبـ’المشروع الإسلامي’ ثانيا؟ ثم إذا أدركوا ذلك، هل سيعترفون بـ(..) دورهم في هذا التدهور؟ وأخيرا إذا اعترفوا به، فهل يتجاوزون ذواتهم بإحداث رجة إيجابية ووضع ديناميكية تغيير على رأس الحركة لدفعها في مسار جديد يصالحها مع العديد من أنصارها ومع شركائها في الوطن؟’ إلا أن د. القروي، الذي يعرف قيادة النهضة حق المعرفة، يختم قائلا إن حدوث مراجعات النقد الذاتي الضروري هذه ‘مستبعد’ô
ورغم أن نقد الذات فريضة في الدين (‘حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا’)، فالحق أنه قيمة غريبة على الثقافة السياسية العربية. إذ ان كتاب علال الفاسي، ‘النقد الذاتي’، الذي يعدّ أهم نص مرجعي في تاريخ الفكر السياسي المغربي، لا يزال يتيم دهره منذ أن أصدره زعيم حزب الاستقلال عام 1952، وعلـى هذا فإن رائد ‘السلفية الجديدة’ في المغرب المرحوم علال الفاسي لا يزال، على ما يبدو، أكثر معاصرة لنا، أي أنه أجدر بالديانة بقدر ما أنه أقرب للحداثة، من جميع قادة حركات ‘الإسلام السياسي’!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد محمدي.................. السويد:

    بداية كل الشكر للاستاذ مالك التريكي واسهاماته النوعية في الكتابة في لحظة جفت اقلام كثيرة وتعرضت اخرى للبيع بدراهم معدودات مع الاسف الشديد .
    ما اثا رني في المقال هذه القصة مع الاستاذ راشد الغنوشي الذي نسي مقالته النقدية بل ان اي من اتباعه لا علم لهم بها رغم ان النهضة كانت تتميز بخطاب متنور الى حد ما مقارنة
    ببقاقي الحركات الاسلامية.
    بدوري حصلت لي قصة مماثلة مع الاستاذ الغنوشي في العاصمة السويدية ستوكهولم عام 2009 في الموتمر السنوي للرابطة الاسلامية في السويد حيف كان ضيفا دائما كل سنة تقريبا .
    كان على المنصة بجوار الشيخ الغنوشي كل من الاستاذ كمال الهلباوي واحد شيوخ الكويت وكان محور البحث الحركات الاسلامية والغرب وقد استفاض الغنوشي في الحديث عن الاستبداد كثيرا بشكل حااد صمتت له القاعة بشكل مثير ثم تبعه الدكتور الهلباوي صابا غضبه على حكام العرب لكن بلهجة مصرية بشوشة خففت من حدة كلام الغنوشي بعد كلمات الضيوف طرح المجال للاسئلة ولم يطلب احد الكلام هنا رفعت يدي لاتساءل مع الضيوف عن سبب اخفاق الحركات الاسلامية وقلت بالحرف الواحد أليست القيادات التي هربت الى الغرب تاركة القواعد للانظمة القمعية احد أسباب الفشل فما كان من الشيخ الغنوشي الا ان رد علي بشكل حاد وقاسي بل رفض لاحد المتدخلين بالكلام وقال اجلس وتعلم الادب وقد استغرب الكثيرون كيف للشيخ الذي استفاض في الحديث عن الاستبداد والقمع ان يقمعنا بهذه الطريقة القاسية أ ما الشيخ كمال فقد قال لنا ونحن نخفف من لهجته بعد عناق حار قال لنا اننا لا نريد ان نناقش هموم الحركة الاسلامية في هذه التجمعات وانما اتينا لنفرح ونتواصل مع بعض وقد تمنيت انذاك ان يتغير اسلوب القادة الاسلاميين اكثر الى الليونة وهنا لا اخفي سعادتي من التحول الذي طرأ على الاستاذ كمال الهلباوي حين انتبه الى خطورة المذهبية والطائفية التي تهدد الامة الاسلامية لذا انبرةى بكل ما أوتي من قوة حفظه الله للدفاع عن وحدة الامة الاسلامية روح المقاومة فيها ز

  2. يقول الهادي المزوغي:

    مقالاتك بقدر ما تبدع في صياغتها تستفز القارئ تنعش نفسه و تدفعه إلى القول ..فأقول ..الثقافة السائدة منذ قرون في الخطاب العربي و ماتزال هي ثقافة التمجيد والمدح والثناء والفخر و بالأخص في الحقل السياسي كانت القومية ثم صارت الإسلامية . وليس من الغريب في شيء أن يتجاهل و لا يعنى رجال السياسية العرب في هذا العصر بالأخص بما يقال عنهم من نقد و تجريح ..بل لا يعترفون إلا بالثناء ..و بالفعل كان من المفروض أن تتولى حركة النهضة تقييم أدائها لتقويم أفعالها ومراجعة نفسها و محاسبة ذاتها ..لعل شغلها الشاغل هو التمكن و التمكين لامتلاك أعنة السلطان و المال ..و أستحضر صدى قراءاتي لابن المقفع في الأدب الكبير و الصغير والحرص على محاسبة الذات بأسلوب االتوكيد بالنون المشددة ..و أعتقد أن تبني الرؤية الدينية في المنهج السياسي تنأى بالسيد الغنوشي و أتباعه في الحركة على المراجعة لأنهم يعتقدون أن تبنيهم للإسلام السياسي ومرجعياته من القرآن و السنة و الفقه تجمعل الجماعة في قناعة بأنهم على حق و غيرههم على ضلالة بل يتهمون خصومهم بالمروق على التدين .ومن العبارات التي بدأيشيع استخدامها في السياسة هي المكابرة ..وتكون سدا لكل مراجعة و محاسبة و لا سبيل بغير نقد الذات لتصحيح المسار شريطة أن لا يكون جلذا للذات كما كان يقول صادق جلال العظم في كتابه يعد هزيمة 67 ” النقد الذاتي بعد الهزيمة “

إشترك في قائمتنا البريدية