الغرب وسباق التسلح المغربي – الجزائري

في العالم العربي، تجري عادة التعاطي مع عدد من القضايا الدولية ذات الطابع الاستراتيجي، خاصة الشائكة منها من منظور غربي، بحكم أننا ما زلنا نعيش مركزية الثقافة الغربية منذ عصر النهضة، وما زلنا حبيسي إعجاب الجامعات ومراكز التفكير الاستراتيجي في الغرب.. ولهذا، نتبنى، في بعض الأحيان من باب المباهاة، أو من دون وعي.. خطاب الآخر ورؤية الآخر الذي هو الغرب. ونعيش في منطقتنا المغاربية، شمال افريقيا، هذه الظاهرة الثقافية منذ عقود، حيث نرى أحيانا تطور العلاقات بين دول المغرب العربي من منظور غربي، وفي غالبيته فرنسي لأسباب تاريخية مرتبطة بالاستعمار.
ولعل من الأمثلة الدالة في هذا الشأن هو، كيف نرى ـ نحن المغاربيين ـ وكيف يرى الآخر الذي هو الغرب موضوعا شائكا مثل سباق التسلح بين المغرب والجزائر. نعم، أصبح من المسلمات أن العلاقات بين المغرب والجزائر متوترة، منذ استقلال البلدين عن فرنسا وإسبانيا، ووقعت بين البلدين حرب الرمال عام 1963.
مرّت ستة عقود على هذه الحرب، فترة زمنية يبدو أنها ليست كافية للنسيان، فهي ما زالت تلقي تأثيراتها السلبية على العلاقات الثنائية. من باب المقارنة، نجد فرنسا وألمانيا وقد تجاوزتا مآسي الحرب العالمية الثانية بعد مرور سنوات قليلة فقط، ولا ننسى، هي الحرب التي خلفت أعلى نسبة من القتلى في تاريخ البشرية. نجحت برلين وباريس في بناء أهم تكتل وهو الاتحاد الأوروبي. في المقابل، نجد العكس بين المغرب والجزائر، يتحدثان اللغة نفسها، ويؤمنان بالدين نفسه، ويرفعان شعارات الوحدة، بينما نجد في أرض الواقع أن كل دولة منهما ترى في الأخرى العدو الرئيسي والخطر المحدق بأمنها القومي. ويترجم المغرب والجزائر هذا العداء على مستويات متعددة، في انتمائهما لتحالفات دولية متصارعة، حدث خلال الحرب الباردة، ويحدث في وقتنا الراهن، حيث يتبلور عالم جديد. يراهن المغرب على الغرب ويطور علاقات عسكرية مع إسرائيل، وتعزز الجزائر تحالفها الوثيق مع روسيا والصين.. وترتب عن هذا الصراع، استمرار الحرب الباردة بين البلدين، علاقات دبلوماسية شبه مقطوعة، تبادل اقتصادي في حده الأدنى، وحدود برية وجوية وبحرية مغلقة، وحرب إعلامية وثقافية مشتعلة بين الشعبين ولا تهدأ. إنه نموذج كوريا الشمالية والجنوبية في العالم العربي والقارة الافريقية.

إسبانيا وفرنسا ترغبان في دول ضعيفة عسكريا في حدودهما الجنوبية، خوفا مما قد يحمله المستقبل، وهذا الخوف يعني وعي الأنظمة والشعوب بضرورة الوحدة والمصير المشترك

ويتجلى الصراع الحقيقي في سباق التسلح، حيث يخصص البلدان نسبة مهمة من ميزانيتيهما السنوية لشراء السلاح على حساب التنمية، هي الأعلى في القارة الافريقية الى جانب مصر. وتركز وسائل الإعلام ومراكز التفكير الاستراتيجي الغربية، وعلى رأسها الفرنسية والإسبانية على سباق التسلح هذا، وتتكهن بوقوع حرب بين الطرفين. وتأتي وسائل الإعلام العربية وبالخصوص الجزائرية والمغربية وتنقل أو بالأحرى تنسخ الخطاب عن «لوموند» أو «الباييس» أو «فرانس 24». وفي عملية النقل والنسخ هذه، تغيب الرؤية الحقيقية التي ترى بها الدولة العميقة في مدريد وباريس وروما ولشبونة، وهي العواصم القريبة للمغرب العربي. نعم، يوجد سباق تسلح مكثف بين المغرب والجزائر، وابتداء من سنة 2005 إلى 2024، يتوفر البلدان على ترسانة أسلحة مهمة من مختلف الأسلحة، الطائرات المقاتلة، السفن الحربية، الصواريخ الهجومية الفتاكة والمسيرات. في غضون ذلك، ساد تفكير وسط النخبة في المغرب العربي بأن الغرب، وفق إعلام الغرب، لن يسمح بحرب بين المغرب والجزائر أي على حدوده الجنوبية، وهي رؤية ساذجة، لاسيما بعدما اندلعت الحرب في قلب أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، ويوجد تخوف من انتشارها نحو باقي أوروبا. لا نغامر بالقول، بل نؤكد أن هذا الغرب، في حالة إسبانيا وفرنسا، أصبح يتمنى وقوع هذه الحرب بين البلدين. والسؤال هنا لماذا هذا التمني؟ يمكن تفسير وقوع الحرب بثلاثة أسباب ذات طابع استراتيجي، تبلورت حاليا وستتعزز مستقبلا وهي:
في المقام الأول، في الغرب، خاصة إسبانيا وفرنسا يتم طرح التساؤل التالي: ماذا لو اكتسبت القيادة السياسية في المغرب والجزائر وعيا جديدا يتجلى في ضرورة تجاوز الخلافات العميقة، والعمل من أجل الوحدة بين البلدين خلال السنوات المقبلة، أو خلال الجيل المقبل؟ فرضية غير مستبعدة، بحكم أن الرأي العام في البلدين يطالب بالتكامل، رغم المشاكل الحالية. ويتشكل وعي في الجنوب بضرورة معالجة مخلفات الاستعمار بنوع من النضج والحكمة، مهمة عسيرة تتطلب وقتا، وتتطلب قيادات جديدة واعية بالمستقبل. ولا ننسى أن نسبة مهمة من المشاكل الثنائية بين المغرب والجزائر، وكذلك في حالات دول أخرى من الجنوب مثل موريتانيا والسنغال، وبين السودان ومصر هي من مخلفات الاستعمار.
في المقام الثاني، يعمل البلدان على تنويع مصادر التسلح من دول لا تعتبر مصادر كلاسيكية للسلاح، لا يتعلق الأمر بروسيا والولايات المتحدة، بل من دول مثل الهند والصين والبرازيل وتركيا وإيران. وهذه الدول لا تفرض شروطا معينة على استعمال السلاح، عكس ما تفرضه واشنطن في حالة المغرب، وإن كان بدرجة أقل في حالة موسكو مع الجزائر.
في المقام الثالث، وهو الجوهري وأصل قلق العواصم الغربية المطلة على البحر المتوسط. منذ أكثر من خمسة قرون ودول شمال البحر الأبيض المتوسط تتمتع بتفوق عسكري على جنوبه، ما جعل دول أوروبا تستعمر دول المغرب العربي. لقد تقلص هذا التفوق خلال العقدين الأخيرين، وهو سائر نحو مزيد من التقلص. ولم تعد دول الشمال تمتلك الردع العسكري الكافي، ولا نعني بهذا، فوز الجنوب في حروب المستقبل على دول الشمال، وإنما فقط لم يعد الشمال يضمن الفوز في حروب المستقبل. وفقد الردع.
نعم، يفهم من سباق التسلح بين البلدين بأن كل واحد منهما يريد زعامة منطقة المغرب العربي، لكن هناك أسبابا أخرى للتسلح. خلال أزمة جزيرة ثورة صيف 2002، فرضت البحرية الإسبانية حصارا غير معلن على المغرب، لم يكن المغرب يمتلك سوى فرقاطة واحدة وقديمة، ولاحقا قام بتعزيز سلاح البحرية بشراء فرقاطات، أصبح إقدام إسبانيا على فرض أي حصار بحري على المغرب مستحيلا في الوقت الراهن ومستقبلا. بدورها، تتخوف الجزائر من تعرضها لاعتداء عسكري غربي، فالغرب قلق من تنسيقها السياسي والعسكري مع روسيا والصين، فقد تحولت إلى كالينينغراد (الجيب الروسي في بحر البلطيق) جنوب المتوسط. ولهذا تتسلح الجزائر لردع ومواجهة أي مغامرة عسكرية غربية ضدها. ومنذ الربيع العربي، اعتقدت الجزائر أنها ستكون مستهدفة بتدخل غربي كما حدث في ليبيا سنة 2011. وهكذا، من زاوية جيوسياسية من الجنوب، وبعيدا عن قراءات مراكز التفكير الاستراتيجي في الشمال، والمواقف السياسية من أنظمة البلدين، لقد أفرز سباق التسلح المغربي – الجزائري لأول مرة ومنذ ثلاثة قرون تقلص الشرخ العسكري بين ضفتي غرب البحر الأبيض المتوسط، بعدما كان دائما لصالح الضفة الشمالية. هنا يتجلى قلق الدولة العميقة في الغرب، خاصة في إسبانيا وفرنسا من سباق التسلح بين المغرب والجزائر، وترغبان في دول ضعيفة عسكريا في حدودهما الجنوبية، خوفا مما قد يحمله المستقبل، وهذا الخوف يعني وعي الأنظمة والشعوب بضرورة الوحدة والمصير المشترك.
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية