الصحافة والثورة المضادة

الذين قرأوا للصحافي المصري محمد حسنين هيكل كتابه ‘بين الصحافة والسياسة’ يدركون جيدا طبيعة العلاقة التي تربط الصحافة بالسياسة، أو لنقل علاقة الصحافي برجال السياسة، وهي علاقة معقدة خصوصا عندما يكون الصحافي مرتهنا برجل السياسة ومعتمدا عليه في تجميع الأخبار وفهم الأحداث وتحليل خلفياتها اعتمادا على المعطيات التي يتلقاها منه بشكل مباشر، وبصفة خاصة في مراحل الانغلاق السياسي كما عاشتها مصر زمن كتابة المرجع أعلاه، أو كما تعيشها حاليا في زمن الانقلاب على المسار الديموقراطي وعودة القبضة الحديدية في تدبير شؤون البلاد.
فجأة وبدون مقدمات انطلقت ألسنة الصحافيين بالعديد من القنوات المصرية لمهاجمة الرئيس مرسي وجماعته واتهامهم بالضلوع في مخططات إرهابية وتبنيهم لخيار العنف، والتماهي بشكل مباشر مع أطروحة الانقلابيين الذين بنوا ‘مشروعيتهم السياسية’ على ورقة مكافحة الإرهاب..
من الذي يقع؟
نحن أمام حملة منظمة تحركها مراكز نفوذ قوية ظلت تستغل مواقعها للتحكم في قنوات الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع وبث كل ما يمكن أن يساهم في تضليل الوعي الثقافي والسياسي للمصريين، إلى جانب استفادتها من مصالح مادية ضخمة بدون حسيب ولا رقيب، يسهر عليها رجال أعمال راكموا ثروات خيالية في زمن الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك..ولم يعد يخفى على أحد أن هذه القنوات الفضائية والصحف المكتوبة والمواقع الإليكترونية تشتغل وفق أجندة أمنية واضحة بعيدا عن قواعد المهنية والاحترافية المطلوبة في العمل الإعلامي، بل تحولت إلى وسيلة من وسائل الدعاية والحشد والتعبئة..
طبعا ليس الغرض من وجود صحافة حرة في أي مجتمع هو الاكتفاء بنقل الخبر للمواطن وتزويده بالمعلومات المتنوعة من عالم السياسة والاقتصاد والثقافة والفن والرياضة..، بل إن وجود صحافة حرة تعنى بانتقاء الأخبار الضرورية، بالإضافة إلى تحليلات المتخصصين وآرائهم، من شأنه أن يسهم في تشكيل رأي عام واع قادر على اتخاذ القرارات الصحيحة في اللحظات المطلوبة، ومن شأنه أيضا التأثير في صانع القرار نفسه، وإحراجه أمام الرأي العام بنقد سياساته وإبراز تناقضاته وعيوبه وفضح تجاوزاته، لكن بطريقة مهنية تحترم قواعد المهنة وتقدس أخلاقياتها وتحترم ذكاء القارئ قبل كل شيء..
في مصر لم تنجح الثورة في دفع وسائل الإعلام إلى الإسهام في تطوير النقاش العمومي في العديد من القضايا السياسية والفكرية والأخلاقية، ولم تنجح في ضخ جرعات ديموقراطية جديدة في الحياة السياسية…
طبعا من السهل التحقق من التبعية العمياء لمثل هذه المنابر الإعلامية لبعض مراكز النفوذ السياسية والأمنية والاقتصادية، رغم حجم التعقيدات التي تلف مجال الصناعة الإعلامية اليوم والتي تحيط بها إكراهات عديدة تجعل من الصعب الفصل بين المال والإعلام والسياسة..
أبواق الدعاية للثورة المضادة وتمجيد رموز الانقلاب بدأت تفقد مصداقيتها نظرا لحجم الكذب والبهتان الذي تمارسه بشكل مكشوف، ذلك أن عنصر الزمن والمتابعة الدقيقة كفيلة بفرز المنابر الإعلامية الجادة التي تستطيع أن تفرض مصداقيتها بالتثبت من صحة المعلومات وبعدم التحيز لهذا الطرف أو ذاك، والتأكد من استقلاليتها عن مصادر التوجيه المالي والسياسي التي تنزع نحو التحكم في وسائل الإعلام..
طبعا، ليس من الضروري أن تلتزم الصحافة الحياد في جميع القضايا، بل من واجبها أن تكون متحيزة لأطروحة سياسية معينة، لكن ليس على حساب القواعد المهنية والأخلاقية المعتمدة في تحليل الأخبار..
خطورة الإعلام الانقلابي أنه بصدد بناء قيم جديدة تتناقض تماما مع القيم المطلوبة في المراحل الانتقالية، فعوض العمل على نشر قيم الديموقراطية وترسيخ ثقافة احترام حقوق الإنسان والإيمان بالتعددية والقبول بالآخر ونبذ روح الإقصاء والتعصب للرأي والتعريف بالظواهر السياسية والاجتماعية الموجودة وتحليلها، جنحت هذه القنوات إلى خطاب التحريض على القتل والتخوين وتعميق الخلافات السياسية ونشر ثقافة استئصالية لا تساهم إلا في المزيد من تعقيد الحالة السياسية في مصر…
الطريق إلى الديموقراطية ليس طريقا سهلا، ومهمة الصحافة في تجارب التحول الديموقراطي مهمة أساسية، ذلك لأنها معنية ، في حدود وظيفتها الإعلامية، بضرورة إشاعة الفكر النقدي الحر وتحطيم النزعات الوثوقية والاستبدادية والكشف عن مظاهر الفساد والرشوة والتلاعب بالمال العام وتحليل أسبابه واقتراح البدائل الممكنة للتجاوز…
ما ينبغي أن يقتنع به القائمون وراء حملات ‘البروباغندا الإعلامية’ ضد تيارات سياسية بعينها، هو أن استمرارها في حملات الدعاية والتضليل هو دليل ضعف على عدم مقارعتها حجج المطالبين بعودة الشرعية وعجزها عن فسح المجال للرأي الآخر داخل مؤسساتها الإعلامية، واقتصارها على حملات التشويه والدعاية، وهو ما يدفع المواطن العادي إلى النفور من خطاب إعلامي ممجوج لا يقول الحقيقة ويذهب للبحث عتها في قنوات إعلامية أخرى..
طبعا، من ‘إنجازات’ الانقلابيين أنهم ‘نجحوا’ في منع جميع القنوات المخالفة للرأي الانقلابي من العمل، وهذا القرار وحده كاف لمعرفة حجم التراجع الذي ستشهده مصر في حجم الحرية والقبول بالرأي الآخر، بل إن هناك محاولات لمنع قنوات أجنبية من تغطية ما تعرفه مصر، وصلت إلى درجة اعتقال صحافيين ومنعهم من مزاولة مهمتهم الإعلامية، والتشويش على الفضائيات التي تحاول أن تعالج الشأن المصري من منظور مهني ..
إن تعدد المنابر الإعلامية وتزايدها أصبح ضرورة حيوية في المجتمعات الحديثة، خصوصا مع الثورة التكنولوجية الهائلة وتزايد أعداد المنخرطين في شبكات التواصل الاجتماعي، ولذلك من المستحيل تنميط ثقافة المجتمعات والاعتقاد بسهولة تعميم الرأي الواحد.
الإعلام الناجح هو الذي يستطيع بذكاء دفع المشاهد إلى بلورة اختيارات سياسية معينة، عن طريق الإقناع وبناء الحجة وليس عن طريق الحشد والتعبئة والدعاية.
من أهم تحديات المرحلة الحالية في مصر تدبير شؤون التعددية الإعلامية وترسيخ ثقافة الرأي والرأي الآخر..
والأخطر من كل ذلك، هو تعميق روح العداوة والبغضاء ونشر ثقافة الحقد والكراهية ضد تيارات سياسية معينة وتبرير لغة القتل ضدها، وتخوين كل دعوة للمصالحة والتسامح، والتعامل مع جزء من الشعب بلغة استئصالية مقيتة..

‘ كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية