السياسة ضرورة سينمائية… فيلم «تشريح سقوط» مثالاً

حجم الخط
0

لا تكون السينما إلا سياسية، حتى في أكثر حالاتها ترفيهاً، هي بذلك ولذلك سياسية، وفي حالاتها الفنية هي كذلك سياسية، لكلا الحالتين موقف سياسي بأبعاد اجتماعية وثقافية. التفاهة موقف سياسي، كذلك الأخلاقيات موقف سياسي، وكله حاضر في السينما، كنوع فني، مهما كان الفيلم، لكن السياسة بمعناها المباشر حاضرة كذلك، كما أن للفنان صاحب الموقف السياسي المباشر، مصداقية العمل الفني في جوانب هذا العمل كافة. مثالان تطرحهما هذه المقالة هنا: حفل جوائز لوميير في باريس، وفيلم «تشريح سقوط» وكلا المثالين مترابطان.
أقيم أخيراً حفل توزيع جوائز لوميير للسينما الفرنسية لهذه السنة (22 يناير/كانون الثاني) التي يصوّت لأفلامها مراسلو الصحافة الأجنبية ونقادها، من بينها كان لكاتب هذه الأسطر صوته لصالح «تشريح سقوط» كأفضل فيلم، ونالها، و»بنات ألفة» كأفضل وثائقي، ونالها. الأول للفرنسية جوستين ترييه، والثاني للتونسية كوثر بن هنية.
نستهل الحديث، السياسي، مع كوثر بن هنية التي ألقت خطاباً مؤثراً عند نيلها جائزتها، يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، قائلة إن أفلامها المقبلة ستمنح الصوت لمن لا صوت لهم، ولمن سماهم فرانز فانون «معذبو الأرض». من بعدها نالت جوستين ترييه وشريكها وكاتب السيناريو معها أرتور أراري، جائزة أفضل سيناريو، ليلقي الأخير كلمة تعرضت لتشويش وصياح من قبل إسرائيليين -غالباً- مجمّعين في زاوية آخر الصالة، قال فيها بعد ثنائه على موقف كوثر بن هنية، وبما يمكن اعتباره موقفاً متقدماً ليقال في فرنسا، إنه يشعر بالصدمة والقرف العميقين مما تفعله الحكومة الإسرائيلية في غزة، ومثل كوثر نال تصفيقاً علا صوته على صراخ المخرّبين. من بعده نال البلجيكي أرييه ورثالتر جائزة أفضل ممثل عن فيلم «محاكمة غولدمان» فبعدما حاول التوفيق بين الموقفين، بالقول إنهما غير منفصلين، قال إن وقف إطلاق النار هو المهم الآن، وإن أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول استخدمتها حكومتكم -مخاطباً المخرّبين- لحرية التدمير لا التعمير.

«تشريح سقوط» الذي نال أهم جائزة سينمائية في العالم وهي، السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي العام الماضي، والذي ألحقه بجوائز عديدة، تحديداً كأفضل فيلم وأفضل سيناريو، نال في اليومين التاليين من حفل لوميير، ترشيحات عديدة لكل من حفلي السيزار الفرنسي، والأوسكار الأمريكي، وكذلك من بعد جوائز في الغولدن غلوب، ودائماً في أهم فئات الجوائز والترشيحات: أفضل فيلم. ولهذا الفيلم قصة سياسية هنا.
من بعد نيل الفيلم السعفة الذهبية، ألقت مخرجته خطاباً ناصرت فيه المظاهرات التي كانت تشهدها فرنسا في حينه، رفضاً لإصلاحات قانون التقاعد التي سعت لإقرارها، وفعلت، السياسة النيوليبرالية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحكوماته، وانتقدت ترييه سياسات الدولة الثقافية، فعلّقت عليها وزيرة الثقافة مباشرة، ثم لم تختر الدولة الفيلمَ لتمثيلها في جوائز الأوسكار ضمن فئة أفضل فيلم دولي، ما سيتسبب بمهزلة للدولة مع إعلان الترشيحات. وكانت علّقت المخرجة على تجنب اختيار الفيلم ساخرةً بأن من يتخذ القرار أربعة جالسون في مكتب.
في النهاية، ولأن الفيلم ناطق كذلك بالإنكليزية، إضافة إلى الفرنسية، أمكن ترشيحه لأهم فئة في الأوسكار وهي أفضل فيلم، ما تسبّب بمهزلة لسياسة الإلغاء الحكومية الفرنسية تجاهه. وإن لم تكن حظوظه واسعة كونه ينافس أفلاماً أمريكية على أرض أمريكية ولجمهور ومصوّتين من هناك ليست أفلام السعفة الذهبية والمهرجانات الأوروبية من أفضلياته، لكنه وصل إلى القائمة القصيرة لترشيحات هي أهم مما كان يمكن له أن يمثل الدولة الفرنسية فيها.
يحكي «تشريح سقوط» عن امرأة تُتهم بقتل زوجها، إذ لا يُعرف إن كان قد سقط من نافذة البيت أو انتحر، أو أنها أوقعته فقتلته، ليدور الفيلم حول معنى الحقيقة والحقائق، فيقول المحامي لها إن ما يعني المحكمة لا ما حصل، بل ما وجد من أدلة على حصوله تمكّن القضاة من إطلاق الحكم.
الفيلم، المستحق لكل هذه الترشيحات والجوائز، مثال ساطع على سياسية العمل الفني، وعلى وعي صاحب العمل للحالة السياسية التي أنتج خلالها العمل الفني – أو رغما عنها- وعلى ضرورة الوعي السياسي والموقف الأخلاقي وتجاورهما، محلياً ودولياً، من الوقوف ضد قانون حول التقاعد إلى الوقوف ضد إبادة جماعية لشعب في بلاد بعيدة.

كاتب فلسطيني سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية