الربيع العربي في قلب التحولات الدولية

تعرضت صيرورة التحول الديموقراطي لضربة قوية بعد الارتدادات التي سجلت في بلدان الربيع العربي..فبعد الانقلاب العسكري الجاري في مصر، ومع جو التوتر الذي تمر منه تونس واستدامة الأزمة السياسية في البلد، وبفعل مناخ عدم الاستقرار القائم في ليبيا، بدأ الحديث عن خريف عربي أو نهاية القصة، أو فشل مشروع التحول الديموقراطي في المنطقة العربية!
أنا من الذين يؤمنون بأن ‘الربيع العربي لم يقل كلمته النهائية بعد، والشعوب التي انتفضت ضد الفساد والاستبداد لن تسمح بالعودة إلى مربع الصفر، وسرعان ما ستسترجع المبادرة حينما ستكتشف بأنها خدعت من طرف جزء من نخبها السياسية وسرق منها حلم التغيير الذي تؤمن به..
القيم السياسية الجديدة التي أصبحت راسخة في وعي الجماهير لا يمكن طمسها بالمحاولات الجارية لعسكرة الوعي الجمعي وترسيخ مقولة ‘ليس في الإمكان أبدع مما كان’..
والعارفون بتاريخ الثورات يفسرون التحولات التراجعية الجارية في بلدان ما يطلق عليه بالربيع العربي بأنها ارتدادات وانكسارات طبيعية في مسلسل التغييرات العميقة التي ستقبل عليها المنطقة..معنى ذلك، أننا نتابع حلقة من حلقات المسلسل ولسنا بصدد النهاية.
نعم، هناك معطيات ذاتية دفعت في اتجاه اتساع الهوة بين الفرقاء السياسيين وعجزهم عن بلورة خريطة طريق متوافق عليها لبناء مرحلة انتقالية تمكن الجميع من العبور نحو الديموقراطية بشكل سلس وهادئ، لكن من المؤكد أن الاختراقات الإقليمية والدولية كان لها دور أساسي في ‘نجاح’ الثورة المضادة واستعادة الدولة العميقة لزمام المبادرة.
العوامل الإقليمية والضوء الأخضر الدولي كان لهما الدور الحاسم في إجهاض مسار التحول الديموقراطي في بلدان الربيع العربي. لكن، إلى أي حد ستستمر المعطيات السياسية في المنطقة في حالة جمود وثبات؟
التحولات السريعة التي تشهدها المنطقة في الآونة الأخيرة تبشر بتشكل خريطة إقليمية جديدة وإعادة بناء محاور جديدة، ربما ستنعكس إيجابا على عودة دينامية الربيع العربي إلى توهجها السابق.
في العلاقات بين الدول ليست هناك عداوات دائمة ولا صداقات دائمة ولكن هناك مصالح دائمة..
‘التقارب’ الأمريكي الإيراني من شأنه أن يبعثر العديد من الأوراق التي استقرت على إيقاع الصراع التاريخي بين ‘إيران الثورة’ و’ الشيطان الأكبر’ بتعبير الساسة الإيرانيين، ذلك أن توقيع مكالمة هاتفية بين الرئيس أوباما والرئيس روحاني بعد حوالي أربعة عقود من القطيعة بين البلدين، يستبطن الكثير من الدلالات..
إن الاستعداد للتفاوض المباشر بين الغريمين اللدودين جاء في أعقاب نجاح روسيا في تجنيب حليفتها سورية مخاطر ضربة عسكرية مؤكدة، كانت الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لتنفيذها إلى جانب حلفائها التقليديين..
نجاح روسيا في استمالة أعضاء مجلس الأمن الدولي لفائدة مقترحها القاضي بنزع الأسلحة الكيماوية التي يتوفر عليها النظام السوري، مقابل التراجع عن الضربة العسكرية، يعني بأننا أمام ملامح نظام دولي جديد يذكرنا بعودة الثنائية القطبية وتراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن موقع الزعامة بدون منافس الذي تربعت عليه مدة عقدين من الزمان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
التقارب الأمريكي الإيراني لن يكون سوى على حساب المصالح الحيوية لدول الخليج في المنطقة، وخاصة منها الدول الداعمة للانقلاب على الديموقراطية في جمهورية مصر العربية والتي أبدت حماسا غريبا لإسقاط رئيس منتخب من طرف الشعب..
المملكة العربية السعودية تحديدا، مدعوة لمراجعة حساباتها إذا أرادت أن تظل في موقع الزعامة للإسلام السني في العالم..لا يمكن للمملكة أن تظل في موقع الزعامة وهي تكن العداء لأكبر فصيل إسلامي سني في المنطقة.
لابد من إعادة ترتيب الأوراق من جديد وتدشين مسلسل من المصالحة مع الذات أولا ثم مع المحيط ثانيا..
السعودية تنظر بعين الريبة إلى الوعي الشعبي الذي انطلق في المنطقة العربية حاملا مجموعة من القيم السياسية الجديدة التي يدرك من خلالها المواطن العربي أنه كامل المواطنة له الحق في اختيار الحاكم ومحاسبته، وله نصيبه من مالية الدولة..
الأسرة الحاكمة تخشى من انتقال هذه العدوى إلى الداخل السعودي، وهو ما يمثل بالنسبة لها تهديدا حقيقيا ينبغي استئصاله حتى تحمي نفسها من عدوى الثورة، كما أن هناك سببا آخر لتفسير الموقف السعودي من الثورات العربية، وهو حساسيته المفرطة من تبلور نموذج سياسي ينطلق من خلفية دينية إسلامية ، لكنه متصالح مع مفاهيم التعددية السياسية والحق في تأسيس الأحزاب والتنافس على السلطة بواسطة الانتخابات وتكريس المساواة بين المرأة والرجل في الحياة العامة…
كل هذه المعطيات لا تسمح للأنظمة الأبوية أن تتفاعل بشكل إيجابي مع التحولات السياسية التي جرت في العديد من البلدان العربية، لكن المتغيرات الجديدة التي حلت بالمنطقة ستدفعها للبحث عن مصالحها بالدرجة الأولى.
ليس من مصلحة العرب عموما ودول الخليج بالتحديد أن تراهن على التطبيع مع إسرائيل لمواجهة ‘التهديد الاستراتيجي’ الذي تمثله إيران في المنطقة، خاصة مع انشغال الجيش المصري بملاحقة المتظاهرين في المدارس والجامعات، وفي الشوارع.. رهان التطبيع سيزيد في تعميق الهوة بين هذه الأنظمة وشعوبها وهذه الأخيرة لن تقبل بوضع اليد في يد العدو المحتل..
الإيرانيون يمتلكون رؤية إقليمية واضحة، وعلى أساسها ينسجون تحالفاتهم ويبنون مواقفهم، وهم مستعدون للتحالف مع أعدائهم إذا ظهرت مصلحة استراتيجية تبرر ذلك.
على الجانب الآخر تبدو دول مجلس التعاون الخليجي منغلقة على العديد من المفاهيم التقليدية التي ينبغي العمل على خلخلتها في الوقت الراهن، ومن ذلك الموقف من الحركات الإسلامية العاصرة.
إن استمرار المظاهرات المؤيدة للرئيس مرسي والرافضة للانقلاب على الشرعية، تعني أن الانقلاب العسكري فشل عمليا في مسعاه السلطوي، وهو في مأزق حقيقي يوشك معه أن ترفع القوى الكبرى يدها على الموضوع وتفكر في مصالحها الحيوية الغير المضمونة مع الجيش المنقلب على الشرعية.
دول الخليج مدعوة أكثر من أي وقت مضى لبناء استراتيجيات جديدة للمصالحة مع الذات أولا، وتصحيح العلاقة مع التيارات السياسية الإسلامية التي تنشط في المنطقة العربية..
هذا الاختيار فقط، هو الذي يمثل الصخرة التي تتحطم عليها جميع المخططات الأجنبية..
ألا هل بلغت..اللهم فاشهد..

‘ كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية