الحياة هي في صورة أخرى

شؤم الصورة: من الشبابيك والكوات الصغيرة لقاعات النوم أطلت الرؤوس على الفجيعة في ذلك الصباح الباكر. صرخة مكتومة أعقبها صوت خطوات فرار. ما رأته النساء من خلف الشبورة في ذلك الصباح الشتائي هو سمير الفولي يمضي مترنحًا، مخلفًا خطًا من الدماء. كانت الطعنة نافذة بالقلب، لذا لا يمكن الإدعاء بأنه دار شوارع القرية يجر أمعاءه خلفه مثل سنتياجو نصار بطل ماركيز. سقط سمير بعد خطوات قليلة في واقعة اغتيال عادية خالية من أي سحر.
لم يكن عضوًا في عصابة خطرة أو شريكًا في تجارة مخدرات، لكنه تبجح بالإحتفاظ بصورة فتاة صارت خطيبة شاب آخر.
حتى نهاية عقد الستينيات لم تكن الصور نادرة فحسب، بل شهوة ملعونة. الإحتفاظ بصورة امرأة هو نوع من امتلاك المرأة. وهو اعتقاد يتماشى مع فكر طوطمي، لم يزل فاعلاً إلى اليوم؛ فأفضل علاج إصابة بالحسد أو التطعيم ضد إصابة محتملة، يتطلب صنع عروس من الورق، ترمز لصاحبة أو صاحب العين الشريرة، ثم يجري تخزيقها بالإبرة بينما تُتلى عليها التعاويذ.
ولم يكن سمير يحتفظ بصورته مع الفتاة في وضع عناق مثلاً، إذ كان التصوير يتطلب الخروج العلني إلى ستوديو التصوير، وهذا معناه افتضاح العلاقة قبل تظهير الصورة. كانت الصورة محل النزاع مجرد بورتريه للفتاة ممهورًا بإهداء على الظهر يتضمن وعدًا بالوفاء الأبدي. لكن الصورة المشئومة انتهت بالحبيب تحت التراب، والخطيب في السجن، بينما أكملت الفتاة حياتها عانسًا، ليس وفاء منها لأي من الرجلين، بل لشؤمها.

عهدة حكومية:

البورتريه الشخصي المطلوب لأية وثيقة حكومية لا يشترط الجمال، يتطلب الوضوح فحسب. اللقطة من المواجهة وليست جانبية، للتأكد من تمام الأعضاء، وكأن الوجه عهدة دفترية.
يجب أن تكشف الصورة عن الفم والعينين والأنف والأذنين. والخلفية التي تخدم هذا الوضوح إما بيضاء تمامًا أو سوداء تمامًا (صارت زرقاء بعد دخول الألوان). وكان الوفاء بهذه الحدود الدنيا من الشروط الفنية لا يتطلب أكثر من الكاميرا ورقعة بيضاء أو سوداء يلصقها المصور الجوال على الحائط في أية حارة.
يتنادى طالبو الصور، يخبرون بعضهم البعض بوصول المصور، ويتابعون الوقوف أمام الكاميرا المنصوبة على الحامل واحدًا بعد الآخر. وبعد ذلك سيتم سحب الفيلم وتظهيره في دلو صغير، ثم تعليق الشرائح بملاقط الغسيل على حامل الكاميرا، وعندما تجف يقوم المصور بقصقصتها كيفما اتفق بمقص متواضع، ويسلم كل شخص صوره التي يطالعها لمجرد التأكد أنها لم تتبدل كلها أو إحداها مع صور غيره، لأن هذا التبديل له نفس خطورة اختلاط الأنساب، ومن الممكن أن يتناول الموظف الصورة الخطأ من صاحب المعاملة دون أن يطابق بينها وبين حاملها، قبل أن يدبسها (يكبسها) برأس وثيقة ستنام مهملة في أضابير الحكومة.

التعويض الفوتوغرافي

مع الإنفتاح الإقتصادي في مصر، منتصف عقد السبعينيات من القرن العشرين، انبعث التطلع الطبقي المحموم. اتجه كبار الأغنياء الجدد إلى وجاهة ‘العزبة’ أي القصر المحاط بملكية كبيرة من الأرض الخضراء، بينما اكتفت الشرائح المدينية الأوسع بالتطلع إلى بيت أكثر لمعانًا؛ فتجسد طموحها في تغيير طلاءات الشقة وسيراميك الحمام، ذلك الذي اختصرته دعاية شهيرة بعبارة ‘انسف حمامك القديم’ التي لم تزل عنوانًا على سفه الانفاق غير الضروري.
الطبقات الأكثر فقرًا ألقت على الصور عبء تحقيق طموحاتها الطبقية. وتطلب هذا التطور افتتاح ستدوديو تصوير في كل قرية. وتفننت ستوديوهات التصوير في المدن الصغيرة وعشوائيات القاهرة وفي القرى في اختصار عزبة الأرستقراطي على جدرانها!
مناظر ضخمة من ورق الحائط مستوردة كلها من اليابان وجاراتها المبتدئات في الصناعة صارت ديكور هذه الستديوهات الفقيرة. الأسوار بنقوشها الآسيوية الباذخة، البوابات الحديدية تعيد أمجاد امبراطوريات الشرق العظمى، النوافير الضخمة خلف البوابات قبل أن تتفرع ممرات مفروشة بالحصى الأبيض تتراص على جانبيها مقاعد الرخام وأحواض الورود الرخامية الضخمة. بعض المناظر تقدم الغابات البكر بأشجار آسيوية تلتف على بعضها البعض؛ نخيل الزيت، ونخيل الزينة ومساحات ضخمة من الأحراش الاستوائية.
للزبون أن يختار غرفة القصر أو غرفة الغابة، بين القلعة والنهر، بكل قاعة كشافات إضاءة وكاميرا مثبتة على حاملها تنتظر لحظة التصويب. تفنن المصورون في حيل نقل زبائنهم من حيواتهم المتواضعة إلى الحياة في الصورة الأخرى، علموهم كيف يمدون أيديهم باتجاه ثمرة باباي أو جوزة هند في الجدارية خلفهم ليبدو وجودهم حقيقيًا في ذلك النعيم المستعار.
لم أمتلك في صباي طموح الخلود في لقطة بفردوس التصوير، لكنني أقنعت أحد هؤلاء المصورين بتغيير مهنته إلى مشعوذ، نجح في تبديد أرق الأمير في روايتي ‘مدينة اللذة’.
كانت الأميرة المحبوبة من أبيها قد أعلنت سأمها من مدينة الجنس الفظ، وأخذت تهلوس بكلام عن مدن بعيدة تحتفي بشعور اسمه ‘العشق’ يولد بين اثنين فيصيران واحدًا. استمع المشعوذ إلى هلوسات الأميرة، وبنى لها ‘المحلمة’ قصر زين جدرانه برسوم للعشاق بمن فيهم حبيبها المحلوم به. وسط دخان البخور الكثيف تمضي الأميرة في أبهاء القصر فتتحرك الرسوم، ويندفع إليها حبيبها من بين العشاق المتخاصرين. وبهذا الاختراع عاد الأمير إلى جلسته المريحة، بعد أن وفر لدرة تاجه إرضاءًا آمنًا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية