التعددية أو الانتحار

صلاحية النظام الدولي «الأحادي القطبية» أصبحت محل تساؤل منذ سنوات طويلة. لكن الولايات المتحدة تستميت في الدفاع عنه، لأنه جزء من هويتها منذ انتصارها في الحرب الباردة. أما الدول التي تقول «لا» للقطبية الأحادية، وتدعو إلى تعزيز النظام الدولي المتعدد الأطراف، مثل الصين وروسيا وإيران والهند وتركيا وجنوب افريقيا، فإنها انتقلت من «رد الفعل الفردي» إلى بناء أسس «الفعل الجماعي المؤسسي»، كما يظهر في تطوير وتوسيع «منظمة شنغهاي للتعاون» التي تضم بين أعضائها الصين وروسيا والهند وإيران، وفي تعزيز مجموعة «بريكس» التي تضم أيضا الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب افريقيا. كما يتلقى النظام المتعدد الأطراف دعما من وجود منظمات إقليمية أخرى ذات دور حيوي، مثل رابطة آسيان، واتفاقية الشراكة الشاملة لدول المحيط الهادي وشرق آسيا، والاتحاد الافريقي، ومنظمات التعاون لدول أمريكا اللاتينية وغيرها. النظام المتعدد الأطراف حقيقة حية في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يتجسد في منظمة الأمم المتحدة، والمنظمات الاقتصادية لاتفاقية بريتون وودز (البنك الدولي، صندوق النقد، ومنظمة التجارة العالمية).

بين العولمة والعداء للعالم

بسبب شراسة الولايات المتحدة في الدفاع عن النظام الأحادي القطبية، هاجت أخيرا رياح الشرق على رياح الغرب، لدرجة أن العالم بات يتكلم جهرا عن احتمالات حدوث مواجهة نووية، إن حدثت، فإنها تعني انتحار البشرية كلها. مثل هذه المواجهة هي مجرد احتمال نظري حتى الآن، وإن كانت تنذر بالخطر، وتشير إلى وجود صراع حاد في علاقات القوى الرئيسية، بين نزعة «غربية»، تذهب إلى حد التضحية بالعالم من أجل بقاء القطبية الأحادية، ونزعة «شرقية» تدعو لتطوير نظام عالمي ديمقراطي، متعدد الأطراف، يضمن استمرار «العولمة»، في تجليات سياسية واقتصادية وعسكرية تحقق مقتضيات الأمن والاستقرار والرخاء من دون تمييز. وينطوي تعبير «شرقية» أو «غربية» هنا على دلالات جيوستراتيجية واقتصادية وثقافية، تجسد ضرورات «التعددية»، لأن أيا من الشرق والغرب لن يستطيع نفي وجود الآخر. ومع ذلك فإن دورة التاريخ وواقع الحال يستلزمان تصحيح علاقة كل منهما بنفسه، للتخلص من الاستبداد الشرقي والفساد الغربي، وتصحيح علاقة كل منهما بالآخر، وهو ما لا يتحقق من دون العولمة والتعددية، وسيادة قيم الحرية والديمقراطية، من دون فساد أو تمييز، أو الكيل بمكيالين.

أي من الشرق والغرب لن يستطيع نفي وجود الآخر، ودورة التاريخ وواقع الحال يستلزمان تصحيح علاقة كل منهما بنفسه، للتخلص من الاستبداد الشرقي والفساد الغربي

ومع أن تغيير النظام الدولي ليس وشيكا، لأن التغيير «عملية» وليس مجرد انتقال سريع من حالة إلى حالة، فإن المواجهة مع نظام القطب الواحد تشتد قوة، خصوصا من جانب الدول النامية الساعية إلى تحقيق معدلات نمو عالية، والدول المستهدفة بالعقوبات الأمريكية. هذه الدول تعيد تنظيم محركات قوتها من خلال علاقات شبكية جديدة على أساس النفع المتبادل، تتجسد مؤسسيا في شكل تنظيمات إقليمية ذات طابع اقتصادي، أو أمني، أو متعدد الأغراض. في مقابل ذلك تسيطر على واشنطن نزعة معادية للعالم ترفع شعار «أمريكا أولا»، وهو الشعار الذي يعني عمليا «أمريكا فوق الجميع». ومع أن الجمهوريين هم الأكثر انحيازا لهذه النزعة، فإن بعض صناع السياسة الديمقراطيين يؤيدونها، إما لأسباب تتعلق بالمنافسة الانتخابية، أو عن يقين. هذه النزعة الأمريكية المعادية للعالم تتجلى في نص «استراتيجية الأمن القومي» التي صدرت في أواخر العام الأول من رئاسة ترامب (2017)، ثم جرت إعادة صياغتها على المبادئ نفسها تقريبا في العام الأول لرئاسة بايدن (2021). وفي الحالتين فإنها كانت امتدادا لسياسة جورج بوش الابن، التي يقول منطوقها «من ليس معي فهو ضدي». وقد تجلت سياسة «أمريكا أولا» خلال السنوات الخمس الأخيرة، في عدد كبير من الإجراءات، منها انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة الشاملة لدول المحيط الهادئ (2017)، وارتباك العلاقات بينها وبين حلف الأطلنطي، منذ وصف ترامب للحلف بعدم الجدوى أو الفاعلية، والانسحاب الأمريكي المنفرد من الاتفاق النووي الإيراني، من دون تشاور مع الشركاء، وإطلاق حملة الضغوط القصوى ضد طهران (2018)، وشن حرب تجارية ضد الصين، والتوسع في فرض عقوبات ضد فنزويلا، والتحريض على تسخين النزاع بين روسيا وأوكرانيا، في إطار سياسة عدوانية لتوسيع حلف شمال الأطلنطي شرقا، بهدف عزل روسيا عن أوروبا، واتباع استراتيجية مكشوفة لإطالة أمد الحرب الأوراسية، بإغراق أوكرانيا بأسلحة متنوعة من مخازن الجيش الأمريكي. ورغم ظاهر القوة في سياسة «أمريكا أولا» فإنها تمثل أهم محركات الضعف الرئيسية التي تنخر في عظام التحالف الغربي. وقد وصلت تداعياتها إلى حد تهديد مشروع الوحدة الأوروبية، بظهور تشققات في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وبعض أعضائه مثل المجر، وبولندا، وظهور حركات احتجاجية ضد ارتفاع تكلفة الطاقة وانخفاض مستويات المعيشة بسبب الحرب، ما ينذر بحدوث موجة من عدم الاستقرار السياسي الداخلي في الدول الأوروبية.

انتقال محور القوة شرقا

أسهم النظام الاقتصادي الليبرالي العالمي، خلال العقود الأخيرة في زيادة قوة محركات الاندماج وليس الانقسام بين الأسواق، وتغيير طبيعة فلسفة التكتلات التجارية من «النزعة الحمائية» إلى «سياسة الانفتاح»، ما أدى لتوسيع نطاق حرية التبادل، وفتح الأسواق على بعضها بعضا. وقد أدرك هنري كيسنجر مبكرا أهمية انفتاح الولايات المتحدة على العالم شرقا، وتولى مهمة هندسة إقامة علاقات جديدة مع الصين وفيتنام، في عهد الرئيس نيكسون. وعلى الصعيد الاقتصادي رصد بيتر دانكن في الطبعة الأولى من كتابه « Global Shift – التحول العالمي» عام 1986 مظاهر عملية انتقال محور القوة الاقتصادية في العالم من الغرب إلى الشرق، وما زال يتابع عمله حتى الآن في الطبعات التالية من الكتاب. وتبين كتابات دانكن الآثار الإيجابية لظاهرة العولمة على مستوى الرفاهية الفردية والاجتماعية، كما تبين ارتباط ازدهار سلاسل القيمة العالمية بوحدة السوق العالمي، وحرية انتقال السلع والأموال والأفراد والخدمات العابرة للحدود، تساندها أجهزة مؤسسية متعددة الأطراف مثل البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وأجهزة أخرى ذات طابع سياسي مثل مجلس الأمن الدولي ومنظمات الأمم المتحدة.

العقوبات تخلق فرصة بديلة

العودة إلى ممارسات الحرب الباردة، مثل الحروب الاقتصادية والتكنولوجية والمالية، لتقييد حرية انتقال الأفراد والسلع والخدمات والابتكارات، أدت إلى إحداث اضطرابات في سلاسل الإمدادات العالمية، خصوصا بعد جائحة كورونا. وقد صاحب هذه الاضطرابات ظهور تيار معاد للعولمة، تجلى في إعلان انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. كما دعت إدارة الرئيس بايدن الشركات الأمريكية لعدم الاستثمار في الصين، وفرضت عقوبات على الشركات الصينية الرئيسية، وما تزال تعمل على فصل الصين عن سلاسل القيمة العالمية في صناعات استراتيجية، مثل صناعة الشرائح الإلكترونية وأشباه الموصلات، وفرض حصار على شركاتها في سلاسل التمويل، وصل إلى حد التهديد بشطبها من سجل الشركات العالمية المقيدة في بورصة نيويورك. ثم جاءت الأزمة الأوكرانية لتقدم للولايات المتحدة وحلفائها مبررات قوية لفرض عقوبات جديدة على روسيا، ومحاولة عزلها تماما عن أوروبا، وقطع شرايين إمدادات الطاقة والغذاء الممتدة عبر أراضي أوراسيا، التي تمثل جزءا من حقائق الجغرافيا الاقتصادية والأسس الجيوسياسية في العالم. ونظرا لأن العقوبات مثلها مثل الإجراءات الحمائية تخلق «الفرصة البديلة»، فإن روسيا اضطرت لتحويل تجارتها من الغرب إلى الشرق، وحققت من ذلك مكاسب كبيرة، بسبب حصيلة فروق الأسعار الناجمة عن نقص الإمدادات إلى مراكز الاستهلاك الرئيسية في الدول الصناعية. أما قدرة التحالف الغربي على مواجهة التداعيات الاقتصادية والسياسية، فإنها ما تزال محل شكوك قوية. وتتصف الحالة العامة في الدول الصناعية بالخوف من المجهول، وعدم اليقين بالنسبة للحاضر، انتظارا لما قد تسفر عنه خطط مواجهة البرد والركود والكساد وانخفاض مستويات المعيشة، والأعباء التمويلية الضخمة الناتجة عن زيادة حجم الدين العام.

العولمة وسلاسل الإمدادات

لم تكن العولمة خيارا سياسيا، لأنها نشأت في سياق التطور الطبيعي لنظام التقسيم الدولي للعمل، وتغليب عوامل التنافسية، والمزايا النسبية، ووفورات التخصص والإنتاج الكبير. وبعد سقوط ثنائية تقسيم العمل الدولي (تقسيم العمل الرأسمالي، وتقسيم العمل الاشتراكي) اتسع نطاق إقامة سلاسل القيمة العالمية Global Value Chains من دون أي حدود سياسية أو أيديولوجية أو اقتصادية، ومن خلالها تم دمج دول مثل الصين وفيتنام ولاوس وكمبوديا في النظام الاقتصادي العالمي، جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، لكن التطور الطبيعي لسلاسل القيمة، أو الإمدادات العالمية يصطدم حاليا بعقبات الحروب التجارية والعقوبات الاقتصادية والحصار التكنولوجي. ويشارك في هذا الصدام فكر رجعي يدعو للعودة إلى المحلية والاكتفاء الذاتي. ومن الغريب أن هذا الفكر يدعو إلى تخريب إنجازات البشرية التي قامت على الحرية بدعوى الدفاع عن الحرية!
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إبسا الشيخ:

    منظمة شنغهاي ليس حلف عسكري، أن الدول في منظمة شنغهاي، على سبيل المثال هل من الممكن أن تتحالف الهند وباكستان، قرغيزستان وطاجكستان، حتى الصين والهند، حتى روسيا بوتين والصين ،ولذالك مجرد فرقعات إعلامية،ماقاله رئيس الوزراء الهندي للقيصر الواهم المزيف خير دليل على وجود إختلاف

  2. يقول سامي:

    كثر الكلام واللغط عن الحاجة لعالم متعدد الاقطاب ولكن لنكن حذرين هنا، نريد عالم متعدد الاقطاب للدول اليمقراطية فقط، ليس من مصلحتنا ابدا ان تكون الصين او روسيا ضمن تلك الاقطاب ما دامت انظمتهم الحالية باقية، هزيمة روسيا في اوكرانيا مهمة للغاية لمنطقتنا وللجوله القادمة من الربيع العربي، بوتين يقاتل بكل شراسة للبقاء في السلطة ولاجل ذلك يدعم مباشرة وبجنود علي الارض كل الطغاء في منطقتنا، وبل ويهاجم كل دول الجوار الروسي اذا انتفضت ضد طغاتها. المعركة واضحة الان كالشمس، نريد تحول ديمقراطي في كل العالم وعندها سيكون تعدد الاقطاب نعمة وليس نقمة

إشترك في قائمتنا البريدية