التاريخ الإنساني في قفص الاتهام الصهيوني!

الأرجح أن الجمهور العربي الواسع ممن لا يقرأ الجرائد الأجنبية لم يسمع من أسماء المعلقين الأمريكيين إلا باسم واحد: توماس فريدمان. فقد عُرف في الفضائيات العربية في أعقاب 11 سبتمبر/أيلول 2001، ثم انتشر اسمه أكثر لما اعتمدت القيادة السعودية عليه في ترويج مشروع السلام الذي أقره مؤتمر القمة العربية في بيروت في مارس/أذار 2002: الاعتراف العربي الرسمي بإسرائيل نظير انسحابها من جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967. أما الشرائح القارئة من الجمهور العربي فقد شاع عندها أن فريدمان صهيوني متعصب منحاز مطلق الانحياز لإسرائيل. إلا أن الواقع أن الرجل ليس جديرا تمام الجدارة بهذه «التهمة التي لا تُرَدّ والشرف الذي لا يُدّعَى» عند معظم الأمريكيين. إذ إن في صهيونيته براغماتية جعلته مواظبا على المناداة بحل الدولتين (لا غراما بالفلسطينيين، طبعا، وإنما حرصا على أمن إسرائيل وهويتها اليهودية). وربما صح أن فريدمان كان أشد معلقي الـ«نيويورك تايمز» صهيونية، ولكنه لم يعد كذلك. إذ إن هذا الشرف قد انتزع منه منذ أن انضم بريت ستيفنز إلى الـ«نيويورك تايمز»عام 2017 قادما من الوول ستريت جورنال. وبالطبع لم يَأْلُ ستيفنز منذ 7 أكتوبر جهدا في الدفاع عن إسرائيل المظلومة المكلومة وفي التشنيع على أولئك الأمريكيين الذين حادوا عن جادة الصواب فصاروا يسمون إسرائيل دولة احتلال وفصل عنصري ويعدّون الفلسطينيين شعبا له ما لبقية الشعوب من حقوق، بدءا من تقرير المصير. أما أعجب ما كتبه حديثا فهو أن «الاستعمار الاستيطاني» إنما هو من المفاهيم التي تذوب حالما تشرق عليها شمس الفكر النقدي. كيف ذلك؟ يقول ستيفنز إن تطبيق تعريف الاستعمار الاستيطاني على إسرائيل يعني أنها مشروع استعماري بريطاني كان يرمي إلى إنشاء دولة إثنية لليهود بإلغاء المجتمع الفلسطيني الأهلي الأصلي، والنتيجة الحاسمة أن هذا الظلم لن يرفع إلا إذا تم إلغاء إسرائيل من حيث هي دولة يهودية.

حركة التحرر الوطني الفلسطيني لم تطالب، ولا تطالب، بطرد الإسرائيليين وإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية، بل إنها تدعو إلى دولة ديمقراطية يتساوى فيها جميع المواطنين من عرب ويهود

ولو كان ستيفنز غير منحاز لاستكمل: «لتعويضها بدولة ديمقراطية يتساوى فيها جميع المواطنين». ولكنه يمضي متسائلا: إذا كان من الضروري إلغاء الاستعمار الاستيطاني، فلماذا لا يلغى في جميع حالاته؟ بحيث نبدأ بالولايات المتحدة التي نشأت باعتبارها مشروع استعمار استيطاني تحت الحكم البريطاني والهولندي والإسباني ثم استمرت كذلك تحت الحكم الأمريكي؟ فإذا كنت أمريكيا من غير أهالي البلاد الأصليين وجب عليك المغادرة والعودة إلى بلاد أجدادك إن قبلت بك. وينطبق الأمر ذاته على أستراليا ونيوزيلندا وكندا. ولتدعيم الحجة يسأل: ثم ما دَخْلُ الروس في القوقاز أو القرم أو شرق الأورال؟ وما شأن الصينيين الهان بتركستان الشرقية أو التيبت؟ وماذا يفعل الإسبان والبرتغاليون في أمريكا اللاتينية؟ وكيف آل الأمر بشعوب شبه الجزيرة العربية إلى الاستقرار بثقافتها ولغتها في أماكن قصية مثل المغرب وتونس، بل وفي الأراضي المقدسة (يقصد فلسطين) التي انتزعتها «الخلافة الراشدة» من البيزنطيين عام 637م؟ ويعترف ستيفنز أن لمناهضي الاستعمار الاستيطاني أن يردوا بأن حالات الظلم الموغلة في القدم التاريخي ليست مبررا للحالات المعاصرة. ولكنه يسأل: هل يمكن أن تعدّ آخر المعارك الكبرى بين الجيش الأمريكي والأهالي الأصليين عام 1890 معركة قديمة؟ وهل الغزو الأمريكي لمملكة هاواي عام 1893 غزو قديم؟ ثم يقول جازما إن موقف مناهضي الاستعمار الاستيطاني ينبغي أن يكون مبدئيا ومتماسكا، أي غير انتقائي، وإن في مناهضة الحالة الإسرائيلية لوحدها دون سواها من الحالات المشابهة ازدواجية معايير يعسر تسميتها باسم آخر إلا اللاسامية!
والحق أن ستيفنز كاتب مُجيد مسترشد بالتاريخ عارف بالفلسفة السياسية. والرأي عندي أنه لم يتعمّد التعامي عن حقيقتين بسيطتين، بل إنه عَمِيَ عنهما رغما عنه، بفعل تحيزه الأيديولوجي المُعضِل. الأولى هي أن الفتح الإسلامي في فلسطين والمغرب وتونس وسائر البلدان التي صارت إسلامية لم يكن استعمارا إحلاليا يقتلع أهل البلاد ليُحِلّ محلهم جماعة إثنية غالبة، بل كان فتحا رساليّا يبشر الأهالي برسالة دينية عالمية جديدة يريدهم الدخول فيها على قدم المساواة مع الفاتحين. الحقيقة الثانية أن حركة التحرر الوطني الفلسطيني لم تطالب، ولا تطالب، بطرد الإسرائيليين وإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية، بل إنها تدعو إلى دولة ديمقراطية يتساوى فيها جميع المواطنين من عرب ويهود، مثلما هو الشأن اليوم في جنوب إفريقيا حيث يتساوى في المواطنة جميع السود والهنود والبيض.

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية