الاقتصاد الأمريكي وكيف يؤثر على سباق الانتخابات الرئاسية

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

أزمة مالية مصغرة تتجمع غيومها في الولايات المتحدة، قد تطيح بالرئيس الأمريكي الحالي جوزيف بايدن، وتأتي بخصمه اللدود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. يوما بعد يوم يتزايد تعقيد الموقف في سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ويتشابك تأثير المتغيرات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وكذلك المتغيرات الداخلية والخارجية. لكن الناخب الأمريكي الذي ننظر إلى اختياراته السياسية على أنها تسهم إلى درجة كبيرة في التأثير على اتجاهات السياسة العالمية، لا يهتم بالعالم قدر اهتمامه بالأوضاع الداخلية التي تؤثر على حياته مباشرة. وكلما اقتربنا من موعد الانتخابات تتزايد أهمية تأثير الوضع الاقتصادي الداخلي على تفضيلات الناخبين. وتتعلق المسألة الأولى الآن في الوضع الاقتصادي بالتفاعل بين ثلاثة متغيرات أساسية هي معدل التضخم العنيد، ومعدل النمو الهش، وسياسة مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي الذي يجب أن يختار بين هدف تخفيض التضخم إلى 2 في المئة مع التضحية بالاستقرار المالي والنمو، أو يختار هدف تحقيق نمو مستدام مصحوبا باستقرار مالي مع التضحية بهدف تخفيض التضخم. في الوقت الحاضر، وطبقا لأفضل سيناريوهات النمو يقل معدل النمو المتوقع في الولايات المتحدة هذا العام عن متوسط النمو العالمي، كما أن فرص الاستقرار المالي تبدو أقل. الأكثر من ذلك هو أن العوامل الجيوسياسية لا تسير في الاتجاه الذي يوفر قدرا أكبر من اليقين في السوق، مع تطورات الوضع في حرب غزة وحرب أوكرانيا والأزمة المكتومة في علاقات الولايات المتحدة بالصين. صورة الاقتصاد الأمريكي في نهاية الربع الأول من العام الحالي حملت مؤشرات صادمة، فجاء معدل النمو أقل مما كان متوقعا، وجاء التضخم أعلى بكثير، في حين أن الإنفاق الاستهلاكي جاء أقل، في الوقت الذي استمرت فيه قوة مؤشرات سوق العمل.

نمو أقل من المتوسط العالمي

على الرغم من أن صندوق النقد الدولي أعاد تقدير معدل النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة هذا العام إلى أعلى من 2.1 في المئة من 2.7 في المئة في بداية العام، فإن معدل النمو يظل أقل من متوسط معدل النمو في العالم، وما يقرب من نصف معدل النمو في الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم. ويبلغ متوسط معدل النمو العالمي المتوقع 3.2 في المئة، في حين يقدر الصندوق معدل النمو المتوقع في الصين بحوالي 4.8 في المئة. لكن تقديرات مؤسسات التقييم الاقتصادي والمالي مثل «ستاندرد اند بورز» و«فيتش» تخالف الصندوق بالنسبة لتوقعات النمو وتضعه عند مستوى يقل عن 2 في المئة حتى نهاية عام 2025. وسواء بالنسبة للصندوق أو مؤسسات التقييم الاقتصادي المستقلة، فإن التوقعات تقوم على أساس أن تخفيض أسعار الفائدة على الدولار يمثل أهم محركات دفع النمو في العامين الحالي والقادم. وفي حال عدم تحقق ذلك فإن فرضية ارتفاع معدل النمو تصاب إصابة كبيرة. وتذهب السوق بشكل عام إلى توقع تخفيض أسعار الفائدة إلى 4.6 في المئة خلال النصف الثاني من العام الحالي، ثم إلى 3.9 في المئة في العام التالي، مع استمرار تيار الهبوط إلى 3.1 في المئة في عام 2026. هذا السيناريو يفترض أن معدل التضخم سيتحرك دون عناد ومقاومة من مستواه الحالي في اتجاه المعدل الذي يستهدفه مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي.
وقد بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام 1.6 في المئة، بينما كانت التوقعات أن يصل إلى 2.4 في المئة، فكان بذلك الأضعف فصليا خلال العامين الأخيرين. في الوقت نفسه ارتفع معدل التضخم بنسبة 3.4 في المئة، وهي أعلى نسبة زيادة في التضخم خلال 12 شهرا. ولم يكن التضخم مدفوعا بزيادة كبيرة في الإنفاق الاستهلاكي، نظرا لأن ذلك حقق ارتفاعا بنسبة 2.5 في المئة فقط، ما يقل عن تقديرات السوق التي كانت تتوقع الوصول إلى 3 في المئة، وهو أقل من الارتفاع الفعلي الذي تحقق في الربع الأخير من العام الماضي، الذي وصل إلى 3.3 في المئة. هذه المؤشرات الثلاثة وحدها تعتبر مصدر قلق شديد للسوق، كما أنها تشكل محركات لتكريس الشعور بعدم اليقين بشأن حال الاقتصاد الأمريكي في المستقبل القريب. ومن ثم فإنه من المرجح استمرار ضغوط الوضع الاقتصادي على اختيارات الناخبين، خصوصا وأن تعقيدات الوضع الجيوسياسي للولايات المتحدة في العالم تزيد من حدة تدهور الوضع الاقتصادي الداخلي.
وقد تعرضت سوق الأوراق المالية الأمريكية لهبوط مفاجئ يوم الخميس الماضي، حيث هبطت مؤشرات الأسعار بنسبة 2 في المئة تقريبا بعد نشر الإحصاءات، لكنها لم تلبث أن قلصت خسائرها إلى حد كبير بعد نشر بداية مبشرة لأداء الشركات في الربع الأول من العام حيث أعلنت شركات «ألفابت» و «مايكروسوفت» و «سناب» زيادة أرباحها بنسبة 13 في المئة و5 في المئة و27 في المئة على التوالي. لكن هبوط قبل ذلك جاء ليكرس حالة القلق السائدة بين المستثمرين، بينما تفرض أسعار الفائدة المرتفعة قيودا على الاستثمار والنمو، في الوقت الذي يظهر فيه معدل التضخم قدرة غير مسبوقة على مقاومة سياسة التشدد النقدي وعدم الاستجابة لها. بعض المستثمرين تبخرت أحلامهم في تخفيض أسعار الفائدة بواسطة مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي المتوقع في شهر يونيو المقبل. ولذلك فإن الانتعاش الذي يمكن أن يغطي على المعاملات في أسواق المال خلال فترة إعلان نتائج أعمال الشركات قد لا يستمر طويلا، وسوف يظل مؤقتا نظرا للضغوط الأطول الناتجة عن تداعيات الوضع الاقتصادي الكلي.

أزمة في سوق العقارات التجارية

الأخطر من ذلك أن هناك أزمة مالية جديدة قد تضرب الاقتصاد الأمريكي كله، تتفاعل حاليا تحت السطح. ومع أن أهم أطراف هذه الأزمة في الوقت الراهن هم مطورون عقاريون وبنوك وشركات تمويل غير رئيسية على المستوى المحلي في الولايات وليس على المستوى الفيدرالي، فإن درجة تشابك المعاملات المالية تخبرنا أن الأزمة التي قد تنشأ في مؤسسة تمويل متوسطة أو صغيرة في ولاية من الولايات قد تكون انعكاسا لأوضاع سلبية على المستوى الفيدرالي في الولايات المتحدة ككل، ومن ثم تنتقل تداعياتها بسرعة من المستوى المحلي إلى المستوى الفيدرالي، فمؤسسات التمويل الصغيرة أو المتوسطة تقترض من المؤسسات الكبيرة، وإذا عجزت عن سداد القروض المستحقة، فإن ذلك يترك عبئا ثقيلا على عاتق المؤسسات الكبيرة ويهدد استقرار السوق.
وهكذا فإنه يلوح في الأفق حاليا شبح أزمة في سوق العقارات التجارية في الولايات المتحدة مع انخفاض الطلب على تلك العقارات، وانخفاض نسبة الإشغال بسبب زيادة ميل المستهلكين إلى التسوق عبر الإنترنت، وتفضيل العمل من المنازل على العمل من المكاتب. ولهذه الأسباب فإن خبراء السوق في الولايات المتحدة يتوقعون هبوط أسعار العقارات التجارية والإدارية بنسبة تصل إلى 40 في المئة من المستوى الذي كانت عليه عام 2022. في الوقت نفسه فإن ارتفاع أسعار الفائدة وتريث مجلس الاحتياط الفيدرالي في اتخاذ قرار بتخفيضها من شأنه تعقيد الموقف بالنسبة للدائنين والمدينين على السواء في سوق الديون العقارية، في حال تعثر المطورين العقاريين ماليا. وتبلغ قيمة الديون العقارية المستحقة السداد في العام الحالي حوالي 930 مليار دولار.
هذا الوضع يعيد إلى الأذهان أزمة الديون العقارية في الولايات المتحدة التي رافقت حملة الانتخابات الأمريكية عام 2008 وفجرت أزمة مالية كبرى عندما أفلس بنك ليمان براذرز، وهي أزمة لم يسلم العالم من تداعياتها حتى الآن.
هذا الوضع في سوق العقارات التجارية الأمريكية يلتقي إلى حد ما مع الوضع في سوق العقارات في الصين، مع بعض الفروق الجوهرية، منها أن أزمة القطاع العقاري في الصين أسوأ و تتركز في القطاع السكني، وتتحمل مسؤوليتها الشركات العقارية الأضخم في البلاد مثل «إيفر غراند» و«كانتري غاردن» في حين أنها تتركز في القطاع التجاري في الولايات المتحدة وتقع مسؤوليتها على شركات أقل نفوذا في السوق. ومع ذلك فإن أحد المخاطر التي تتعرض لها السوق الأمريكية يتمثل في ضغط أسعار الفائدة على الاستثمار، وجمود النظرة إلى الحلول الممكنة لتخفيف حدة الأزمة، بسبب السياسة النقدية المتشددة لمجلس الاحتياط الفيدرالي. على العكس من ذلك فإن السياسة النقدية والاقتصادية بشكل عام في الصين تساعد على تخفيف حدة الأزمة، وتمكين الجهاز المصرفي من تقديم حلول مبتكرة للأزمات الطارئة، تخفف حدتها وتقلل نطاق انتشارها. هذه المرونة والفعالية للجهاز المصرفي في الصين تستفيد من وجود هامش واسع من حرية الحركة توفره السياسة النقدية للبنك المركزي الصيني، ونجاح البنك في حصار التضخم، ومنعه من الخروج عن نطاق السيطرة. خلال السنوات العشر الأخيرة (2013- 2023) حافظت الصين على معدل تضخم منخفض، كما كانت التغيرات في المستوى العام للتضخم محدودة من عام لآخر باستثناء عام 2019 بسبب جائحة كورونا، حيث قفز المعدل السنوي للتضخم إلى 2.9 في المئة مقابل 1.9 في المئة في العام السابق. وقد هبط معدل التضخم في العام الماضي إلى 0.23 في المئة، ومن المتوقع أن يبقى هذا العام تحت معدل 1 في المئة، حيث تشير التقديرات إلى احتمال ارتفاعه إلى 0.97 في المئة، على أن يبقى تحت معدل 2 في المئة سنويا حتى عام 2030 حسب تقدير هيئة الإحصاءات الأوروبية «ستاتيستا».
ويستخدم البنك المركزي الصيني سياسته النقدية ضمن حزمة من السياسات الاقتصادية المتكاملة التي تحقق التوازن، وتسهل للسوق أداء وظائفها داخل اقتصاد مستقر، بعيدا عن التقلبات السعرية الحادة، بما فيها تلك التي يمكن أن تنتج في أسواق الوقود والغذاء. وتتبع الصين منذ فترة طويلة سياسة حكيمة لتجنب صدمات الأسعار، عن طريق تدخل الدولة لبناء مخزون كبير من السلع عند وفرة العرض و انخفاض الأسعار في السوق، داخليا أو خارجيا، ثم استخدام هذا المخزون في زيادة العرض في أوقات الشحة ونقص السلع من أجل المحافظة على استقرار الأسعار. لذلك فإن الخروج من أزمة التمويل العقاري في الولايات المتحدة هو أصعب بكثير منه في الصين، وذلك نظرا لحساسية الوضع السياسي والاقتصادي خلال الأشهر القليلة القادمة حتى نهاية العام الحالي، التي تترافق مع الانتخابات الأمريكية. ولا يبدو في الأفق حتى الآن أن مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي ينحاز إلى هدف النمو، وهو ما يهدد بأن يكون سقوط الاقتصاد الأمريكي في هوة الانكماش ثمنا فادحا لتخفيض التضخم. فهل يتكرر في انتخابات 2024 ما حدث في انتخابات 2008 ويخسر الرئيس الجالس في البيت الأبيض منصبه بسبب الوضع الاقتصادي؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية