الأدباء ومواجهة الحرب… ما بين الانتصار للإنسانية والنضال بقصيدة!

حجم الخط
0

ترى ما هو دور الأديب في مواجهة آلة الحرب؟ وهل للمثقف بوجه عام دور إيجابي في حالة الحرب؟ وهل يتمكن في كل وقت من قول كلمة الحق في وجه والوقوف في جانب القضايا الإنسانية مواجهاً بذلك سلطة معتدية ومتحملاً تبعات ذلك، خاصة وأن هناك العديد من الأدباء على طول التاريخ كانت أعمالهم منفصلة تماماً عن مواقفهم السياسية والإنسانية، فأعمالهم التي تنتصر للحرية تتناقض وتأييدهم لحاكم طاغية! ذلك على مستوى الأدباء العالميين والعرب على حدٍ سواء. فما الموقف الآن من القضية الفلسطينية وما يدور من إبادة لسكان الأرض المحتلة؟ كل هذه الأسئلة نحاول الإجابة عنها من خلال آراء بعض من الأدباء العرب، والذين بدورهم يكشفون عن مواقف متناقضة، واقعية كانت أم للاستهلاك ..

ليقل حقاً أو ليصمت

يقول الشاعر السوري القس جوزيف إيليا: من المفترض أنّ الأديب وهو صاحب رسالةٍ ساميةٍ حقيقيّةٍ، واعيا فاهما ومدركا لما يحيط به من قضايا، عليه أن لا يصمت حين ينبغي عليه الكلام ولا أن يتعامى عمّا يراه من المظالم والاعتداءات والرّزايا الّتي تلحق بالمستضعفين حوله في الأرض والمضطهَدين الّذين لا يملكون من وسائل التّعبير ما يجعلهم ينقلون صور معاناتهم للعالم. وإنّما عليه أن يجنّد قلمه ليكتب عنهم مدافعا محاميا وراسما وجعهم وطارحا قضاياهم وباحثا عن الطرق الّتي يمكن سلكها للوصول إلى حلّ مشاكلهم ودفع القهر عنهم وتمكينهم من نيل حقوقهم كاملة وكسر قيودهم وإنّ أيّ أديبٍ إن تقاعس وتخاذل عن دوره وأداء واجبه فقد خان رسالته وأساء إلى قلمه وأخرج نفسه من دائرة الإنسانيّة، وما فلسطين الجريحة ببعيدةٍ عنه، فليقل كلمته واضحة صريحة مندّدا بما يصيب شعبها من الأذى من منطلقٍ إنسانيٍّ صرف، بعيدا عن أوحال السّياسة ونجاساتها وعن الأهواء والمشاعر الطّائفيّة البغيضة، فالمظلوم يجب الانتصار له مهما كان عرقه أو دينه أو مذهبه السّياسي. هذا هو الأديب الحقيقيّ الصّادق، وإن لم يكن هكذا فليكسر قلمه وليرحل عنّا مبتعدا، وليخرج مطرودا من ساحة الأدب غير مأسوفٍ عليه ولا على قلمه.

مواجهة إعلام الضلال

ويرى الشاعر المصري سفيان صلاح أن الأدب هو فن التأثير بالكلمة العاقلة الجميلة على الإنسان لصالح الإنسان؛ وبالتالي فالأديب يتمنى ألا تكون الحروب الدموية، وأن تحل كل المشاكل بالعقل والمشاعر الإنسانية، لكن للأسف الصراع والحروب الدموية موجودة منذ الأزل، ولا يظهر ما يدل على أنها ستنتهي. هنا يجب على الأديب أن يكون على وعي بأسباب الصراع في الحرب التي سيدلي فيها برأيه ويبني موقفه على مساندة صاحب الحق ومناصرة القضايا العادلة والإنسانية ضد الظلم والقهر ومحاولات الاحتلال والاستغلال للآخر، وفي بلادنا مثلا زرع الاستخراب لنا مشكلة كبرى هي احتلال أرض فلسطين، التي ساند فيها أوهام اليهود بحق لهم فيها، ليستغلهم لمصالحه في المنطقة، وكان هذا على حساب أهل فلسطين والعرب. وعلينا جميعا أن نعي هذا ونناصر الحق الفلسطيني العربي ونعرّف العالم في كتاباتنا بالحقيقة في هذا الموضوع حتى لا يضلله المحتل الظالم، خاصة إذا كان يملك آلة إعلامية جبارة تقوم بالترويج لضلالاته وتغييب الحقيقة، إن واجبنا كشف أكاذيبه لتكتسب قضيتنا العادلة مناصرة الإنسانية ولا ينكر دور الشعوب وتأثيرها في اتخاذ القرارات السياسية.

الرومانسية الساذجة

ويقول الروائي المصري يوسف وهيب: في مواجهة آلة الحرب، لن أرد قذائف أعدائي أو من يقتلني بقصيدة! رومانسية ما بعدها رومانسية، وتأدبا لن أقول سذاجة؛ حين نتصور نحن الأدباء والكتاب أنه في إمكان القصيدة أو القصة أو حتى المقال المحرّض أن يواجه آلة الحرب! أنا وأنت في هذه الحالة نفترض جدلا أن من جاء مهاجما أو من ينزل عليك من السماوات قنابل فسفورية أو عنقودية، من ذوي الذائقة الأدبية، أو ممن تؤثر فيهم بلاغتنا، وبالتالي سيتراجع أو سترتد القذيفة مستحية إلى مكان بعيد عن الأطفال. باختصار لا تواجه آلة الحرب سوى آلة حرب مماثلة لها إن لم تكن أقوى؛ وهذا قرار وعتاد واستعدادات وتقدير مواقف، لا تملكها سوى الحكومات أو الرؤساء. وبالتالي هذا يقودنا للجزء الثاني من السؤال عن حدود العلاقة بين المبدع والسلطة، لدعم القضايا الإنسانية؛ فالكاتب أو المبدع بحق هو في جلّ نتاجاته مساند وداعم للقضايا الإنسانية والمصيرية، حتى لو لم يهتف سياسيا شجبا أو تنديدا، وعليه هو في الأصل مساند وداعم، دون أدنى علاقة بالسلطة الحاكمة إن سلبا أو إيجابا.

بعيداً عن المواءامات السياسية

ويضيف الأديب المصري حسين منصور .. دائما يقف الأديب في مواجهة آلة الحرب، ليس فقط بمعناها المادي، لكن يقف في مواجهة كل ما كان سببا في إزهاق الأرواح، يقف دائما في مواجهة الاستضعاف والاستعباد، وموقفه واضح في مواجهة قوى التوسع والاحتلال، الذي يهدف دائما لاستغلال ثروات الشعوب ونهبها، فالأدب يدعو إلى عالم أفضل وأسعد وأرحب للجميع. الكلمة هي سلاح الأديب النافذ والباقي على مرّ الزمن، فإن كان الطغيان ينتهي بنهاية حياة الطاغية؛ فالكلمة تبقى ويتم استدعاؤها كلما دعت الحاجة إليها، وهي مصدر إلهام لأجيال عدة تأتي بعد، وتكون الكلمة سلاحا في مواجهة الطغيان بشرط أن تكون صادقة غير مبنية لا على دعاية رخيصة، ولا على اتخاذ جانب واحد على حساب آخر، ولا تفيد الكلمة المجردة إذا لم يعضدها موقف معلن وواضح ومستمر من الأديب. العلاقة بين المبدع والسلطة متوترة دائما، فالسلطة تعمل على ترسيخ الواقع، في حين يأمل الأديب في الأفضل وينشد الحرية دائما، وهو ما تأباه أي سلطة مهما كان زمانها أو مكانها، فالأديب دائما على يسار السلطة، والحدود في العلاقة بين المبدع والسلطة في ما يخص القضايا الوطنية والقومية مغلقة تماما، خاصة في ما يخص القضية الفلسطينية، فالمبدع لا تعنية المواءمات السياسية، ولا توازنات القوى، وهي أمور تعني السلطة في المقام الأول.

ثقافة لقيطة

أما الصحافي المصري أسامة الألفي فيرى أن للأديب دورا تحفيزيا يرفع به المعنويات، فهو ضمير أمته والكلمة سلاحه للتعبير عن قضايا الأمة وآمالها وطموحاتها، وهذه ليست مبالغة فمعظم الثورات والانتفاضات في العالم، بدأت بكلمة أو قصيدة ألقاها مبدع. والعلاقة بين المبدع والسلطة تتغير أشكالها حسب الظروف السياسية في كل بلد، وفي بلداننا العربية المبدع حاضر غائب، فالوضع السياسي في أقطار العروبة قسّم المبدعين إلى ثلاثة أنواع: فهناك مثقف النخبة «الانتلجنسيا» ورغم أن له أفكاره ومشروعاته، إلا أن عجزه عن التعبير عنها، لكونها مخالفة لتوجهات النظم الحاكمة جعله ينكفئ على ذاته، وهناك مبدع «التكنوقراط» وهذا النوع لا تشغله أفكار سياسية أو اجتماعية، ويركز على الإبداع فقط، وهناك «المبدع السلطوي» وهو صاحب الصوت الأعلى باعتباره ربيب السلطة وصنيعتها، تحفزه بالجوائز والمناصب، وتفرضه على المشهد عبر وسائل الإعلام الحكومية، وتحصنه ضد النقد، وبوجود الصنف الأخير، تحول الإبداع والثقافة بعامة إلى لقيط هجين يفرز فكرا مرقطا، وبرزت أسماء لا تستحق البروز على حساب المبدعين الحقيقيين. وللحق فأن مبدعينا لم يتوانوا قط عن مساندة قضايا أمتهم، شجعهم على ذلك أن النظم الحاكمة تتركهم يعبرون عن هذه القضايا، ما داموا لا يناقشون الوضع الداخلي للنظام.

حتى ولو غاب الأدب

أما الروائي العراقي حسين محمد شريف فيقول: للأدب دور مهم داعم لقضايا العدالة والتحرر ونضال الشعوب، وقد مررنا بتجارب الشعراء والكتاب على امتداد القرن العشرين يوم كانت لهم القدرة على تحشيد الجماهير والمضي بطرح مطاليبها. غير أن عصر ما بعد الحداثة فكك تلك القدرات، حيث صار الأدب سلعة تتماشي وقيمة الاستهلاك الذي فرضته الرأسمالية على حياة الشعوب، لذلك نرى التراجع الواضح عند المثقفين الذين إما صمتوا وانعزلوا، أو تماهوا مع السلطة تأمينا لمصالحهم. وليس أدل على ذلك إلا الصمت عند أغلب العرب ممن لهم شأن بالثقافة، إزاء مجازر غزة بعد عمليات طوفان الأقصى. خلافا لما مضى من تاريخ سابق يوم كانت أيديولوجيا اليسار والفكر القومي والتحرر الوطني سمة العصر، الذي برزت فيه المواقف بصوت عال كسميح القاسم ومحمود درويش وأمل دنقل وعبد الوهاب البياتي، فضلا عن كتاب المقال والقصة والرواية والفن التشكيلي. وخلاصة القول إن فكرة دعم الأدب للثورات ولا سيما ثورة شعبنا الفلسطيني هي فكرة حيوية، لكن يتعين أن تتوافر فيها شروط الموقف الثوري، وفهم فلسفة المقاومة، فضلا عن فهم التاريخ والمرحلة. ويبقى نضال الشعوب قائما حتى بغياب الأدب والفن إذا ما أرادت التحرر، فاللغة قد يصيبها الخرس، لكن القلب ينبض بأمل الانتصار.

صوت الإبداع الأقوى

ويرى الشاعر المصري عيد عبد الحليم أن الكلمة تمثل أحد أسلحة الدفاع المعنوي للشعوب المقاومة، ودائما كان الأدباء والمثقفون في طليعة المدافعين عن الحرية وحقوق الإنسان، وكانت كتاباتهم بمثابة حائط صد في مواجهة آلة الحرب الغاشمة. من منا لا يتذكر أدباء فيتنام الذين كانت الكتب في يد والسلاح في اليد الأخرى. من منا ينسى قصائدك بابلو نيرودا المنددة بالحرب والدمار، وداعية إلى احترام إنسانية الإنسان. وهكذا كان صوت المبدعين العرب وقت حصار بيروت عام 1982، وإبداعات نزار قباني ومحمود درويش وحلمي سالم وعبد الكريم كاصد ومحمد شمس الدين وزين العابدين فؤاد وسمير عبد الباقي وفتحية العسال وغيرهم. صوت الإبداع هو الأقوى دائما في مواجهة آلة الحرب.

الحرية أولاً

وفي الأخير يقول الروائي المصري مصطفى البلكي المبدع لا يمكن فصله عن محيطة، فهو جزء من بناء إذا ما حدث فيه أي شيء، أصبح في المدار نفسه، تقع عليه الظروف نفسها، وهذا الأمر يتساوى فيه الجميع، إلا أن المبدع يمتاز بحساسية مفرطة، فهو وحده من يملك خوض معركة خاصة جدا، معركة تعتمد على نشر الحقائق بلا أي محاولة منه لتزييف ما يدور. الكلمة أحد من السيف، فهي في معناها تعني الرجل، وتعني المنطوق الذي يجب أن يكون معبرا بصدق عما يدور داخل الكاتب، وفي الوسط الذي ينتمي إليه، ولا تكون قادرة وذات فائدة من غير الصدق، فإذا ما غاب غابت بمعناها الحقيقي. ولتكون الكلمة ذات فائدة، يجب أن يتوفر لها قدر من الحرية، ومن غيرها لن تستمر، فلو كان الكاتب حرا، ومنفصلا عن رجال الحكم، غرد كما يحب، وكما يريد وهو يعرف الثمن الذي قد يدفعه، هذا التحليق لا يتم إلا من خلال قدرته هو على تحديد مساحات الحرية التي يتحرك فيها، ولدينا أمثلة في حياتنا الثقافية، وفي الصحافة لا يمكننا أن ننسى الكاتب أحمد بهاء الدين الذي أخلص لقضايا العرب، وأخلص لقلمه، وهو يضع مسافة مناسبة بينه وبين الحاكم، وهذه المسافة كانت كفيلة بأن يكون صاحب رأي حر.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية