إسرائيل وعقدة الخوف التلفزيوني الغربي

برّأت هيئة الإشراف على البث الإذاعي والتلفزيوني والرقمي في فرنسا قبل أيام المذيع محمد قاسي من التهم التي وجهتها له الأوساط الصهيونية الفرنسية النافذة بالتحيز ضد إسرائيل أثناء مقابلة أجراها مع المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وكنت يومذاك قد شاهدت المقابلة في البث المباشر لأني مواظب قدر المستطاع على مشاهدة النشرة الإخبارية اليومية التي تبثها قناة «تي. في. 5» الفرنسية العالمية في الخامسة مساء بتوقيت غرينتش. وسبب اهتمام الجمهور الواسع، في إفريقيا خصوصا، بهذه النشرة التي تستغرق 64 دقيقة، وهذا مَأتَى تسميتها «64′ العالم بالفرنسية» هو أنها نشرة دسمة المواد متقنة الإعداد والإنتاج، وغالبا ما تتضمن حوارا مطولا نسبيا مع مؤلف كتاب صادر حديثا في السياسة الدولية أو التاريخ أو الاقتصاد. أي إنها تعزز التناول الإخباري المعهود في النشرات التلفزية بميزة نادرة، تكاد تنعدم في أي نشرة تلفزية أخرى، هي متابعة أحدث الإصدارات التي من شأنها أن تهم الرأي العام العالمي. أما السبب الأعم لمشاهدتي قناة تي. في. 5 فهو أنها أعرق القنوات العالمية الفرنكوفونية، فهي سابقة على عهد الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وهي أقدم من قناة فرانس 24 بحوالي ربع قرن. ووجه الأصالة فيها أنها متنوعة المصادر واسعة الآفاق، فهي لا تبث نشرات وبرامج ووثائقيات وأفلاما من التلفزيون العمومي الفرنسي فحسب، بل وأيضا من التلفزيون العمومي البلجيكي، والسويسري والكندي – الكيبيكي، وتتميز باحتفاء بالغ بالثقافة والفنون.
ومن أهم برامج السياسة وشؤون الساعة في تي. في. 5 برنامج سويسري بعنوان «جيوبوليتيس» يحلل السياسة الدولية بحرص ثابت على العمق وعلى تزويد الجمهور بكل أدوات الفهم، ولكن دون إطالة أو ثرثرة، بل بتركيز وتكثيف لأن مدة البرنامج لا تتجاوز 25 دقيقة. أما أهم برامج الثقافة في القناة فهو «المكتبة الكبرى» الذي يجوز أن نعدّه الوريث الموضوعي لبرنامج برنار بيفو الشهير «أبوستروف» الذي كان قد انطلق عام 1975 واستمر بثه ربع قرن، ولو أن اسمه تغير في الأثناء إلى «حساء ثقافي».

التلفزيونات الغربية تعجز عن مساءلة المتحدثين الإسرائيليين مساءلة صحافية حرة

كانت مقابلة محمد قاسي مع المتحدث العسكري الإسرائيلي تدور حول اقتحام الجنود الإسرائيليين لمستشفى الشفاء. قال له: كل الضروريات منعدمة في المستشفى، ولا بد أن جنودكم سيؤكدون لكم ذلك. هل ستأخذون من هنا فصاعدا خطورة الوضع الإنساني في غزة بعين الاعتبار؟ أجاب المتحدث: هل تحسب أن إسرائيل دولة لا تعرف قواعد الديمقراطية والقانون الدولي؟ نحن جيش دولة ديمقراطية تواجه أبشع فاشية إسلامية أصولية. فسأله المذيع: ولكن هل إن اقتحام مستشفى ينسجم في رأيكم مع احترام القانون الدولي، وخصوصا القانون الإنساني؟ هنا احتدّ المتحدث وسأل المذيع: ولكن حسب رأيك إذا كان المستشفى يُستخدم قاعدةً عسكرية… فقال محمد قاسي: لا، أنا لا أعرب عن وجهة نظري. أنت متحدث باسم الجيش الإسرائيلي سيد أوليفيي رافوفيتز، وأنا صحافي أطرح عليك السؤال. هنا بدأ الإسرائيلي يلعب لعبة النبيل المتحضر يخاطب متحضرا مثله، فقال للمذيع: لقد شاهدتَ ما اقترفته حماس من تقتيل للأطفال وبقْر لبطون النساء… ومضى يعدد الأكاذيب والأباطيل. فقال له المذيع: إذن أنتم تتصرفون مثل حماس؟ هذا ما تريد قوله؟ هنا ضاقت بالإسرائيلي السبل، فلم يجد من حيلة سوى أن يتهم المذيع قائلا: هذا ليس مسلك صحافي بل مسلك شخص له موقف سياسي. أطالبكم سيدي بقليل من الاحترام. هذا تهجم على دولة إسرائيل وجيشها.
ورغم أن «إذن أنتم تتصرفون مثل حماس؟» سؤال قائم على فرضية أن كل أكاذيب إسرائيل صحيحة، أي إنه أضعف الإيمان صحافيا، فهو سؤال «نووي» فتاك لأنه حلّق إلى أعالي ما تسمح به سماء حرية التعبير المنخفضة في القنوات الفرنسية كلما تعلق الأمر بإسرائيل وأنصارها. والنتيجة أن عقدة الخوف المزمن دفعت إدارة التلفزيون إلى إصدار بيان تبرأت فيه من محمد قاسي واتهمته بالإخلال بقواعد العمل الصحافي! وبالطبع، لم يُرَ الرجل على الشاشة لبعض الوقت. ولكن هيئة الإشراف المستقلة قامت أخيرا بتبرئته، حيث أكدت أن المتحدث الإسرائيلي حظي بفرصة التعبير التام عن وجهة نظره وبالتفاعل المناسب مع أقوال الصحافي. والأهم أن الهيئة ذكّرت بأن اختيار الأسئلة التي يطرحها الصحافيون على ضيوفهم هو من صميم الحرية الإعلامية
هذه القصة ما هي إلا مثال واحد على عجز التلفزيونات الغربية عن مساءلة المتحدثين الإسرائيليين مساءلة صحافية حرة.

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية