إرنست همنغواي رسم باريس باحترافية

ثمة حلم ثرثار هارب من عرش الأحلام لفنان بوهيمي غارق في تأمل منحوتة رخامية ارتقى إليها عبر سلم من سحاب.. تجوّل في قصر التماثيل وأعجب بإبداع نحات مغمور، ولمح على وجه التمثال توقيع الزمن، وخيوط غبار رسمتها حبات مطر، وتعلوها سحابة هائمة، وتجتمع حولها آلهة الجمال كأنها حفلة عيد أو وليمة يرقص فيها القمر.. حقاً إنها منحوتة رائعة الجمال! لكنه حلم هارب.
يصف ألكسندر أليوت حال الفنان: «الفنان جائع للحياة في كل أشكالها، من الطعام إلى الأحلام. الفنان يأتي إلى الحياة جائعاً سعيداً مندهشاً. فهو أشبه بذلك المسافر الذي قرع ذات ليلة باب قصر شبحي، وإذا بالباب يفتح وإذا هو يدعى إلى الدخول إلى إيوان كبير تدفئه نار حطب ويتوهج بضوء الشموع، وقد تجمع الضيوف حول المائدة في وليمة رائعة».
تبدو الوليمة الآتية أكثر شهية، أعدها الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي في روايته «باريس وليمة متنقلة» التي كتبت بأسلوب السيرة الذاتية أثناء السنوات المجنونة في زمن العشرينيات، وفي حفلة العيد هذه سنتعرف على جيل ضائع وربيع مختلف، ومكتبة أسطورية، ونمشي على ضفاف نهر، وتنتظرنا مواعيد في مقاهي الزمن الجميل، في مدينة مجنونة وملهمة تسحرنا بجمالها وتجلياتها. إنها الرواية التي رسمت الحياة الثقافية في باريس باحترافية. يرى همنغواي أن الجوع تهذيب للفنان والكاتب، وحين تكون معدته خاوية يسلك طريقا خاليا من المطاعم، وكان يمشي من ساحة المرصد إلى شارع فوجيرار حتى يصل حدائق اللكسمبورغ من دون المرور بالمطاعم، «ويبدو أن اللوحات التي تشاهدها في اللكسمبورغ أكثر وضوحاً وحدّة وجمالا اذا كنت جائعاً». يشاهد لوحات الفنان سيزان ويتساءل هل كان جائعا حين رسم لوحاته؟ ثم يفترض أن سيزان نسي أن يأكل! وأعجبت بخياله: خيّل إليّ أن سيزان كان جائعا بطريقة مختلفة. يمشي همنغواي من لكسمبورغ متجهاً صوب شارع الأوديون حيث مكتبة سيلفيا بيتش «مكتبة شكسبير وشركائه» ويتحدث: في الوقت الذي تصل فيه إلى شارع الأوديون تكون قد تمالكت جوعك لكن بصيرتك أضحت أشد حدة. ستبدو الصور مختلفة وسترى كتبا لم ترها من قبل وستقول سيلفيا: إنك نحيف جدا، يا همنغواي. هل تأكل ما يكفيك؟
فيجيب: طبعاً.
قدمت له مبلغاً من المال مقابل القصص المنشورة في إحدى الصحف وقالت له لا تقلق بشأن ما تدره عليك قصصك الآن. المهم أنك تستطيع كتابتها، ستباع قصصك. انظر، فأنت تحمل في يديك ثمن واحدة.. عدني بأنك سوف لا تقلق وتأكل ما يكفي.
همنغواي: أعدك

لم يفكر همنغواي بأنه فقير، ولم يقتنع بذلك.. كان يعتقد انه أرفع منزلة من الأغنياء، لكن الحياة الباريسية لم تبخل عليه بلحظات ثرية بالمتعة فمطالعة الكتب، ونشر مقالاته في الصحف، وحوار المقاهي مع النقاد والفنانين والأدباء، وأعمال أخرى بثت السرور في أعماق الشاب المرصود للشهرة، ولجائزة نوبل في ما بعد.. ويتذكر بدايته في باريس «كنا نعود دائما إليها مهما كنا وكيفما تغيرت وبأيّ صعوبة أو سهولة نصلها، فباريس تستحق ذلك دائما، فهي تمنحك مقابلا لما تأتي به إليها، لكن هكذا كانت باريس في الأيام الأولى عندما كنا فقراء جداً وسعداء جداً».
وصف بأنه الزبون الأفضل في مكتبة شكسبير، ويتذكر زيارته لأول مرة للمكتبة وشعوره بالخجل لأنه لم يكن يمتلك المال الكافي للاشتراك في المكتبة من أجل استعارة الكتب، لكن سيلفيا أخبرته أنه يستطيع الحصول على الكتب، وأن يدفع المبلغ حينما يتوفر المال. وما صنعته سيلفيا تجاهه جعله يتساءل كيف وثقت به؟ وعنوان سكنه الذي كتبه لها يشير إلى منطقة فقيرة جداً، لكنه يستدرك فيصف سيلفيا بأنها كريمة وبهيجة وجذابة. من يصدق أن هناك مفاجأة تنتظره في مستقبله الأدبي، حيث ستقدم سيلفيا على وصف همنغواي بأنه الأب الشرعي للسرد الحديث، وقد ساعده تردده الدائم على المكتبة بالإضافة إلى سيلفيا بالتعرف إلى الفنانين والأدباء المغتربين أمثال جيمس جويس والآنسة شتاين، وعزرا باوند، وسكوت فتزجيرالد، وسواهم.
يبحث البوھيمي في المدينة الملھمة حيث أكشاك باعة الكتب القديمة والمستعملة لعله يعثر على كتب باللغة الإنكليزية. ويدور حوار جميل بطابع البساطة مع صاحبة كشك بيع الكتب وتسأله هل هذه الكتب ذات نفع؟
أحيانا واحد منها
كيف يستطيع المرء أن يعرف ذلك؟
أستطيع أن أعرف عندما أقرأها
لكن سيبقى الأمر نوعا من المقامرة، وكم من الناس يستطيع قراءة اللغة الإنكليزية؟
كيف تعرفين الكتاب الفرنسي القيم؟
أولا هناك الصور ثم مسألة نوعية الصور ثم هناك التجليد إذا كان الكتاب جيداً فإن صاحبه سيجلده جيداً بشكل لائق، كل الكتب الإنكليزية مجلدة لكنه تجليد سيئ.

يتعرف همنغواي وزوجته هادلي على الأديبة والناقدة الأمريكية جيرترود شتاين وتنشأ بينهما صداقة، وشتاين هي من أطلقت وصف (الجيل الضائع) على همنغواي والشباب الأمريكيين: «جميعكم أنتم الشباب الذين شاركتم في الحرب إنكم جيل ضائع». هؤلاء الشباب ظهروا بعد الحرب العالمية الأولى، وعقب كل حرب يظهر جيل رافض للواقع، والحرب تؤثر على الشباب وتهز أعماقهم وتجعلهم متهورين وهاربين من النظام البورجوازي الذي حاول تقييدهم وصنع منهم جيلا قلقا، وهذا ما حفزهم على البحث عن الحلم الذي قد يغير حياتهم، قدموا إلى المنفى الطوعي.. باريس أجمل منافي العالم.. المدينة الساحرة التي ستحقق رغباتهم، إنها تمثل الحلم الملموس والأسطورة الحية لهؤلاء الشباب، وبقدر شغفهم وتعلقهم بباريس فقد منحتهم حياة حرة. في حوار صحافي نشرته مجلة ( The Paris Review ) عام 1958 أجراه جورج بليمبتون مع همنغواي، وقد سأله عن تجاوبه مع فناني العشرينيات: «لم أحس بتجاوب معهم، وإن كنت لا أستطيع إلا أن أحترمهم فقد كانو تعبيراً – وإن كان فجائياً – عن الأزمة التي عاشوها، وإن كنت أعتز ببعض رسامي تلك الفترة مثل غرية، بيكاسو، براكيو، مونيه، كذلك من كتاب العشرينيات بصفة عامة جيمس جويس وعزرا باوند».. وسأله عن جويس فأجاب: «حينما تجد نفسك صحبة أناس لهم اهتماماتك نفسها فإنكم تتكلمون دائما عن الكتاب الآخرين، وتناقشون أعمالهم، لقد كان جويس كاتباً عظيماً، كان يحب أن ينفرد بتأمل وتفسير الأشياء التي تهزه».
ووصف فصل الربيع: يمكنك أن ترى الربيع وهو يقترب كل يوم حتى تهب ريح دافئة ذات ليلة تجلبه معها فجأة في صباح واحد، وأحيانا يتراجع الربيع أمام الأمطار الباردة الغزيرة حتى ليخيل إليك أنه لن يأتي أبداً وأنك ستخسر فصلاً من حياتك وذلك هو الوقت الحزين لباريس.
يميل همنغواي إلى التأمل بعيداً عن الناس، ويقضي معظم وقته بعيداً عنهم لأنه يرى الالتزام بمقابلتهم يضع حدودا للسعادة، ويستثني القليل منهم الذين لهم طيبة الربيع، حسب وصفه. وللكتابة نصيب كبير من «الوليمة» حيث أعتبر عثوره على عالم جديد في الكتابة في باريس بالكنز،. وعن تجربة الكتابة في مقاهي باريس، فقد راق له اختيار مقهى هادئ ونظيف في سان ميشيل، ويحاول كتابة قصة فيه فيقول: كانت القصة تكتب نفسها، واثناء الكتابة أعجب بفتاة جميلة تجلس إلى طاولة أخرى فتمنى أن يضعها في القصة، ظني أنه لم يفلح بزرعها في القصة.. لكنه استحضر الطقس البارد والعاصف خارج المقهى ليضيفه إلى محتوى قصته.
الرواية رسمت شخصية همنغواي الباحث والمتحدي والمرح والمغامر والمقامر والشجاع… ربما كان همنغواي يتنفس جمالية ذكريات باريس وهو يكتب نهاية حفلته البهيجة وكأنه لا يود أن يودعها.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية